شبكة ذي قار
عـاجـل










تنشأ الأحزاب والحركات السياسية للدفاع عن مشاريع ورؤى وأهداف سياسية تعمل لتحقيقها، وتسعى تلك الأحزاب عادة لتعديل الكفة ولجم السلطة والدفاع عن الجماهير بأعلى قدر. وتعرف مسيرة الأحزاب هبوطا وصعودا وتتعرض لتحرشات واعتداءات سيما من طرف السلطة قد تصل لحل الأحزاب ومنعها من النشاط العلني ومضايقة كوادرها البشرية وسجن رموزها أو اغتيال عدد منها.

لكن، وبمراجعة لتاريخ الأحزاب السياسية منذ ظهورها على الصعيد الإنساني، ستطالعنا حقيقة ساطعة وستبرز لنا سابقة لافتة تمثلت في تعرّض حزب بعينه لعدوان كوني وخصّه بقوانين الاجتثاث والحظر والملاحقة، وهو ما كان مع حزب البعث العربي الاشتراكي حصرا ونظامه الوطني في العراق.

لم يعد خافيا على أحد في العالم أن وأد التجربة القومية العربية واقتلاع الفكر القومي من جذوره كان من أهم أهداف مخطط غزو العراق وأولوياته رغم كل التبريرات الأمريكية والادعاءات الغربية لشرعنة الجريمة الامبريالية الكبرى التي ارتكبت بحق العراق أرضا وشعبا ونظاما وجيشا. فلا شيء يفسر على الإطلاق الإصرار على التنكيل بالبعثيين بشكل همجي ومتخلف، سوى النية المبيّتة مسبقا لضرورة اجتثاث البعث وفكره ومشروعه السياسي والقومي والحضاري الإنساني، ولا شيء يدل على ذلك أكثر من الرسالات الرَّمزيّة التي حملتها أولى لحظات دخول الغزاة لبغداد، حيث لا يزال مشهد تجريف قبر مؤسس البعث الأستاذ أحمد ميشيل عفلق ونبشه عالقا بالأذهان وغيره من المشاهد المخزية التي تنم على حقد دفين على البعث وفكره ورسالته ورجاله، وكما يبرهن تزامن سن قرار اجتثاث البعث وحل الجيش العراقي الباسل كأول قرارات المجرم بول بريمر على ما أفردت الأجهزة الأمريكية المجرمة به البعث من شرور ومكائد تصفوية ومؤامرات ومخططات إفنائه وإنهائه وترويع من يفكر مستقبلا في الانتساب إليه أو تبني رؤاه والترويج لها.

وإن كل ما تقدم، تفسره بجلاء كبير الهيستيريا الأمريكية في تعاملها مع البعث منذ احتلال العراق وإلى اليوم، فقتلت الجيوش الأمريكية مئات الآلاف من البعثيين وعوائلهم علاوة على ما أنفقته من مليارات الدولارات لتشويه صورة البعث ومناضليه إعلاميا باعتماد التلفيق والتلبيس والتزوير، ثم لجأت فيما بعد لإيران العدو اللدود للعراق وللبعث وسلمتها زمام الأمور في بغداد فأكملت مشروع تقتيل العراقيين وخاصة البعثيين وأوعزت لكمشة عملائها وميليشياتها محاصرة البعث وحظره وممارسة أعتى الجرائم الإرهابية ضد كل من يعلن ولاءه للبعث أو يروج له وغير ذلك.

إلا أن سؤالا مهما يفرض نفسه بإلحاح: لماذا لم ينجح قانون اجتثاث البعث وكيف استعصى ذلك على أعتى القوى العالمية فهزمت مجتمعة في مواجهة حزب محاصر ملاحق ومٌشَيْطَن شيطنة لا مثيل لها؟
في الحقيقة، إن الإجابة عن هذا السؤال سهلة جدا، بل أسهل مما يتوقع الكثيرون.

لم يجتث البعث لأنه حزب المواجهات الكبرى والمنازلات العظمى، وهكذا كان منذ يوم تأسيسه، وكذا اختار لنفسه قدره وطريقه.

ولم يجتث البعث لأنه ليس حزبا سياسيا تقليديا عاديا يٌخْضِعٌ مسيرته لقوانين الربح والخسارة، بل هو حزب قومي عربي ثوري انقلابي تحرري رسالي إنساني.

ولم يجتث البعث لأنه جاء من رحم معاناة الأمة العربية وآلامها، فكان معبّرا عن حاجتها للتغيير والتحرير وموذنا بطريق خلاصها ولو طال الأمد، وهذا ما أسقطه المجتثون من حساباتهم ففشل سعيهم وخاب عزمهم.

ولم يجتث البعث لأنه رافع لواء العروبة والإسلام معا، والمنافح عنهما، المكافح في سبيل إعلاء مكانتهما وكلمتهما، ولذلك لم يقعده استشهاد 170 ألف رجل من مناضليه خلال الغزو فقط، فإذا بدمائهم تعمد طريق الأمة لذرى مجدها وثباتها، حيث من رحم الألم يتجدد الأمل، ومن سواد الليل ينبثق الفجر.

ولم يجتث البعث لإيمان رجالاته ومناضليه بربهم وبأمتهم، وبضرورة نصر الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، ولقناعتهم أن العدوان الكوني على الحزب والعراق والأمة إنما هو عمل شيطاني شرير مجرم آثم، ولكنه خائب فاشل لا محالة لأن التاريخ لم يسجل للأشرار والطغاة نصرا، بل خلد مآثر فرسان الدفاع عن الحق وخلد ملاحم الصابرين المرابطين الذين لا يشغلهم شاغل عن صد البغاة.

ولم يجتث البعث لأنه في ضمير كل عربي حر شريف، وهو ما سيمده بطاقة هائلة وقدرة فائقة على التجدد والانبعاث والثبات والصمود بوجه المحن والأعداء.

يستحيل اجتثاث البعث، لأنه بصمة العروبة الخالدة بقيمها وفضائلها وفكرها وتراثها وحضاراتها التي صقلها الإسلام وبراها كأحسن ما تكون، وبلغتها الحية المتجددة العصية عن محاولات الطمس والإفناء.
ويستحيل اجتثاث البعث لأنه حركة عقائدية متصالحة مع محيطها ومنشئها، لا تنقاد لحركة الزمن بل تقودها وتطوعها وتصقلها كما ترى.

ويستحيل اجتثاث البعث لارتكازه على فكر نير، ولانطلاقته من الإنسان وانتهائه إلى الإنسان.

ويستحيل اجتثاث البعث لحكمة قيادته وخبرتها وإلمامها الدقيق بالمتغيرات كافة، ولنظرتها الاستشرافية الثاقبة، ولثباتها على الانقياد غير المشروط للمصلحة العربية الاستراتيجية العليا في جميع الظروف، ولما تتمتع به من فراسة وجهوزية ومقدرة على استقراء ما يكيده الكائدون، ولما لها من مخزون إيماني ورصيد من الصبر والتحمل لا يخطران على بال.

ويستحيل اجتثاث البعث لتشبث فرسانه ورجاله بعقيدته وخطه النضالي العام، ولانضباطهم للقيادة ولتفاعلها الخلاق معهم.
ويستحيل اجتثاث البعث لأنه معمد بدماء خيرة الشهداء.
ويستحيل اجتثاث البعث لاستحالة اجتثاث العروبة والإسلام.





الخميس ١٩ رمضــان ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / أيــار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة