شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يعد ممكنا قراءة مسيرة حزب البعث دون الوقوف مطولا عند أسباب ديمومته وصموده لأكثر من سبعة عقود رغم ما ألمت به من محن وما تعرض له من مؤامرات ودسائس وحصار وتشويه وتبشيع وشيطنة وافتراء ثم إفراده بحرب كونية ظالمة تفتقت في نهاية بطشها بقوانين غير مسبوقة ولم يتعرض لها حزب غيره في أصقاع الأرض من الاجتثاث إلى الحظر والملاحقة وما انطوت عليه تلك القوانين السادية المتخلفة الإجرامية من عنصرية وإباحة خَصِّ البعث والبعثيين بشتى أصناف المضايقات والانتهاكات والفظائع من تهجير وتقتيل ومصادرة أملاك ومنع من العمل والكسب وغير ذلك.

وبتنزيل ما فرض على حزب البعث وموجة العداء الهائل الذي استهدفه، علاوة على الواقع والميدان اللذين يحيطان به ويتحرك فيهما، وبقراءة متجردة وموضوعية، يخلص المتابع إلى حكم بسيط وتسليم طبيعي مفاده أن استمرار الحزب فكرا وتنظيما ورسالة ونضالا وكفاحا، إنما هو فوق ممكنات البشر العادية، وهو معجزة حقيقية تحمل في طياتها وتنبني في جوهرها على دعائم صلبة ولبنات ثابتة محبوكة بصرامة شديدة قائمة أساسا على الجلد والصمود والرغبة في البقاء بوجه عاديات الزمن ونوائبه مهما اشتدت وكيفما احتدمت أو ادلهمت الخطوب.

وفي حقيقة الأمر، ما كان لهذه المعجزة اليعربية أن تتكرس واقعا لولا تشابك تلك الدعائم والترابط الجدلي فيما بينها بحيث لا يمكن تقديم إحداها على الأخرى، حيث تصعب المفاضلة وترجيح لبنة محددة عما سواها.

فإن كانت ثورية الفكر البعثي ومرونته وملاءمته لبيئته وتصالحه معها ونبوعه منها واستجابته بالتالي استجابة فريدة لتطلعات المواطن العربي على اعتبار ما قامت عليه من قراءة وتشخيص وتشريح دقيق لأوضاع الأمة ثم استشراف الحلول العلمية والعملية لها، جسرا مهما بل ومفصليا لبقائه وصموده، ناهيك عن انقلابيته وصرامته الحديدية والمتمثلة أساسا بتنظيمه فائق التماسك والصلابة، فإن الانضباط يطل برأسه من بين كل تلك الثوابت والمثابات ليشكل أحد أهم وأخطر أسرار ديمومة البعث، أو لعله يناطح جميعها ليكون العنوان الأبرز والسبيل الأوضح لذلك.

ولما يروم المتابع أو الناقد أو حتى مجرد المستعرض لمسيرة البعث طيلة السلعة عقود، سيجد نفسه مضطرا، إقرارا لا إكراها ولا مجاملة، للتسليم بما للانضباط من فضل كبير في تلك الديمومة وشموخ الفكرة البعثية واستمراريتها رغم ما حاف بها من مؤامرات ومن دسائس ومكر ورغم ما خصت به من محاربة تميزت بتكالب الأعداء المحموم سواء كانوا أولئك الإقليميين أو الدوليين أو حتى المحليين من أبناء جلدتها.

وحين نتحدث عن الانضباط، فإنه علينا التفرقة جيدا متى ما تعلقت المسألة بحزب البعث بين مقاصد الانضباط، ذلك أن الانضباط فيه ليس كمثله في غيره، وهو لا يتعلق بل ولا ينحصر في المسائل الفنية ولا يتوقف عندها. فالانضباط روح الحياة البعثية سواء كانت جمعية أم فردية، وهو مقومها وقوامها في نفس الوقت، وهو أشمل مدى من مجرد تنفيذ الخطط أو إنجاح المقررات والالتزام بها وبالمواعيد وغير ذلك من الأمور الأخرى التي تعتبر مسلمات لدى عموم التنظيمات أكانت حزبية أم غير حزبية.

إن البعثي، ومنذ لحظة انضمامه للبعث واعتناقه لفكره وتعهده بالانخراط في خطه النضالي العام، يكون قد انخرط طوعا ووعيا وإدراكا في الانضباط للمصلحة القومية العربية العليا، وانتقل اختياريا لطور الانصهار في المسعى والمجهود العام العامل على تحقيق تلك المصلحة العليا والدفاع عنها. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف - والتي لا تتحقق زمانيا ولا نضاليا إلا عند استيعاب متطلبات الانقلاب على الذات بكل معانيه - أن يتبوأ الانضباط مرتبة متقدمة بين متطلبات استحقاق شرف البعث والأهلية لتلك المرحلة الجديدة من حياة الفرد.

الانضباط في حزب البعث قيمة وناموس مقدسان بنفس قدسية الرسالة التي ينهض لها، ومن البديهي في هذه الحالات أن يتوافق الأداء مع الهدف والغايات، فلا يعقل في حالة كحالة البعث ودوره التحرري الرسالي الإنساني أن يفتر العزم يوما، أو أن يعم التراخي حينا من الدهر، أو يتفشى التواكل أو التسليم والقناعة بما يريد الأعداء فرضه لا على البعث فقط وإنما على كل الأمة، رغم أن مهمة دفع تلك المخططات ليس من الضروري وفق رؤية البعث والتزامه الأخلاقي والعقائدي تجاه الجماهير والوطن العربي أن يتداعى لها الجميع، بل يفرض البعث على نفسه ريادة الصفوف فكريا وميدانيا وتحمل أعباء المواجهة وأوزار المعارك دونما كلل ولا ملل ولا منّ أورئاء.

وعليه، فإن البعث والبعثيين يعتبرون أن سبيلهم إلى النجاح في مهامهم تلك يمر حتما عبر بوابة الانضباط، بكل ما يعنيه مفهوم الانضباط وما يتطلبه، وبكل ما فيه من خصوصية في الحالة البعثية.

إن الانضباط في البعث انضباط شامل مركب واسع دقيق ومحدد ومقنن، يكاد لا يعدم جانبا من جوانب الحياة مهما كان بسيطا أو غير ذي قيمة. فهو سلوكي يبدأ بتهذيب النفس وترويضها وصقلها ونذرها للمهام الثورية التي لا تكاد تنقطع في حياة البعثي مطلقا، وينطلق من التقيد بالمواعيد والتوجيهات، ولا ينتهي حتما عند تنفيذ ما يناط بعهدة المناضل من واجبات قد تكلفه حياته أو رزقه أو غير ذلك. والانضباط في البعث مسيرة مفتوحة من التوثب الدائم والترقب المستمر، وهو أيضا تفكير متواصل في تغيير واقع الأمة جذريا، زمن الحرب وزمن السلام رغم أنه زمن عابر أو غير محقق على الأقل ما دام شبر من الأرض العربية محتلا، ولكنه في كل الأحوال يظل فعل البعثي ووقته وتفكيره وأساس وجوده وغايته الانضباط الصارم للفكرة الثورية العربية الأصيلة ولما تستوجبه من جهوزية عالية ودربة مضنية على الاصطبار والتحمل ولما تتطلبه من بديهية هائلة وإيمان عميق وراسخ بضرورة تحقيق رهانات البعث ومبادئه والتي لا تزيد عن رهانت الأمة وتطلعاتها.

ونظرا لكل ما تقدم، فإن الانضباط في البعث المتولد عن انضباط البعث لاستحقاقات الأمة جمعاء، يبرز خاصة من خلال :

- الاحتكام للنظام الداخلي: وذلك أن هذا النظام جاء ليحدد مسار البعث حزبا وأفرادا، ولينظم العلاقة بين البعثيين فيما بينهم أولا، وبينهم وبين حزبهم ثانيا، وبينهم وبين أمتهم ثالثا. والنظام الداخلي هو ذلك القانون الساري على الجميع، والذي يحدد واجبات البعثي وحقوقه، من أعلى الهرم إلى أسفله ( رغم أن الحديث عن التركيبة الهرمية غير دقيق إذا ما تعلق الأمر بالبعث، وإنما فقط يجاز متى تعلق بالنظر إلى المسؤوليات التنظيمية والسياسية والتكليفات فقط )، وهو الذي يزرع في البعثي أيا كانت درجته شعوره بالمسؤولية وجسامتها.

والاحتكام للنظام الداخلي من أعلى مظاهر الانضباط في الحزب، لما لهذا النظام من دور حساس في ضمان التماسك التنظيمي وتنقية الأجواء الحزبية والحيلولة دون الوقوع في محرمات التكتلات والمحاور، وبما يشكله خصوصا مما يشبه المضاد الحيوي للجسم البعثي الذي يقيه الشوائب والأدران ويحميه من المتسربين والانتهازيين والمناضلين المناسباتيين الموسميين الذين لا يظهرون إلا أوقات الرخاء وزمن القطاف.

ومن لا ينضبط للنظام الداخلي للحزب، بما له من مكانة استراتيجية فيه، فإنه لن يعرف الانضباط إلى عقله وفعله سبيلا، وبالتالي فإنه لن يصلح البتة لحياة البعث ورسائله ومهامه بالغة الخطورة.

- العلاقة الرفاقية علاقة عقائدية : لا يمكن النظر للعلاقة الرفاقية داخل البعث إلا على أنها عقائدية صرفة، فهي لا تحتمل أي شكل من أشكال المصلحية ولا يمكنها أن ترتهن لأي ضرب من ضروب الذاتية، فما يربط الرفاق فيما بينهم هو حملهم لنفس الفكر وإيمانهم الواحد بحق العرب في بناء دولتهم القومية الواحدة الموحدة بعيدا عن التدخلات الأجنبية والوصاية الاستعمارية واستعدادهم للتضحية في سبيل تلك المصلحة العربية بنفس القدر من الإقبال والقناعة.

ولم يشدد البعث على ضرورة الارتقاء بتلك العلاقة إلى المنزلة العقائدية من باب الترف الفكري أو البهرج الزائف، بل لرص صفوف الحزب وتنظيم موارده البشرية وتوظيفها لما يحقق الأهداف التي يؤمنون بها، ومتى أخل البعثي بهذا البند وجاوز المسموح به أو خرق تلك الحدود المبينة، فإنه يجد نفسه آليا خارج مضمار البعث. إذ لا يعقل أن يعول حزب كحزب البعث بما يطرحه على نفسه من مهام ثورية شاقة ومضنية وغير محددة زمنيا على من لا يمتلكون الإيمان القطعي بأن الرفيق عين الرفيق وعونه ومعينه يقدمه على الولد والصاحب والشقيق، يتداعى لألمه، ويهتز لوجعه، ويفتديه بروحه.

- بناء البعث بناء أخلاقي رسالي والأخلاق متقدمة على أي صفة أو اعتبار آخر: ويتجلى ذلك من خلال تأكيد الرفيق القائد المؤسس ميشيل عفلق على أن الأخلاق سمة البعث الثورية، حيث أن البعثي لا يستحق صفته تلك - أي البعثي - ما لم ينقلب على ذاته بما للانقلاب من مدلولات عميقة وشاملة، هدفه الأساسي صقل النفس العربية والرقي بها نحو المثالية ضمن المهمة الأسمى للبعث وهي تهيئة المناضل البعثي لخوض معارك الأمة المصيرية.

وحين نتحدث عن الأخلاق، فالمقصود بذلك قطعا تبني موروث الأمة القيمي واستملاكه بما يمنع الزيغ والانحراف والانحلال والتفسخ والميوعة، فمجتمع يقوم على أفراد أسوياء وذوي أخلاق رفيعة تتناسب مع هويتهم وحضارتهم ورسالة أمتهم الإنسانية، سيوفر كثيرا من الوقت والجهد في مضمار الفعل البعثي والفعل العربي بصورة أعم.

- احترام التسلسل الحزبي والتاريخ النضالي للبعثي: إن التراتبية الحزبية في البعث ليست أوسمة ولا نياشين، ولكنها تأتي تتويجا لعطاء البعثي وفعله وأدائه، وهي بالتالي تنتزع انتزاعا وفق الجدارة والكفاءة والمسؤولية. وإن احترام التسلسل الحزبي ناموس بعثي يكرس اعترافا لأهل العطاء والثبات والمسؤولية والمواظبة بدورهم في إدامة الفكرة الثورية الأصيلة شامخة رغم ما تعرضت له على الدوام من استهداف.

واحترام التاريخ النضالي للبعثي يزيد من توطيد العلاقات الرفاقية داخل الحزب، ويفتح المجال مشرعا للتنافس الإيجابي الخلاق الذي يتسابق فيه البعثيون للإبداع والنضال، ما يزيد من إقبال من هم أدنى درجة ويرفع همتهم ويضاعف عزائمهم ليبلغوا ما بلغه رفاقهم الأعلى درجة من إشعاع واحترام، وبذلك ينتفي التلهي بالصغائر وتسد هوة التنافر وغيره مما يعيق مسيرة الحزب للتقدم والفعل والتغيير المرجو.
ومن دلالات الانضباط الأخرى والتي لا يمكن الإتيان عليها في حزب البعث، نورد باقتضاب بعض أهم ما يميز الحزب، ومنها اعتبار الثرثرة خارج الاجتماع جريمة، حيث يتقيد البعثيون بكتمان الأسرار وعدم إشاعة ما يدور داخل الاجتماعات وأسوار المؤسسات الحزبية، لتبقى الحياة البعثية وليس فقط الخطط والبرامج والأوامر ملكا للبعث ولرجالاته ومناضليه. ولذلك مثلا، شدد البعث على عدم الاتصال الجانبي وبين مدى خطورته، ذلك أن حياة البعث ومسيرته تترصدها الأحقاد والدسائس، فلا يجوز مثلا للبعثي حسب ظروف الساحة التي يعمل فيها أو طبيعة نضال الحزب، أن يلتقي مع الفاعلين السياسيين الآخرين إلا ضمن تكليف حزبي واضح ولكن لا يشترط اطلاع الجهاز الحزبي كاملا ولا حتى كل القيادات عليه.

هذا ويبقى من مؤيدات حرص البعث على ضرورة التحلي بالانضباط الصارم لرفاقه، هو أن ساوى بين البعثيين جميعا، ليكون الأساس هو شرف العضوية فيه، وما سواها من المراتب إنما هي فقط نتاج الظروف والمهام وما تتطلبه من نوعية وخصال نضالية ومواهب أخرى تقتضيها الأدوار وغيرها، وهي أيضا تأتي تتويجا لمسيرة ذلك الرفيق بعد أن يشهد له الحزب والبعثيون بالأحقية والجدارة لتبوئ تلك المرتبة.

وفي هذا السياق نورد تأشيرا على محورية الانضباط في البعث، أن معلومات ومقررات وحياة البعث تعتبر أسرارا، ومن يتداولها خارج التنظيم يعتبر خائنا، إذ أن من عجز عن الحفاظ على أسرار البيت الداخلي في وقت السلم مثلا، لن يحافظ عليها في غيرها.

هذا فيض من فيض فضل الانضباط في ديمومة البعث، واستمرار ألقه وبقائه صامدا بوجه كل المؤامرات رغم فظاعتها.





السبت ٢٠ ذو الحجــة ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / أيلول / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة