شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يهبط الدين الإسلامي الحنيف على غير العرب ، ولم يختر الله سبحانه وتعالى نبياً من غير العرب ، ولم يختر لغة القرآن الكريم غير اللغة العربية ، فسبحانه قد كرم العرب بحمل رسالة الإسلام إلى العالمين ، ولم يكلف غيرهم من الأقوام الأخرى ، لأسباب تقع في مقدمتها ، نقاء منظومة القيم العربية وصفائها في نياتها وقدراتها على حمل الأمانة الإلهية ، وصلابة وشجاعة وشهامة ، الذين يدافعون عن الدين الإسلامي الحنيف من التشويه والعدوان على مر السنين .

فالأرض العربية هي موطن الأنبياء والمرسلين ، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك ، والشعب العربي هو الحاضنة التي نشرت ودافعت عن الرسالة النبوية والقيم التي تحملها للإنسانية عدلاً وإنصافاً ومساواة وتشريعاً ، جعل بين العروبة كهوية ، وبين الإسلام كمنهج ، متلازمة صارمة من العسير فصلها ، كقاعدة عامة ، لأن " العروبة جسد روحه الإسلام" ، من الصعب أن يعيش الإنسان العربي من دون روح الإسلام ، مهما حاول البعض النيل من العرب ، ومهما حاول البعض الآخر النيل من الإسلام ، إذ لولا العرب لما انتشر الإسلام في ربوع الأرض ، ولما حفظ تراث الإسلام وقيمه ، ولما حفظ القرآن الكريم من التحريف والتشويه طيلة قرون .

لقد اختار الله سبحانه وتعالى الشعب العربي ، ليس لأنه أفضل من شعوب الأرض كقيمة إنسانية ، إنما كان اختياره منصباً على القيم العربية الصافية والصارمة ، بالرغم من عدم المساواة والتمييز ، وانعدام الوحدانية بعبادة الأوثان قبل الدعوة المحمدية ، إلا أن منظومة القيم العربية كانت الحاضنة النظيفة ، التي جعلت الإسلام ، ينمو ويترعرع ويكبر وينضج ويتسع لكل عقول وقلوب البشر ، حيث تتجلى هذه القيم بالصدق في قول الحق ، والأمانة في التمسك بالعهود ، والشجاعة في الدفاع عن الأرض والعرض والقيم ، والشهامة في نصرة المظلومين والضعفاء في الأرض ، والكرم الذي يرتبط بالنبل والخير والاقتدار .

هذه القيم لم تتوفر في شعوب أخرى ، في زمن كان فيه العالم يأكل بعضه بعضاً ، ولا يأتمن الإنسان أخيه الإنسان ، والعهود تنقض قبل أن يجف حبرها ، والحروب تشن وليس لها من حدود إنسانية أو أخلاقية . وحين جاء الإسلام في حاضنته " الأمة العربية " ، وضع الحدود في مسائل الحرب والسلام ، ورعى الكبير والصغير من الشيوخ والأطفال والنساء ، ورعى حقوق الأسير وحقوق الإنسان وكرس المساواة والعدل بين البشر ، ولم يبخل حقوق الشعوب في مالها وعرضها وكرامتها .

ومن هذه الزاوية كان الترابط قوياً ، فكيف يمكن الفصل بين العروبة والإسلام ؟ ، وكيف يمكن الطعن بالعرب أو بالعروبة لنصرة الإسلام ، أو الطعن بالإسلام لنصرة العرب والعروبة ؟ ، ومن يتحمل مسؤولية التحامل فكراً وعملاً على العروبة في منهجها ( الوحدوي ) ؟ ، اتهامات وتحاملات ظهرت قبل الحادي عشر من أيلول – سبتمبر عام / 2001 ، بالرغم من استمرار مثل هذه التحاملات بعد ذلك ، ولكن ليس بصورتها التي تترافق وتتساوق مع منهج الاحتراب الطائفي ، ودوافع الاحتلال الأجنبي .

فالبعض بعد الاحتلال أخذ يكيل الاتهامات جزافاً للعرب والعروبة ، ويحاول بكل مناسبة ، تسفيه القومية العربية ، وتهميش هويتها ، وإجهاض جهود النخب العربية المثقفة باتهامات باطلة تستهدف من يدافع عن الوجود والقيم العربية ، ويتفوه هذا البعض في اتهاماته ومغالطاته متسائلاً : ماذا فعلت القومية العربية ؟ .. وماذا فعل النظام العربي الرسمي حيال قضايا الأمة ؟ ، فيما يضيف آخرون ، إن القومية العربية قد ماتت ، وأن مشروعها لم يعد له وجود ، وأن القومية العربية ممثلة بنظمها السياسية قد ضغطت طوال عقود من السنين على الأديان والأعراق وحرمتها من حقوقها ، والآن استيقظت هذه الأديان والأعراق لتأخذ مساحتها وتملئ فراغ الفشل الذي منيت به القومية العربية ، التي عجزت ، حسب زعمهم ، عن نصرة قضايا الأمة !! ، وكأن القومية العربية هي مجرد نظم وسياسات ، وليست انتماءاً وجودياً وهوية قومية . هذا البعض ، لا يتهم العروبة والقومية العربية بمنطق الإسلام الحنيف ، إنما بمنطق مدسوس ومحرف ومغرض ، يتبعه الصفويون من الفرس في تخريبهم الإسلام من الداخل ، ومحاربتهم القومية العربية بمنهجهم الصفوي هذا يحاولون الفصل بين العروبة والإسلام ، أما البعض الآخر ، فيرى في منهج الآخر إيغالاً في التطرف والقفز فوق حقائق ما هو قائم ، ومحاولة للفصل بين العروبة والإسلام ، بدق إسفين فاضح يشوه الصلة العضوية بينهما ، ويأخذ بهذا المنهج ( الأخوان المسلمين ) !! .

أين الحقيقة في هذا التداخل ؟ ، وما هي حقيقة الاتهامات والتهويلات التي يكيلها هذا البعض للبعض الآخر ؟! ، ومن أجل الإجابة ، لابد من التنويه الى أسلوب التضخيم الذي يصاحب أسلوب هؤلاء في مماحكات يتبارى فيه الطرفان المعنيان بأمور السياسة ، وبأمور الدين ، فالعروبة ، كما أسلفنا ، هي الواقع القومي الذي نعيشه ونتحسس به فكراً وانتماءاً ولا مجال لتضخيمه على حساب الدين الإسلامي الحنيف ، ولا مجال لتضخيم دور الإسلام على حساب العروبة والقومية العربية . والتضخيم من هذا القبيل ناجم إما عن المبالغة في الشعور بالانتماء القومي أو المبالغة بالشعور بالإيمان الديني العقيدي - ولا أقصد في هذا الصفويين ، لأن معتقد هؤلاء هو معتقد مجوسي لا ينم عن أي انتماء الى الدين الإسلامي - .

والمبالغة هي في جوهرها نوعاً من ( التطرف ) ، والتطرف هو بذاته استباق لحدود الواقع المعاش ، وتجاوز لحقائقه الموضوعية ، وأدوات التطرف هي ، في كل الأحوال ، أدوات سياسية يستخدمها السياسيون والدينيون على السواء في عالم أساس ساحته تحتكم إلى معادلات النصر والهزيمة ، الربح والخسارة ، الاحتلال والمقاومة الوطنية ، وساحة هذا الواقع يتصارع فيها فرقاء سياسيون كثر ، بغض النظر عن منطلقات هذا الفريق أو ذاك .

أين يتوقف الدين ، لتبدأ السياسة ، وهل من حدود ؟

تبرز الإشكالية في شكل سياسات ، رجل السياسة يصدر سياسات فقهية ، ورجل الدين يصدر سياسات مصحوبة بنصوص الفقه الديني ، ونرى في هذا فقهاً دينياً بلبوس السياسة ، وفقهاً بلبوس المنهج السياسي ، يعمل على ساحة تعددية وتنوع ، إثني وعرقي ، تطرح رؤاها في صيغ مختلفة متمثلة بصيغ ( المطلقات ) و( النسبيات المطلقة ) و( النسبيات ) المجردة ، وكلها نراها إشكاليات يتوجب حل معضلاتها التي تتوزع في منحيين :

أحدهما رئيسي يحمل " القداسة " لا يجب الخوض فيه لدواعي ظروف الصراع المصيري مع المحتل الأجنبي ، والآخر غير رئيسي يحمل " السياسة " يمكن الخوض فيه والاتفاق على منهج ثوابته الوطنية ، ولا أظن أن أحداً يخالف تلك الثوابت بأي حال ، وإن مفردات الاختلافات على الساحة ، كما يروج لها المتدخلون عسكرياً وسياسياً وأمنياً ( الأمريكيون والبريطانيون والإسرائيليون والإيرانيون ) ، هي في صيغة فكر متناقض وغايات متباينة ومذاهب متعددة : بين سني وشيعي ، ظاهري وباطني ، سلفي وصوفي ، متطرف ومعتدل .

والتساؤل في هذا المعنى ، هل يمكن التوقف عند الجوهر( الواقعي ) الموجود في الدين إلى جانب الجوهر ( الأخلاقي ) الملازم له ، لصياغة منهج وطني عقلاني متوازن يرفض تضخيم الجانب الشكلي في التمذهب الديني ومظاهره ، التي تفتقر إلى الصحيح من النصوص الموثقة ذات القدسية التي لا إجتهاد فيها ؟ .

إن تضخيم المظاهر الدينية هي ( شكل ) ، فيما يكون جوهر الدين هو ( المضمون ) ، الذي يعول عليه ، ليس في صيغته الإطلاقية ، لأن المطلق في المضمون يجعل كل من حوله نسبياً أو عدماً ، فيغلق باب الحوار ، ويسد جسور التفاهم ، ويلغي التواصل ، ويزعزع الثقافة ، وينفي الاعتراف بالقواسم المشتركة !! .

فالشيء المهم في أي عقيدة ، سياسية كانت أم دينية مذهبية هو ( الأخلاق ) ، كما يقول " هيغل وفولتير " ، لأن الجوهر الأخلاقي في الدين يدعو إلى الصدق والنزاهة والعدل واحترام الآخر ، فإذا تعزز هذا الجوهر أو اتخذ جانباً مهماً من المدركات ، فإن الحوار والتفهم يكون يسيراً للوصول إلى الأهداف المشتركة .

بيد أن المعروف في كل الديانات والمذاهب ، متعصبين يؤلبون على التطرف وإسقاط الآخر باسم الدين وتفسير نصوصه بصورة تضخيمية باسم الاجتهاد ، الأمر الذي يتوجب على رجل الدين الدعوة إلى التآلف والتسامح ، وإن اختلاف الآراء أو الاختلاف في التفسيرات والتأويلات بشأن ( السياسة ) ، يخضع لشروط الواقع الموضوعي ، التي هي السياسة في كل مدخلاتها ومخرجاتها ، لأن ساحة عمل الدولة ، أي دولة ، في الأساس ، هي ساحة سياسية لا غير ، وإن النظم السياسية الدنيوية ، هي التي تشرع القوانين الوضعية ، التي يتوجب أن تحقق الأمن والعدل ، وهي قوانين قابلة ( للتغيير والمراجعة والإلغاء ) لأنها من صنع الإنسان ، وتستند إلى قاعدة العرف العام والاسترشاد بالشرائع السماوية عند صياغة تلك القوانين ، فيما تكون النصوص الدينية مقدسة ، لا اجتهاد فيها ، نصوص غير قابلة ( للتغيير والمراجعة أو الإلغاء) ، لأنها ليست من صنع الإنسان ، وعليه فليس بوسع السياسي ( تكييفها ) على وفق متغيرات السياسة ، ومتطلبات التغيير والتطور في العلاقات الدولية والإقليمية التي لها تحولاتها كلما فرضت الشروط الموضوعية ذاتها على حركة الدول تبعاً لأهدافها ومصالحها التي تتطلب الأخذ والعطاء والتنازل وربما الذهاب الى منتصف الطريق .

هذه المرونة في نصوص ( السياسة ) ، يصعب وجودها في نصوص ( الدين ) ، أي دين ، فالذي يخوض مجالات الفقه الديني عليه أن يتدارك واقع التداخل بين الدين ( كجوهر ) وبين السياسة ( كواقع ) ، ويتجنب التيه في المجردات الميتافيزيقيا ، أما الذي يخوض في مسالك السياسة وبواطنها وخباياها ، فعليه أن يتجنب الانغماس في الماديات الدنيوية المحضه والنسبيات المطلقة ، ويتوقف عند حدود النصوص القائمة على ( القدسية ) والعمل على الأخذ بروح تشريعاتها القانونية في بعدها الاجتماعي لتحقيق الأمن والعدالة الاجتماعية للجميع ، إنها قد تكون معادلة صعبة تشترط أن يتوجه الفقيه الى الإنسان والمجتمع ليخاطب الإنساني فيه بالإرشاد والنصح والعلم والموعظة الحسنة ، ويترك القوانين الوضعية ومجالها في التطبيق للسياسي ، الذي يعمل في إطار من ( الشورى ) ، وإن حدود الاجتهاد ليست تكفيراً للأخر ، وإنه ليس في النص ، الذي لا اجتهاد فيه ، ما يجعل التطبيق شيئاً مطلقاً تماماً !! .

إن استبداد أي فريق سلطوي ، يظهر حين يتوافق مع أصولية دينية متعصبة ، مثل حكومة الاحتلال في بغداد ، التي تجمع في تشكيلاتها الأصولية المذهبية الطائفية والفئوية والعرقية ، وكذلك الأصولية الدينية المتعصبة كتشكيلة الإدارة الأمريكية المستبدة ، التي تجمع بين الأصولية المسيحية والأصولية اليهودية ، التي لا تمنح المجتمع الأمريكي حرية الرأي والمعتقد وتحرمه من ديمقراطية حقيقية يمارس فيها المجتمع حريته ، في ضوء مصالحه وأمنه ومستقبله ، وتلك حقيقة معروفة تتجسد تجاربها في العراق ، والولايات المتحدة ، والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة .

لقد كان الصحابة الأجلاء يسألون النبي العربي العظيم محمد عليه الصلاة والسلام ، حين يتحدث عن أمور الحرب : أهو الوحي يارسول الله ، أم المكيدة والحرب ؟ ، والتساؤل هذا يؤكد ما كان سائداً من تمييز بين الحكم الإلهي ، والشأن البشري ، بين الدين والسياسة ، بين العقيدة الدينية ومنطق السياسة القابلة للتغيير والتراجع والمراجعة .

والتساؤل في هذا المنحى ، هل يستطيع الفقيه ورجل الدين أن يتحرر من المطلقات والحتميات ويكف عن فعل السياسة ؟ .. وهل يستطيع رجل السياسة أن يتحرر من النسبيات المطلقة في تصريف شؤون الدولة ؟! ، لأن المطلقات الدينية في نصوصها المقدسة لا اجتهاد فيها ولا تراجع ، والنسبيات السياسية في قوانينها ومتغيراتها ، فيها اجتهادات وتراجعات وتغييرات .. فكيف يستقيم المطلق في تسيير شؤون السياسة على مستوى الدولة في علاقاتها مع العالم ؟! .





السبت ٢١ رمضــان ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / أيــار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق الدكتور أبو الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة