شبكة ذي قار
عـاجـل










لا أدري ما إذا كان البعض ، وهو يقارن ويحكم ويستلب النتيجة فجأةً ، ليضعها في قالب الإقرار النهائي ، وكأنها مُسَلّمَة يمكن أن تأخذ مداها الشمولي لتغطي على ما يجاورها من مسلّمات ، حين يطلق عبارته بأن العرب قبل الإسلام لا يعرفون أو لا يجيدون غير صناعة الشعر ، وهم خياليون حالمون ، ووجودهم القبائلي كان مشتتاً ومتناحراً ، وحين جاء الإسلام حوٌل العرب إلى مفكرين وفلاسفة وعلماء في الرياضيات والفلك والاجتماع ، وكأن العرب ليس لديهم حضارة لها عمقها في التاريخ .

تلك هي المفارقة التي ترمي إلى وضع فاصل بين واقع وآخر ، بين عقلية وأخرى ، وبالتالي بين هوية وهوية أخرى ، وكأن واقع الحال لم يكن واحداً تحكمه عناصر واحدة ، في بيئة تحكمها قوانين اجتماعية واحدة ، وهي الانتماء القومي العربي الإسلامي .

إلى ماذا يرمي هذا البعض ؟ ، مَن وضع هذه الصورة التي تسفه العرب وحضارتهم حين يقول أحدهم ( لأن الحضارة التي أضاعت دورها في زحمة التحولات الحضارية الكبرى غير مؤهلة للاستمرار ) ؟!! ، هذا البعض لم يكن موضوعياً ولا منصفاً حيال الحضارة العربية ، التي تواجه أشرس هجوم صليبي شهدته البشرية من قبل .. ثم لماذا لا يدعو الى نهضتها ؟ ، ويعاون في نهوضها من كبوتها ، كما هو شأن العرب والمسلمين الشرفاء !! ..  نعود إلى ما بدأناه .

الإشكالية في هذا المنحى لا يسأل هذا البعض نفسه ، لماذا هبطت الرسالة السماوية على العرب ، من دون الأقوام الأخرى ، إذا لم يكونوا مؤهلين قيمياً وأخلاقياً ، ويعقلون هذه الرسالة ، والرسالات السماوية ، منذ إبراهيم ( عليه السلام ) ، حتى الرسول الكريم محمد بن عبد الله ، صلّى الله تعالى عليه وسلّم  ؟!  ، ففي الوقت الذي يطلق البعض آراءه ، التي يضخم فيها أو لا يعطي الإسلام حقه أو لا يراعي توازناً موضوعياً بين العروبة والإسلام ، يجد طريقه نحو افتراض علاقة يراها هذا البعض المغرض غير عضوية ، على أساس الناسخ والمنسوخ ، بإلغاء الإسلام للعروبة ( الأخوان المسلمين ) .. وتلك  شائنة كبرى يرتكبها هذا البعض لغرضية تعكسها تصرفاتهم وتصريحاتهم وتحريضاتهم ، ولكن الإسلام الحنيف لا يلغي القومية في أي مكان من العالم ، فلم نسمع أن الإسلام قد ألغى قوميات في الوطن العربي ، أو قوميات في آسيا ، وعموم العالم ، بل على العكس ، إن الإسلام هو دين المساواة والحق والعدل والإنصاف ، وليس دين الإلغاء والإقصاء والتكفير والغلو والتدمير . فلماذا يهاجم هذا البعض العرب وهويتهم وعروبتهم ، ويحاولون إلغاء وجودهم ؟!

نعود إلى المعنى من هبوط رسالة الإسلام على أمة العرب من دون الأقوام الأخرى .. لقد كانت في ذلك الزمان السحيق أقواماً وممالك وإمبراطوريات ، لها نظمها ومعايير قيمها وأنظمتها المدنية والعسكرية ، ولها مفكروها ومثقفوها وحكماؤها وفلاسفتها وساستها ، بمعنى أن الحاضنة الثقافية والفكرية والاجتماعية ، كانت موجودة لاستيعاب الرسالات السماوية .. فلماذا لم تهبط عليها في كل الأزمنة وعلى مدى عصور التاريخ ؟  .. أفتش عن إجابات مقنعة وأسباب موجبة ، تجعل من محاربة العرب وهويتهم القومية على امتداد وطنهم الكبير ، مدخلاً يفضح هذا البعض ، الذي يتبؤ بامتياز سُلّمْ الغرضية المقيتة الموغلة في مشروع الهجمة ، التي تتعرض لها القومية العربية والإسلام الحنيف في آن واحد ، فلا القومية العربية وهويتها ، وجوهر مبادئها ، تضخم نفسها على حساب القوميات أو الديانات الأخرى ، فكيف للإسلام الحنيف الذي هبط عليها وأودعها أمانة في عنقها وأجيالها لنشر الإسلام في ربوع العالم ؟ ، ولا الإسلام بنصوصه المقدسة ، وأحكامه يدعو إلى التضخيم ، لا على حساب الديانات ، ولا القوميات الأخرى على وجه البسيطة ، فمن هم هؤلاء الذين يضخمون الإسلام الذي لا يحتاج إلى تضخيم على حساب القومية العربية ، والذين يضخمون القومية العربية التي لا تحتاج إلى تضخيم على حساب الدين الإسلامي الحنيف ؟ ، فالذين يضخمون الإسلام هم الإسلامويون السياسيون .. والذين يضخمون مفهوم القومية العربية هم العنصريون السياسيون .

فمنهم من يقول ( بعدم وجود الأمة العربية ، لا قبل الإسلام ولا بعده ) ، وفي هذا تخريف الجاهل بالأمور ، لأن الأمة تقوم على عناصر ومقومات ، منها اللغة المشتركة ، والتاريخ المشترك ، والأرض والاحساس بالمصير المشترك ، فهل ينفي هذا البعض وجود اللغة العربية ، وتاريخ العرب وحضارتهم ؟! ، إذ يرى هذا البعض أن عدم تحقيق الوحدة العربية جاء نتيجة للممارسات القائمة على إضعاف العامل الرئيس في بناء الأمة ، وهو عامل الوحدة الثقافية ، التي بناها الدين الإسلامي ، وكأن القومية العربية ، التي احتضنت وآمنت ورفعت لواء الإسلام الحنيف ، ونشرته بإيمانها على العالم ، تتنكر للدين وتعاديه وتحاول استئصاله !! .

هذا النوع من التحليل ينحى اتجاهاً مرضياً أو غرضياً ، لأن القومية العربية حاضنة الإسلام ، فاللغة عربية ، والقرآن الكريم عربي ، والرسول العظيم عربي ، ولغة العبادات والمناجات عربية ، فلماذا الإنكار والتضخيم ، ومحاولة التسفيه والاستئصال ؟! .

فحين نقول أن القومية العربية هي شعور متجانس يربط أبناء الأمة بعضهم ببعض على أساس الخصائص المشتركة : اللغة والتاريخ والمصير المشترك ، فضلاً عن بعض السمات الفكرية والثقافية الضاربة في عمق التاريخ ، فهذا يعني أن القومية العربية تمثل ( واقعاً ) اجتماعياً ونفسياً وشعورياً بالانتماء الثقافي ذو الجذور التاريخية .. فيما يمثل الإسلام الحنيف ( عقيدة ) دينية آمن بها العرب ، وكانوا أهلاً لتبنيها مشروعاً حضارياً سامياً .

لقد اختار الله أمة العرب لحمل رسالة الإسلام وفقاً لموجبات عديدة منها رصانة ( العقل ) العربي ، وسلامة لسانهم ، إضافة إلى ما تضمنته منظومة قيمهم العربية ( الشجاعة ، والأمانة ، والشهامة ، والصدق ، والوفاء بالعهود .. الخ ) ، وجاء الإسلام ليجعل للعرب ذكراً بين العالمين .. يقول تعالى في صورة الأنبياء { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ  } .. وكما حافظ العرب على الإسلام ، حفظ الإسلام للعرب لغتهم في القرآن الكريم ، لغة تنزيل ، واستطاع العرب أن يصنعوا بالإسلام حضارة عربية - إسلامية ، يشهد لها العالم . ولم يشهد التاريخ تناحراً بين العرب والإسلام ، سوى محاولات مغرضه ، كان البعض من المدسوسين على العرب والمسلمين ، يروجون تطرفهم بهذه الصورة أو تلك ، فيسيئون إلى العرب والإسلام ، فالعروبة والإسلام لا يجيزان التطرف والتكفير { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ، وليس لتتقاتلوا أو لتكفروا الآخرين أو لتقصونهم وتسفهونهم !! .

والأطروحات ، التي تتفوه بمفردات " الأصل والفرع ، والسابق واللآحق ، والجزء والكل" عند الحديث عن العروبة والإسلام ، هي محض أطروحات جاهلة أو مغرضة ، تتعارض مع طبيعة حياة الأمة العربية (  كواقع ) ، وتتقاطع مع طبيعة عقيدة الأمة (  كحياة ) .. بين الواقع القومي وبين العقيدة الإسلامية السمحاء .

فلماذا إذاً ، التقليل من شأن العرب وقوميتهم العربية ، أو التقليل من شأن الإسلام ؟! ، فالخطر المحدق بـ( الإسلام ) لا يأتي من القومية العربية ، إنما يأتي من الاستعمار والصهيونية والفارسية الصفوية المتعاونة معهما . كما أن الخطر المحدق بـ( العرب ) وهويتهم القومية ، لا يأتي من الإسلام ، إنما يأتي من الاستعمار والصهيونية والفارسية الصفوية المتعاونة معهما ، ومن هذا يتبين أن الخطر الحقيقي أو الرئيس على العرب والإسلام يأتي من هؤلاء الأعداء التاريخيين ، كما أن العرب ليسوا خصماً للإسلام أبداً ، ولا الإسلام خصماً للعرب ، ولا هم عنصريون يؤمنون بالتفوق العرقي المقيت ، ولا هم تعصبيون .. وكذا الأمر ، فأن الإسلام ليس خصماً للعرب ولا هو عنصري أو طائفي أو إقصائي أو تكفيري ، بل يؤمن بالانفتاح على الآخر ، ويؤمن أن العرب امتداد للتوحد الإسلامي ، أي أن الدعوة المحمدية الكريمة قد بدأت من عشيرة الرسول الكريم ، صلّى الله تعالى عليه وسلّم ، وامتدت إلى باقي شعوب الأرض .

القومية العربية لا تحمل بين طيات مفاهيمها عنصرية أو تعصبية ، إنما هي منفتحة على القوميات والأديان ، حيث تعيش بين ظهرانيها قوميات وأديان ارتبطت معها بتعايش سلمي معروف ولحد الوقت الحاضر .. فلا تقاطع ولا تنافر ولا تناحر ، إلا في أذهان ( المتطرفين ) ، الذين يزعمون شمولية مفاهيمهم ، وإطلاقيات تفسيراتهم ، التي لا تعدو أن تكون تنظيرات وتفسيرات غير دقيقة ، وغير عميقة ، تستند على مناهج لا تمت بصله إلى الواقع المعاش بكل تفصيلاته الاجتماعية والنفسية والمستقبلية ، ولكل ذلك أغراضه ودوافعه ومسبباته .

كما لا تعارض بين الخصوصية القومية العربية  والأممية الإسلامية ، فلا يجوز التفكير ، بأن إحداهما تسعى من أجل ( إلغاء ) الأخرى أو ( تذويبها ) ، لأن لا خصوصية بدون أممية ، ولا أممية بدون خصوصية .. هكذا هو شأن العلم القائم بين الخاص والعام ، فكيف يمكن التفريق بين الجسد والروح ؟ .. ذلك البعد الروحي العقيدي ، الذي هو الإسلام ، وبين حقيقة وجود الأمة العربية ، ذلك الوجود الذي لا يستغني عن تلك الروح بأي حال .. كيف يستغني الجسد عن الروح ؟! .

فخصوصية العرب في الإسلام مسألة راسخة ، ترفض منحى ( التذويب ) ، والعكس في هذا المعنى صحيحاً حيال الإسلام العقيدي ، وما مشروع الشرق الأوسط إلا محاولة بائسة لتذويب القومية العربية والإسلام في مشاريع عارية ومكشوفة ، تقودها الامبريالية والصهيونية والفارسية .

فالحضارة لا تنشأ أحادية ، مادية فقط أو روحية فقط ، وإنما لها أبعادها المادية ( وجود الأمة ) ، والروحية ( وجود العقيدة ) ، فهي أبعاد ذات طبيعة جبرية يرتكز عليها وجود الأمة في الزمان والمكان ، ووجود العقيدة شرط لازم للتحول الحضاري للأمة .

فالمشروع الإسلامي ، لا يجوز أن يتحول إلى سياسة محضه ، تصْغٌر الدين وتجعل منه بمصاف الخاص ، الذي يتكلم باسم ( الإنسان ) ، فيما هو عام ، يتكلم باسم الله عز وجل .. لأن أهمية الدين لا تكمن في ( تأطيره ) بالجغرافيا السياسية مهما كان حجمها أو شكلها .. ولأن المشروع الإسلامي ، هو أكبر من السياسة ، فلا ينهض إلا بالمشروع القومي النهضوي العربي ، لا على أنقاضه !! ... قال رسول الله محمد ، صلّى الله تعالى عليه وسلّم ، لأحد أصحابه أرسله في مهمة (( إذا أرادوك أن تمهلهم على حكم الله ، فلا تفعل ، لأنك لا تعرف إنك تصيب فيهم حكم الله ، لكن أمهلهم على نفسك )) !! .

هنالك كم هائل من النقاط ، التي يتأسس عليها المشروع النهضوي القومي العربي الإسلامي ، لأن القومية العربية هي حاضنة الإسلام الحنيف ، والقران الكريم هو حافظ للعروبة في لغتها وقيمها وتاريخها { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }  .. فعقول العرب ، هي التي تحفظ القرآن وتدافع عنه وتصونه عبر العصور ، فلا يجوز مصادرة العقل العربي وتسفيهه أو إقصائه ، إنما مخاطبته للوصول الى قواسم مشتركة ، تنتهي بإعداد مشروع نهضوي عربي إسلامي ، بعيداً عن التطرف والغلو ، يتولى التأسيس على خزين هائل من العمق العربي الإسلامي الحضاري ، للنهوض بالأمة ومجابهة أعدائها التاريخيين وتابعوهم !! .

ثمة عمل كبير يمكن الشروع فيه ، يؤسس المشروع العربي - الإسلامي .. فالبعث لم ينكر الدين ، ودستوره يؤكد على أن حرية الاعتقاد والفكر مقدسة لا يمكن لأي سلطة أن تنتقصها ، وعلينا أن ننتبه إلى أن ثمة تيارات تحتقر العرب والمسلمين تطل برأسها الخبيث من الشرق والغرب ، يتوجب رصدها ، ومواجهتها بوحدة المشروع العربي - الإسلامي ، وقبله ، التصدي لها بوحدة القوى المناضلة والمجاهدة ، والمعيار هو تتمسك بالثوابت الوطنية والقوميـة .. لأن التمسك بالثوابت يعـد منهجــاً أساسيـاً للعمل الوطني والقومي والإسلامي ، ولا سبيـل غيـر ذلك .

إنه تحد كبير وكبير جداً ، على الجميع أن يرقى الى مستواه !! .

تمت ...





الخميس ٢٦ رمضــان ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣٠ / أيــار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق الدكتور أبو الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة