شبكة ذي قار
عـاجـل










احتلت حركة النهضة مكانة محورية في المشهد السياسي التونسي منذ إسقاط نظام بن علي، ونجحت في تثبيت نفسها لاعبا رئيسيا فيه لعوامل عدة أبرزها على الإطلاق:

1- ضعف الحركة التقدمية والعائلة الديمقراطية التونسية وتشتتها وتشرذمها بفعل محاصرتها من النظام.

2- تماسك تنظيم النهضة سيما قسمه الذي احتمى باللجوء السياسي في الخارج، والتأثير الضارب للقوى الكبرى على صنع القرار في تونس وهي التي ربطتها بها صفقات ومعاملات سرية ومكشوفة لزمن طويل، والدعم المالي والإعلامي الكبير المقدم لها.

وأمام موجة الرفض الشعبي العارم والمعارضة الشرسة التي تعرضت لها من غالبية المجتمع السياسي وأوساط المثقفين وطيف واسع من المجتمع المدني، ونظرا للضربة القاصمة التي تعرض لها التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في مصر ومحاصرته فيما بعد من طرف السعودية والإمارات، وخشية تكرار التجربة في تونس، اضطرت النهضة - وهي فرع الإخوان المسلمين في تونس - إلى اتخاذ إجراءات مؤلمة وتدابير مرة كان من أهمها تنصلها من انتمائها الإخواني وإبعاد عدد من المتطرفين أو ما يعرفون بالصقور عن الواجهات كافة، وتوجيه رسائل طمأنة لعموم التونسيين مفادها أنها حركة تونسية وطنية صميمة، سعت عبرها لتبديد مخاوفهم خاصة من مخططها لأخونة تونس وأسلمتها عنوة، فاستبدلت العمائم والطرابيش بربطات العنق، وعوضت البدلات الرسمية الجبة والبرنس، واستقطبت النهضة عددا من النساء السافرات، وصعقت متابعيها ومريديها بعدد من المواقف سيما فيما يتعلق بمسألة القوانين المقترحة على غرار قانون المواريث والحريات الشخصية ومسألة المثلية الجنسية وغيرها، كما ترأس يهودي إحدى قائماتها في الانتخابات البلدية، وغير ذلك من السياسات الأخرى وأبرزها تحالفها المستراب مع الباجي قايد السبسي رئيس الجمهورية ومع حزبه فيما عرف بالتوافق والذي أطنب رأسها الغنوشي في تبيان فوائده الاستراتيجية مشددا على أنه خيار لا محيد عنه، فضلا عن التغني ليلا نهارا بحنكة الرئيس ووطنيته ونبله وتفانيه في خدمة البلاد والعباد.

وعليه، ظن كثير من التونسيين، أن النهضة قد تغيرت فعلا، فصدقوا دعواها وخاصة فصلها بين الدعوي والسياسي، ولم يدركوا أنها لاذت بأسلوب التماوت واستحضار سلوك الثعالب لما تستشعر خطرا داهما.

لكن، أفاق التونسيون المرهقون بسبب استفحال أزماتهم وتفاقمها، والمجهدون الهاربون من سيل الانحطاط السياسي والرداءات الحزبية التي كدرت صفوهم، وصعقوا جراء الانقلاب النهضاوي الشامل، حيث اصطدموا مجددا بذلك الطابع الإخواني الموغل في التطرف والتعصب وإنكار الآخر بل ونفيه أساسا.

فبعد تفكك منافسها الأبرز نداء تونس وتشظيه وغرقه في وحل صراعاته الداخلية والزعاماتية، وبعد تعمق مآزق الحكومة، استفردت برئيسها الشاب المغامر والمستهتر يوسف الشاهد مستغلة خلافه مع حزبه، ومهدت له إجراء تحوير وزاري مرتبك ومستراب تخطى فيه رئاسة الجمهورية برمزيتها ( المتوافق عليها ) والتي لطالما ادعت النهضة ذاتها تمسكها بها، وضمنت له حزاما برلمانيا ساندا وداعما.

وعليه تصدرت النهضة المشهد السياسي ثانية، وبسطت عليه سيطرة شبه مطلقة، حيث تهشم تحت ضرباتها ( رغم إنكارها ذلك ) أكبر منافسيها دون نسيان ضعف بقية اللاعبين وانتهازية غالبيتهم خصوصا تلك الفروع والحزيبات المنشقة عن النداء.

وفي سكرة الانتشاء، سارعت النهضة للاحتفال بطريقة مقززة ومستفزة باسترجاعها لمنصب الكتلة الأكبر ( على شاكلة فرق كرة القدم أو راقصات الكازينوهات أو عارضات الأزياء )، فألقى زعيمها راشد الغنوشي خطابا تحت قبة البرلمان كاد يحول فيه الحدث لما يشبه الفتح، معتبرا إياه نصرا للإسلام. وانطوت كلمته على خطر يرقى للتهديد بحرب أهليه، حيث شدد الغنوشي مرارا على أن " النهضة قوية ضمانة لأمن تونس، وأنه لا استقرار في تونس دون النهضة " وهو ما ردده فيما بعد النهضويون قيادات وقواعد، بل وركزوا عليه دون تبصر أو اتعاض بتجارب سابقة، وفي إنكار سمج وقفز رديئ على فعل الشعوب وحركتها وثقلها، فأنكروا ونسفوا أي دور لجماهير شعبنا العربي في تونس حتى يرتهن مصيره بمدى قوة النهضة وبقائها مسيطرة على الوضع في البلاد رغم فشلها الذريع في تلبية أبسط استحقاقات تلك الجماهير.

ثم تتالت خطب وتصريحات قيادات النهضة أثناء مساءلة وزيري العدل والداخلية حول الملف - القنبلة، والمتعلق بما يسمى بالجهاز السري لحركة النهضة وعلاقته باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد الابراهمي، فتحدث أحد نواب النهضة بكل صلف وغطرسة عن الموت مصيرا لكل من يقترب من حركته ثم استدرك ذلك بالتنصيص على أن قصده الموت السياسي.

ثم حان الدور ليتكلم فيما بعد نور الدين البحيري رئيس كتلة النهضة البرلمانية بلغة التهكم والسخرية من الخصوم وبنبرة التعالي والتطاوس، ثم يهاجم نواب الجبهة الشعبية ويتهمهم بمعاداتهم للسامية واليهود في إشارة لرفض الجبهة توزير المتصهين روني الطرابلسي وتسليمه ملف السياحة في البلاد ( انظر مقالاتنا السابقة في الغرض: " تونس بين براثن الصهيونية الفتاكة"، " تفعيل مقاطعة الكيان الصهيوني شعبيا: ضرورة تاريخية " ) في نزعة تحريضية رخيصة ومبتذلة وفي رسالة طمأنة للأسياد من خارج البحار. ولم يكتف بذلك، بل قلب الطاولة وعكس الهجوم على الجبهة الشعبية داعيا إياها للتخلي عن التشبث بالإيديولوجيا والأفكار المستوردة من وراء البحار حسب قوله ( إشارة للشيوعية ) رغم أن الجبهة لا تضم شيوعيين فقط إلا إذا ألغى البحيري الأحزاب القومية فيها، وحثها على التتونس وهو المطلب الذي اختص به التونسيون حزب النهضة دوما.

ولا تتوقف ردة النهضة وعودتها لطابعها الإخواني الصرف عند هذه الحدود، بل طلع أحد قيادييها عبد الحميد الجلاصي في برنامج حواري تلفزي بتفسير مستجد لشعار الفصل بين السياسي والدعوي المرفوع من النهضة سابقا، ليؤكد أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون ذلك فصلا بين السياسي والديني، ما يعني كذب ادعاءات حركته السابقة عن المدنية ونفاقها بشأن التأكيد على حرمة الدستور وفضائله رغم تنصيصه على مدنية الدولة التونسية.

ثم كان كلام راشد الغنوشي عن فساد الوزراء المغادرين لحكومة الشاهد الثانية ( بصرف النظر عن تقييمهم والموقف العام منهم ) ودور حركته في إبعادهم واستبدالهم، بمثابة التصريح الفاضح والاعتراف النهائي بتغلغل النهضة وسيطرتها على تلابيب الحكم في تونس، وعدم اعترافها بالدولة ومؤسساتها من الأساس إلا متى كانت تابعة منصاعة لها وخادمة لمصالحها، إذ لا يستوي لمن يؤمن بالدولة أن يهاجم وزراء عملوا في حكومة كان جزءا أصيلا من مهندسيها، وتقاسموا الخدمة مع وزراء وكتاب دولة من حركته، لأن ذلك ينافي أبسط أخلاقيات العمل السياسي وضوابطه المتعارف عليها.

لقد تهاوت، من خلال هذه الأمثلة القليلة، وبسرعة البرق ديبلوماسية منافقة وحرصا مغشوشا من النهضة للظهور في ثوب الحريص على السلم المدنية، وسقطت أقنعة الخداع ومساحيق التجميل البراقة جميعا، في لحظة سكر وعربدة سياسية إخوانية كانت العنجهية سمتها والاستعراض البهلواني طابعها والتهديد والوعيد حقيقتها.

وترسخ نهائيا غدر الإخوان ومعاداتهم للجماهير خاصة في تفاعلهم مع الإضراب العام الذي دعا إليه ونفذه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الخميس 22_11_2018، حيث وبعد أن كان الاتحاد خيمة كل التونسيين وصمام أمان البلاد وشريكا أساسيا في القرار لما قبل التحوير الحكومي قبل أيام قلائل، ومفخرة لتونس بعد أن هندس الحوار الوطني، غدا في نظر النهضة مجرد عصابة مخربة عابثة بأمن الوطن، وهو ما وشت به مواقف عدد من قيادات النهضة وخاصة مجاميع ذبابها الالكتروني التي عادت لخطاب التكفير والتخوين، للحد الذي تجرؤوا فيه على نعت المتظاهرين أمام البرلمان في الإضراب العام بالكلاب.

فهل تصر النهضة على تأكيد السقوط صفة وحيدة وعنوانا دائما للإسلام السياسي؟
وهل يقبل التونسيون مجددا بانطلاء حيل إخوان تونس عليهم؟





الثلاثاء ١٩ ربيع الاول ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / تشرين الثاني / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة