شبكة ذي قار
عـاجـل










إن عالمنا اليوم يعاني من إشكالية فكرية إنسانية شاملة، يدور الصراع الفكري حولها، وهي كيف يمكننا التأسيس لعالم تسوده القيم الإنسانية العليا. وقد اعتنت معظم المناهج الفلسفية والدينية على مر التاريخ بمعالجة هذه المسألة، ولعلَّ أبرزها :

- أفكار جمهورية إفلاطون، التي اعتبرت جميع البشر متساوين بالمقدرة العقلية، فقد صوَّرت أن البشرية قادرة على بناء علاقات على قواعد المثل العليا.

- وأهداف الأديان السماوية التي حثَّت على بناء دولة دينية تحكم بما تحسبه أوامر إلهية؛ تلك الدولة التي تسود فيها العدالة بمجرد التزام المؤمنين بتطبيق تلك الأوامر. ولكن كثرة الأديان فشلت بتطبيقها، لا بل أدَّت كثرتها إلى الصراع فيما بينها، فانتشرت الحروب الدينية وساد الرعب بين أبناء البشر.

- وأخيراً النظرية الماركسية التي آمنت بسيادة النظام الشيوعي في العالم على طريق تطبيق المبادئ الاشتراكية، وصولاً إلى مجتمع تتكامل فيه جهود البشر في بناء مجتمع مثالي يسوده السلام وتنتهي فيه الصراعات بينهم.

لكل ذلك تساوت تعاليم من قمنا بذكره بإسباغ صفة إنسانية عالمية على أهدافها، ولم تخص مجتمعاً من دون غيره خاصة أن لكل مجتمع خصوصيات ليست موجودة في مجتمع آخر، بل اعتبرت دعوتها صالحة للتطبيق في كل المجتمعات. ولو اقتصر الأمر على الحث على تطبيق أهدافها وحصرتها في القيم على المستوى النظري كالعدالة والمساواة، ونزعة الجنس وبناء العائلة وضمان مصدر الكفاية المادية، لما كان بينها تعارض أو تناقض، لأن القيم العليا والحاجات المعيشية عند كل إنسان، واحدة وذات صفة إنسانية شمولية، وهذا بحد ذاته لا يحتمل التباساً أو اختلافاً. فكيف رأت الأديان السماوية، كدعوة أممية، وكذلك الماركسية، طرق ووسائل الوصول إلى تطبيق دعواتها ؟


1 - رؤية الأديان السماوية :
إذا أخضعنا جمهورية إفلاطون لمقاييس ثنائية الواقعية والمثالية، لوجدنا أنها الأصعب على التطبيق. ولذلك، وعلى الرغم من أن المثل العليا تبقى حلماً سعيداً لكل البشر، ظلَّت في برجها العاجي ولم تكن صالحة للتطبيق قبل بناء الإنسان المثالي.

أما التيارات الدينية بنزعتها الأممية فقد اتَّخذت من ظروف نزول الأديان ومكانها أنموذجاً صالحاً لتطبيقه في المجتمعات الأخرى، وقفزت فوق المجتمعات القومية وما دون القومية، وتصدت لبناء نظريتها من فوق، وهذا مخالف لأدنى شروط التطور الإنساني.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نشأت الإشكالية الكبرى منذ بدأت تلك الدعوات أنها أخذت تنحو باتجاه بناء مجتمع عالمي تقوده دولة ذات صبغة دينية سياسية على أن تكون مرتبطة أيديولوجياً بها. ومن هذه الزاوية نشأت مجموعة من الإشكاليات والعوائق، ولعلَّ من أهمها أن الأديان السماوية غرقت في بحور من الصراعات الداخلية بين مذاهبها، وكذلك في الصراعات الخارجية ضد غيرها من الأديان. فكانت النتائج إغراق المجتمعات بمزيد من الحروب، وهذا بحد ذاته يُعتبر فشلاً ذريعاً لها. وهي تتساوى بالفشل على حد سواء.

إن الأديان السماوية بأهدافها الشمولية حضَّت على تطبيق عقائدها وعدَّتها بمثابة أوامر إلهية تعمل على تكفير من لا يؤمن بها. وتحسب تلك الأديان أن الله أرسل للبشرية مجموعة من الأنبياء والرسل، لكي يبنوا دولة الله على الأرض. ولأن تلك الدعوات حصرت الإيمان بالله بنفسها، وكفَّرت الأديان الأخرى، فقد شكَّلت مصدراً لصراعات الآلهة، وفرَّقت أكثر مما جمعت. وعلى مر التاريخ، وبإخضاع مشاريعها الإلهية للتجربة، فقد تهافتت تلك المشاريع وأثبتت فشلها.

2 - رؤية الفلسفة الماركسية :
وأما الماركسية، فقد دعت إلى قيام مجتمع شيوعي عالمي، بعد التمهيد بمرحلة الاشتراكية لمشروعها الشيوعي. والمرحلة الشيوعية تنقل، من منظار ماركسي، البشرية قاطبة إلى أهم أحلامها حيث يسود مجتمع شبيه بالمجتمع الأفلاطوني، وفيه يمارس كل فرد وظيفته على قاعدة : ( من كل حسب مقدرته، ولكل حسب حاجته )، فقد سجَّلت حلماً خضع للتطبيق منذ أواسط القرن العشرين ولكنَّه تهافت في مرحلته الاشتراكية، عندما خضع للتجربة السياسية.

3 - نظرة نقدية للمشاريع الأممية :
مع إيماننا بأن القيم العليا مطلب إنساني شامل حقاً، وهي قيم لا يجوز نكران فضلها في بناء مجتمع عالمي سعيد، نعتبر هذا شيء وفشل وسائل التيارات الأممية في ترجمة أفكارها إلى واقع شيء آخر. بعد أن خضعت الأفكار الأممية للتجربة، وفشلت بتطبيق ما دعت لأجله، يمكننا التساؤل عن الوسائل الأكثر واقعية للوصول إلى هدف بناء مجتمع أممي تربط أفراده وجماعاته علاقات ترقى إلى مستوى رقي المثل العليا :

- هل يبدأ التغيير في البنى الفوقية التي تقود المجتمعات، أم من البنى التحتية لأفراد تلك المجتمعات؟

- وإذا كانت نظم القيم الإنسانية تنشد تأسيس نظام عالمي تتساوى فيه المجتمعات بالحقوق والواجبات، فهل نبدأ بتغيير هذا النظام من رأس المجتمع الدولي، أم نبدأه من المجتمعات التحتية لذلك النظام؟
وعن ذلك، بات عالمنا، بمفاهيمه الحديثة، التوَّاق إلى تطبيق أنظومة سياسية تساوي بين البشر، في عالم انتشرت فيه عوامل صراع الحضارات بديلاً للحوار بينها، وفيه تغلَّبت أيضاً أهواء السياسيين، كموظفين عند الاقتصاديين، على كل نزعات الخير التي تدعو لها أفكار القيم العليا؛ بات عالمنا هذا أسير تلك النزعات وعبداً لها. وإذا كانت حياة الإنسان قصيرة تدفعه إلى اختيار أقرب الحلول، وليس بالضرورة أنجعها فإنما كي يستفيد قدر الإمكان مما تتيحه الحياة الدنيا من منافع، ولكن على أن تكون أكثر قرباً من تقديم حلول لإنسان يريد أن يتمتع بخيرات الدنيا قبل أن يغادرها بفعل الموت.

إن القاعدة هي أن تسود مبادئ العدالة والمساواة، خاصة أنها ما زالت تشكل حلماً للإنسان منذ بداية التكوين، بفارق واحد هو بعمق الفكرة أو بسطحيتها، عمقها عند أكثر البشر تجربة وثقافة في المجتمعات المعاصرة؛ وسطحيتها عند أكثر البشر تخلفاً عقلياً وثقافة بدأت منذ بداية التكوين، وما تزال ماثلة في بعض المجتمعات المعاصرة.

ولأن عمق الفكرة أو سطحيتها تتلازم مع أهدافها، فقد تساوت أهداف الحياة بما يعنيه شروط استمراريتها، عند كل البشر في شتى العصور وعلى مختلف مستويات التطور أو التخلف. فمن أولى شروط استمرارية الحياة، يتمثل بالهدف الغريزي أولاً، الجوع والجنس، وهو الحصول على ما يُشبع غريزة الجوع، ويتخلص من غريزة الخوف ليعيش مملوء المعدة، وأن ينام ملء جفونه بعد أن يقضي على كل ما يشكل مصدراً للخوف. وبين هذه أو تلك تأتي غريزة الجنس كعامل وحيد لمنع انقراض الحياة البشرية، هذا على الرغم من أن الغريزتين يتساوى بها كل ما يتميز بقوة الحياة، من بشر وحيوان ونبات.

وعن غريزة الجوع، جاء مبدأ ينص على أن ( الاقتصاد ) بالمعنى الاجتماعي المتطور الواعي هو محرك التاريخ، أو ( لقمة العيش ) بالمعنى الغريزي الفردي المتخلف هو محرك الحياة؛ وإن الأمر هو بالفعل كذلك، لأن الإنسان، متطوراً أكان أم كان متخلفاً، بمعنى الإدراك والوعي، لا تعني له الحياة شيئاً إذا لم يجد مصدراً لطعام يملأ معدته لتنتج له عنصر الطعام الذي بغيابه لن تستمر حياته.

إنه باستثناء الأم، حيواناً أكانت أم بشراً، متخلفة كانت، أم كانت متطورة، التي تقتسم لقمة العيش مع أولادها، وأحياناً تطعم أطفالها على حساب حصتها، اكتسبت لقمة العيش صفتها الاجتماعية من وجود تجمعات أمومية متعددة، اندفعت للتعاون عندما اكتشفت أنها بحاجة لتأسيس ما هي بحاجة إليه من أسباب الدفاع عن مناطق جغرافية توفِّر لها سبل الطعام والشراب والمأوى الآمن.

كافية، كما أحسب، هذه المقدمة التمهيدية، لكي تشكل مدخلاً لمعالجة الإشكالية التي طرحها عنوان المقال. إن الحياة البشرية بلغت أرقى مستوياتها في العلاقات الاجتماعية بين التجمعات البشرية بعد أن تكاثر البشر على سطح الكرة الأرضية، والتي أنتجت إشكالية التفتيش عن موارد للعيش تحمل معنى الاكتفاء الذاتي للمجتمعات الأكبر، وتحمل عوامل حماية تلك الموارد.

إذا كان توحيد العالم تحت ظل نظام دولي منشود، تحكمه القيم العليا، وإن كان يلامس حدود الاستحالة، إلاَّ أنه حلم جميل على الفكر البشري، بآفاقه الإنسانية، أن لا يلغيه. لأن إلغاءه يعني قطع الأمل في تقريب الشعوب من بعضها؛ وسيكون البديل استمرار انتشار قواعد الصراع بديلاً لقواعد الحوار. وإذا كانت أهداف الدعوات الأممية، كالأديان السماوية، والفلسفة الماركسية، بشكل خاص قد أصابت الهدف المنشود، لكنها أخطأت الوسيلة في الوصول إلى هذا الهدف. وهي بذلك تتميز عن جمهورية أفلاطون بأن دعاتها حاولوا التطبيق ولكنهم فشلوا، فظلَّت دعواتهم في أبراج عاجية.

4 - الخلل في وسائل التغيير وليست في القيم :
أن يتَّسع فكر الإنسان ليرفع هدفاً له توفير الخير للبشرية بأكملها لهو أعلى مراتب الرقي والوعي والإيثار، ولكن إذا لم يمتلك قواعد وخططاً لبلوغ هذا الهدف، سوف يتخبط ويتوه لأنه سيزرع اليأس في نفوس معتنقيه من استحالة الوصول إلى الغاية السامية التي من أجلها اعتنق فكراً إنسانياً سامياً. وهؤلاء مثالهم مثال أفلاطون الذي أبدع في رسم صورة لـ( جمهوريته )، ولكنه لم يخطط طريقاً للوصول إل تحقيقها؛ فضرب المثل بكل أفكار إنسانية راقية غير قابلة للتطبيق، بالقول: هذا شبيه بـ( جمهورية أفلاطون ). وعادة ما يُصاب هؤلاء وأولئك بـ( النرجسية الفكرية )، التي تجد لها مكاناً فقط في مساحات الفكر الراقي، ولكنها تبقى في برج عاجي يعلو كثيراً فوق الواقع. وهذا أشبه بمن يحلم في أن يصبح يمتلك كل وسائل سعادته، ولكنه لا يمتلك الحد الأدنى من مستلزمات تحقيق ذلك الحلم؛ فيصبح سيداً في أحلامه، وأمام نفسه فقط؛ ويبقى حالماً من دون أمل. ولن تبقى لديه سوى أضغاث أحلام تقبرها نرجسيته من دون أن يدري.

5 - التغيير يبدأ من أصغر خلية في المجتمع البشري :
ولأنه لا بناء يصمد إذا لم تكن دعائمه قوية، ولأن دعائم بناء مجتمع أممي تبدأ من الأدنى فالأعلى، أي بناء الأسرة التي تعي أهمية بناء ذلك المجتمع، وأن تعدَّ أفرادها ليكونوا الأنموذج في التعاون والتبادل والإنتاج وممارسة وسائل الدفاع عن نفسها. وهذا ينطبق على التجمعات الأخرى الأكثر قرباً جغرافياً، وتتصاعد السلسلة لتصل إلى مستوى ما نسميه المجتمع الوطني، مروراً بتوفير وسائلها على المجتمعات الوطنية التي نصطلح على تسميتها مجتمعات قومية بمعناها الحديث. وكل ذلك يُعتبر الخطوات التمهيدية القاعدية والأساسية لبناء مجتمع أممي كما تنشده الإيديولوجيات الأممية.

وهنا، لا يفوتنا أن نقوم بتبسيط الفكرة، فنقول إن لكل مشروع أسسه النظرية، كما لكل بناء مخطط هندسي يقتضي إنجازه قبل البدء بتنفيذ بنائه. ومن المعروف نظرياً، وتنفيذياً أن الذي يضع المخطط هو المهندس، والذي يقوم بالتنفيذ هو البنَّاء. ولم يعرف التاريخ أن البناء يبدأ من بناء السقف، بل يبدأ من قواعده على الأرض. وهذا شبيه بما تريد أن تقوم به المناهج الأممية، إذ تبدأ من بناء السقف أولاً، وهذا ليس صعباً فحسب، بل هو مستحيل التنفيذ أبضاً.

إن القفز فوق مرحلة مما ذكرنا، هو ما نسميه حرقاً للمراحل، وحرق المراحل يشكل الخلل الأساسي في البنية التحتية التي لن ينجح الداعون إلى المجتمع الأممي من دون توفيرها.

وهنا، نلاحظ أن الإنسان يتميّز عن المخلوقات الأخرى، بملكة العقل؛ والتي بها ارتقى بمستوى مداركه إلى مستويات أعلى من نوازعه الغريزية، وبتلك المدارك أخذ يخطط لتقنينها وتنظيمها، فسنَّ القوانين المتطورة من أجل ذلك؛ فوجدنا من خلال استقصاء الحالات الأنتربولوجية خلال آلاف السنين، أن غريزتي الجوع والجنس، ما تزالان عاملين مشتركين عند كل البشر المتطور منهم والمتخلف، ولكن الفارق بينهما هو أن التطور العقلي حدا بالإنسان إلى التفكير بتنظيم النوازع الغريزية، من أجل حق البشر للحصول عليهما بالتساوي. وبفعل هذه الميزة ارتقت القيم الإنسانية إلى مستوى لم تبلغه عند الإنسان عبر مراحل التاريخ. ولهذا عرف تاريخ المعرفة الإنسانية التمييز بين حاجات الجسد، وحاجات العقل، أي ما اصطُلح عليه بثنائية ( الجسد والروح )، الجسد بمعنى استمرار الحياة البيولوجية، أي استمرار الحياة وتأخير الموت؛ والروح بمعنى الارتقاء إلى مستويات أعلى في التخطيط إلى تحويل الحياة البيولوجية إلى مستويات أرقى في تنظيم علاقات البشر في تيسير شروط الحياة السعيدة لكل فرد، وارتقت بشكل متصاعد لتصل إلى حدود الارتقاء بالصراع من أجل الحياة الآمنة للفرد أو للجماعة الأموية، إلى مستوى التعاون الاجتماعي، بين الجماعات المختلفة لتوفير الشروط ذاتها لحياة سعيدة للجميع.

6 - الخلل في وسائل التطبيق مرة أخرى :
واللافت في الأمر أن تلك الأفكار، خاصة منها الدعوات الدينية والفلسفة الماركسية، آمنت بالتغيير من فوق، أي بصياغة أسس لنظام عالمي أممي حاولت أن تبنيه من فوق، الأمر الذي جعلها تقفز فوق مرحلة تأسيس المجتمعات من تحت، أي بناء الإنسان الناجح في التغيير من تحت، بدءاً من الأسرة الصغرى مروراً بالأسرة الاجتماعية القومية الكبرى.

ويعود تقديرنا إلى أن أي بناء لكي يكون متيناً يجب أن تكون أسسه ودعاماته قوية، وأي جماعة بشرية سوية لا تنفصل عن بناء أسرة صغيرة سوية أيضاً؛ وأي بناء اجتماعي أوسع، وهو ما نعرِّف عنه بمصطلح الوطني أو القومي، لا يمكن أن يكون سوياً إذا لم تتمتع قواعده وأسسه بالصفات والشروط السوية. وكذلك الأمر فإن أي بناء سياسي أممي لن يكون سوياً ما لم تكن أسس وقواعد التجمعات الوطنية والقومية سوية أيضاً. وهذا ما يؤكد أن بناء الحلم الأممي يبدأ من تحت، وإذا كانت صفاته تتصف بالشمولية الإنسانية، يجب أن تكتسب قواعده وركائزه، أي خلاياه الصغرى، تلك القواعد لكي نصل إلى الحلم الأممي بصفاته الإفلاطونية.

لقد أغرقتنا المناهج الأممية بمصطلحات ومفاهيم، لعلَّ أبرزها ما يعبِّر عنه بعض المناهج بـ( أن الله خلق البشر شعوباً ليتعارفوا )، و( إن الدعوة الوطنية تحمل عوامل التعصب )، بحيث تقع هذه المناهج بأخطاء مرحلية واستراتيجية، لأنها تدعو إلى محاربة الدعوة القومية، وبهذا تنشر العداء للأقربين من القوم؛ وهي بذلك، ستخسر القومية من دون أن تكسب الأممية، لأن من يعادي الأقربين خوفاً من وصفه بـ( الشوفينية )، فلن يكون صديقاً للأبعدين تحت ذريعة تعميم المفاهيم الأممية. فمن يكون معادياً للأقربين لن يكون صديقاً للأبعدين.
فمن يتم إعداده لكي يكون إنساناً أممياً، وهو لا يستطيع أن يكون إنساناً قومياً، سيقف ضد كل قواعد المنطق والواقع. ومن يدعو لخلاص العالم وهو عاجز عن الإخلاص لقومه، يتنافى مع أدنى شروط العلاقات الإنسانية.

بمثل تلك النتائج تتساوى منهجية جمهورية أفلاطون مع منهجية الدعوات الأممية، ولكن تلك الدعوات ستكون أكثر خطورة بانحرافها عن أدنى قواعد بناء الإنسان بطريقة واقعية وغير حالمة.

7 - اللاواقعية في المشاريع الأممية تقود إلى نرجسية فكرية :
والأكثر خطورة من كل ذلك، هو أن الدعوات الأممية، بإعلانها عن مفاهيمها الأممية، تصوِّر نفسها أنها الأكثر حرصاً على مستقبل الإنسانية، الأمر الذي يضعها في مصاف الدعوات الرومانسية التي عادة ما تقود إلى النرجسية لأنها تضع نفسها فوق وسائل الحوار مع الآخر.

إن النرجسية لا ترى شيئاً خارج ذاتها، وهي على الصعيد الإنساني تصوِّر نفسها بأنها الوحيدة الحريصة على بناء عالم سليم. وهي بدلاً من العمل على توفير الشروط الأضمن لبناء أسرة سوية، والأسرة السوية هي القاعدة الأساسية لبناء مجتمع قومي سوي، الذي من دونه سيكون حلم تطوير العالم فعلاً رومانسياً سيبقى أسيراً في عقول العاملين من أجله.

وبدلاً من إنجاز الأسس التحتية تلجأ المناهج الأممية إلى العمل من فوق، متناسية تسلسل مراحل التغيير، وبذلك فإنها تهرب من مهماتها وواجباتها الأساسية لكي تتلطى تحت شعارات وأهداف فوقية. وهي بذلك سوف تعجز عن القيام بمهماتها التي انتدبت نفسها لها. ولذلك نقول: إن أهداف الدعوات الأممية، على سمو غاياتها، ستحصد الريح. وهي أيضاً كمن يهرب من مهماته الأساسية والواقعية إلى الأمام متلطياً بسمو شعاراته وأهدافه، وهو هروب إلى الأمام من دون أدنى شك.





الجمعة ٢٣ رجــب ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / أذار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة