شبكة ذي قار
عـاجـل










يدور سجال سياسي وفكري حول ما إذا كانت فلسطين هي قضية وطنية فلسطينية، أم قضية قومية عربية. ولكل وجهة نظر أسانيدها الفكرية والتاريخية والسياسية والواقعية. فالقائل أن فلسطين هي قضية وطنية فلسطينية ينطلق من معطى أن فلسطين بحدودها الجغرافية هي المجال الجغرافي التي أرادت الحركة الصهيونية إقامة كيان عليه، ليكون وطناً قومياً لليهود، وأن ما صدر عن مؤتمر بازل في سويسراـ 1897/ ووعد بلفور بعد عشرين عاماً هما دليلان على إثبات وجهة النظر هذه.

والدليل الإضافي، أنه عندما بدأت التحضيرات لتنفيذ ذلك المشروع، اتخذت الهجرة اليهودية من أصقاع العالم وجهتها نحو فلسطين، وأن بريطانيا أصرت على أن تكون هي الدولة المنتدبة، كي توفر كل التسهيلات اللوجستية والميدانية والتغطية السياسية الدولية لتنفيذ الدعوة والوعد.

لقد ارتفع عدد اليهود المهاجرين إليها تدرجاً إلى أن أصبحوا كتلة وازنة عشية اعلان كيان الاغتصاب نفسه دولة مستقلة على قسم من أرض فلسطين وحاز على الاعتراف الدول تحت إسم "اسرائيل".

هذه الدولة التي كان وجودها يقتصر على جزء من فلسطين، شنت حرباً عام 1967، نتج عنها وقوع فلسطين بكامل أرضها التاريخية تحت الاحتلال فضلاً عن أراض عربية أخرى ،من مصر وسوريا ولبنان، وحتى هذا التاريخ ما زالت الأراضي العربية التي احتلت عام 67 تخضع لسلطة الاحتلال باستثناء سيناء التي تمارس عليها مصر سيادة منقوصة وفق ما نصت عليه اتفاقيات "كمب دايفيد".

إن القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي والهيئة العامة للأمم المتحدة، لم تؤد إلى إزالة الاحتلال الصهيوني على قاعدة عدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة بل العكس هو الذي حصل، إذ أن الاحتلال الصهيوني مارس سلطته ليس باعتباره دولة قائمة بالاحتلال لا يحق ولا يجوز له تغيير معالم الحياة في الأراضي المحتلة، بل تصرف باعتباره دولة ذات سيادة على الأرض تخضع للقانون "الإسرائيلي" ، وأخرها القانون الخاص بالجولان الذي اتخذ عام 1981 والذي لم يحظ بأي اعتراف دولي على مستوى الدول والهيئات إلى أن جاء القرار الأميركي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

إن هذا إن دل على شيء فإنما يدل بأن الاحتلال الصهيوني لا يقتصر على أرض فلسطين وحسب بل يطال أراض عربية أخرى، بعضها يراد وضعه تحت السيطرة المباشرة ودمجه بالأراضي التي سبق وأقامت الحركة الصهيونية عليها دولتها لأكثر من سبعة عقود، وبعض آخر يراد إدخاله ضمن دائرة الاحتواء السياسي والاقتصادي والأمني والمائي. كما هي الحال في وضع سيناء والضفة الشرقية لنهر الأردن وجنوب لبنان، وفقاً لرؤية شمعون بيريز رئيس وزراء العدو الأسبق والذي طرح إيجاد بيئة اقتصادية تكاملية بين "إسرائيل" والدول العربية وتحت عنوان بناء الشرق الأوسط الجديد.

هذه الخطوات المتدرجة، بيّنت أن المشروع الصهيوني لا يستهدف فلسطين الرقعة الجغرافية وحسب، بل يستهدف الوطن العربي، وأن "إسرائيل" التي أقامت كيانها على أرض فلسطين بداية هي "إسرائيل" الصغرى وأما "إسرائيل" الكبرى فهي التي تمتد من الفرات من النيل.

إذاً، أن "إسرائيل" الصغرى ليست الهدف النهائي للحركة الصهيونية، بل "إسرائيل" الكبرى وهذا يعيدنا إلى الوثيقة التاريخية التي انبثقت عن مؤتمر بانرمان 1907.

يومذاك طلب كامبل بانرمان وكان رئيساً لوزراء بريطانيا إلى خبراء الاقتصاد والسياسة والأمن والاستراتيجية لأن يرفعوا تقريراً تحدد فيه مكامن الخطر على الإمبراطورية البريطانية والدول الاستعمارية في ذلك الزمن. فجاء التقرير بنصه التالي: "على جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه يعيش شعب له من وحدة الأرض والتاريخ والمصالح والدين واللغة كل مقومات التقدم والتوحد والترابط وهنا يكمن الخطر على بريطانيا والدول الأوروبية فيما لو توحد هذا الشعب. واقترن التقرير بتوصية جاء نصها كالتالي: لأجل درء الخطر الكامن في هذه المنطقة، يجب زرع جسم غريب في قلب هذه المنطقة، يكون عدواً لسكان المنطقة وصديقاً لبريطانيا والدول ذات المصالح في هذه المنطقة، ويكون على الجسر البري الذي يربط آسيا بافريقيا وعلى مقربة من قناة السويس الشريان الحيوي لأوروبا والطريق الأقصر إلى المياه الدافئة. بعد التقرير والتوصية دعا بانرمان إلى اجتماع للدول الأوربية التي كانت لها مستعمرات، وطرح عليها التقرير والتوصية وخرج المجتمعون بقرار بتبني التقرير والتوصية.

من هنا، فإنه لم يكن مصادفة أن تتولى بريطانيا الانتداب على فلسطين ولا أن يطلق بلفور وعده بمنح اليهود فلسطين وطناً قومياً لهم. فيومذاك كانت بريطانيا هي الدولة الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية، وبالتالي لعبت دور الراعي والحامي للمشروع الصهيوني، وبعد تبدل معطيات النظام الدولي، انتقل مركزالقرار إلى أميركا التي تمارس نفس الدور الذي مارسته بريطانيا قبل أكثر من قرن من الزمن.

بعد قرن تتقدم أميركا الصفوف لتكمل ما بدأته بريطانيا، فبعد وعد بلفور جاء وعد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ومن ثم ضم الجولان والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليه، وبعد قرن يأتي غارد كوشنير صهر الرئيس الأميركي والذي يرأس فريق العمل الأميركي لتسويق ما تراه أميركا مشروع الحل التسوية، تحت عنوان صفقة القرن .

إن صفقة القرن، تقوم على ضم كل أراضي فلسطين التاريخية وعلى إخراج الفلسطينيين منها عبر "ترانسفير" ومن يبقى لا يكون حائزاً على كافة شروط المواطنة لجهة الحقوق والواجبات وهذا ما نص عليه قانون "يهودية الدولة" باعتبار "إسرائيل" دولة قومية لليهود ليس للذين يخضعون لسيادة قانونها الوضعي وحسب، بل أيضاً لكل يهود العالم، كما تتضمن الصفقة، إسقاط حق العودة لأن من يعمد على ترحيل ما تبقى من أهل فلسطين لن يسمح بعودة من هجر سابقاً، مع الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ومبادلة أراضٍ لأجل ضم الكتل الاستيطانية إلى الكيان الأساسي للدولة وإقامة ما يسمى بفلسطين الجديدة، وهي عبارة عن دولة مسخ لا تتوفر لها أو شروط السيادة ولا المقومات.

هذه الصفقة، التي روج لها أنها ستطرح بعد رمضان يبدو أن إعلانها قد تأجل بسبب التطورات السياسية في الكيان الصهيوني لكن التحضيرات لها جارية بخطى متسارعة، ومن ضمن سياقاتها الدعوة إلى عقد ورشة "السلام من أجل الازدهار" في المنامة عاصمة البحرين في الفترة ما بين 25 و26 حزيران. وكما هو مبين من عنوان هذه الورشة فإنها سوف تركز على الجانب الاقتصادي، وبمعنى آخر أن رعاة الورشة يسعون إلى توفير المستلزمات المالية والاقتصادية للصفقة التي أقل ما يقال فيها بأنها تشكل تصفية للقضية الفلسطينية، باعتبارها تنطوي على فرض السيادة الصهيونية على كل أرض فلسطين وعلى إسقاط الحقوق الوطنية والتاريخية لجماهير فلسطين في أرضهم والتي تدلل كافة الوثائق التاريخية والدبلوماسية حتى يوم كانت بريطانيا تمارس انتدابها، إنما هي فلسطين.

إن عقد هذه الورشة في البحرين وبعد سلسلة من الاتصالات واللقاءات بين مسؤولين صهاينة ومسؤولين عرب ورجال أعمال، هو استحضار لمشروع شمعون بيريز بكل أبعاده السياسية والاقتصادية. وهذا أن قيض له النفاذ فهذا يعني أن "إسرائيل" سوف تصبح مركز الإدارة السياسية والاقتصادية ومركز التحكم الأمني لمنطقة الشرق الأوسط وحوضه العربي بشكل خاص .

من هنا، أن كل المقدمات التي تعود إلى قرن وأكثر، لا تترك مجالاً للشك أو للالتباس، بأن فلسطين لم تكن مستهدفة لذاتها وحسب وأن بدأت خطوات التنفيذ بها، بل المستهدف هو الحوض القومي العربي، وخاصة حوضه المشرقي ووادي النيل، وهذا ليس لكونهما المدى الجغرافي لفلسطين بل أيضاً لكونهما يحتضنان ثروة مائية هائلة.

وأن تتم الدعوى لعقد هذه الورشة والطرف الفلسطيني المعني مباشرة لم يؤخذ رأيه وهو يقاطع ويعارض صفقة القرن بعنوانها السياسي ومضمونها الاقتصادي، فهذا يعني أن رعاة الأمر لم يعد يهمهم الموقف الفلسطيني كما الموقف العربي الرافض للتطبيع مع العدو وتمرير الصفقات السياسية التي تسقط الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني والغير قابلة للتصرف.

إن هذا يؤكد أن الاستهداف الصهيوني – الاستعماري لا يطال فلسطين حسب الجغرافيا والتاريخ والشعب بل يطال أيضاً الأمة العربية، وهذا ثابت في الوثائق الصهيونية والخطط التنفيذية كذلك ثابت بالوثائق الاستعمارية والمشاريع التنفيذية. وعليه، فإذا كانت فلسطين هي حق خاص لشعب فلسطين، فهي أيضاً حق عام للأمة العربية، وهنا تكمن أهمية تلازم الحق الوطني الخاص مع الحق القومي العام.

إن تمسك شعب فلسطين بحقوقه الوطنية الثابتة وعدم التنازل عنها لأي سبب من الأسباب، سيبقى "إسرائيل" دولة احتلال وإن اعترف العالم كله بها. وتمسك الأمة العربية بحقوقها القومية بفلسطين وبما تمثل، يجعل المشروع الصهيوني التوسعي يصطدم بجدار الاعتراض والمقاومة العربية وعلى الأقل الشعبية منها وعندها سيبقى المشروع الصهيوني عاجزاً عن النفاذ إلى العمق العربي سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً. وهنا تكمن أهمية الرفض الفلسطيني لمؤتمر المنامة كما الرفض الشعبي العربي له، وعلى هذا الرفض يؤسس لتطوير الموقف المقاوم بفعالياته النضالية على الأرض وبفعالياته السياسية في الإطارات العربية والدولية.

إن الحق الوطني الخاص في فلسطين والحق القومي العام فيها، هما حقان متلازمان وهذا التلازم يجعل الواحد مصدر شرعية وقوة للآخر، وإن محاولة إسقاط أحدهما لا يسقط الآخر بل يبقيه قائماً. ويبقى القضية حية بكل تفاعلاتها إلى حين تحرير الأرض وإعادة الحقوق إلى أصحابها الطبيعيين والتاريخيين وإنهاء كل أشكال الاستلاب الوطني لفلسطين والقومي للأمة .





الاربعاء ٩ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / حـزيران / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة