شبكة ذي قار
عـاجـل










يجمع الصابئة المندائيون على أن ديانتهم أقدم ديانة موحدة في التاريخ، قناعة توارثوها بإيمان عميق اباً عن جد دون أن يستطيعوا تقديم أي دليل علمي على هذه الأسبقية المطلقة، أما كتابات باحثيهم فقد انصب معظمها على دفع التهم عن ديانتهم في ما كان يظن بها من شرك، ومن عبادة الكواكب. وما حسب عليها من أحناف ويهودية وحرانية، تتخلل كل ذلك آراء مرتجلة حول تاريخهم، ودفاع مستميت عن قدم دينهم دون أن يخبرنا أحد منهم إلى ماذا يستند.

أما الباحثون العرب فجميع ما كتبوه عن هذه الديانة في كتاياتهم التراثية كان خليطاً متناقضاً من الاراء البسيطة، والافتراضات المفتقرة إلى أدنى أنواع التمحيص العلمي.

المستشرقون وحدهم كان لهم دور كبير في التعريف بالديانة الصابئية المندائية لما بذلوه من جهود ميدانية كبيرة في تقصي عقائد وطقوس هذه الديانة من خلال الكتب المندائية نفسها، ومن حوارات بعضهم مع عدد من رجال الدين المندائيين.

شئ واحد خطير فات الباحثيين جميعاً..مستشرقين، وعرباً قدماء، ومندائيين: هو غياب المقارنات العلمية بين الإرث الديني المندائي والأديان العراقية القديمة مع معرفتهم بأن بيئة هذه الأديان هي نفس البيئة الروحية والثقافية والديانة التي ظهرت فيها هذه الطائفة، وعاشت إلى يومنا هذا، وهو ما يمكن أن يضئ الكثير من تاريخ وجوانب الديانة المندائية، ويضعها في سياقها التاريخي الصحيح، ويكشف بالتالي عناصرها الأصيلة والدخيلة، ويضع كلاً في مكانه الطبيعي.

يقول الدكتور خزعل الماجدي في كتابه "جذور الديانة المندائية" : أن الديانة السومرية، هي أقدم ديانة على وجه الأرض، ذات نظام روحي وكهنوتي وميثولوجي متكامل. هذه الديانة تمثل أول ظهور ديني عميق وواضح إزاء ما قبلها من ديانات ما قبل التاريخ، وهي أصل الديانات التاريخية في العالم كله. انتقلت عناصرها إلى كل جهات الأرض، ولكنها ذابت محلياً "عراقياً" في الديانات البابلية التي ورثتها. فهل كان هذا هو كل مايحصل؟.

ويواصل الدكتور الماجدي مستنتجاً أن الديانة السومرية بعد زوال النفوذ السياسي السومري، ودخول المؤثرات الأكدية ثم الأمورية، وبعد الاضطهاد الذي منيت به من قبل العقائد الأكدية والبابلية الجديدة، انسحبت منزوية في مكان يصعب الوصول إليه، ألا وهو أهوار جنوب العراق.

من هذه النقطة يرى الدكتور الماجدي أن الديانة الصابئية قد بدأت.. من المناطق السرية للديانة السومرية، معتقداً أن نشأة الديانة الصابئية قد بدأت. من المناطق السرية التامة للديانة السومرية، معتقداً أن نشأة الديانة الصابئية المندائية تبدأ مع النمو الباطني للسومرية تحت شبكة العقائد الأكدية والبابلية الجديدة. معتبراً اللب السومري هو جوهر الديانة الصابئية و أصلها الأول الذي منحها هويتها الأولى، وعناصرها المميزة التي ما زالت باقية فيها إلى يومنا هذا، محاطاً هذا اللب بعدد كبير من الأغلفة التي أثرت فيه، و التي آخرها الغلاف الإسلامي الذي عايشته لأكثر من ألف عام في مدن العمارة و الناصرية والبصرة والأحواز في جنوب العراق فاكسبها الكثير من عاداته و تقاليده الدينية و الفولكورية بحكم اتصال البيئة. هذا مروراً بالتأثيرات المسيحية و علاقة النبي يحيى (ع) بتراث هذا الدين، ثم التأثير الغنوصي اليوناني بعد أن غزا الاسكندر المقدوني بابل، و أسست في جنوب العراق مملكة ميسان بمؤثرات يونانية نبطية، مروراً بالتأثير الزرادشتي بعد سقوط بابل ودخول الفرس إلى العراق، ومنه تسربت عقائد الثنوية إلى المندائية، مع وجودها أصلاً في الدين السومري.. فالتأثير اليهودي بعد فك الأسرى اليهود و انتشار بعض فرقهم و أنبيائهم في جنوب العراق، فتأثيرات الدين البابلي المحلي، و الديانة النبطية و التأثير الآرامي وهو مندائي بالدرجة الأساس.. ثم التأثير العموري البابلي الذي أعاد صياغة الدين الصابئي بما يتناسب مع حجمه و مدته و اتساع منظوماته اللاهوتية و الطقسية و الميثولوجية، و آخرها التأثير الأكدي الذي شكل أول تماس خارجي مع الديانة السومرية الأم للديانة الصابئية.

ويبقى اللب السومري هو جوهر الديانة الصابئية و أصلها الأول. يقول الدكتور الماجدي: إننا في بحثنا هذا سنبدو كمن يحفر بئراً بأبرة، إذ أن وجود تسعة أغلفة محيطة بالدين الصابئي، وهي في نفس الوقت جزء منه، و ساهمت في إعادة الصياغة الدائمة له، ستكون مثل تسعة فلترات ملونة تحجب الملامح الدقيقة للأصل السومري المتواري تحتها.

الجواهر اللاهوتية للديانة الصائبية
1 ـ جوهر الماء : الذي ظهر منه هذا الكون، و الذي هو سبب الحياة والخصب، وهو جوهر الدين السومري أيضاً.. تأتي علاقته بهم من البيئة المائية التي ظهروا فيها، و هي نفس البيئة التي نشأ و ترعرع فيها الدين الصابئي في السهل الرسوبي بين النهرين، و في أهوار جنوب العراق، و على الماء، و بالماء تقوم طقوس الديانة الصائبية.

2 ـ جوهر النور : و به يوصف الرب في الدين الصابئبي "ملك عالم النور" و أحياناً ملك الضوء وهنا لابد من الإشارة إلى أن النور يختلف عن الضور في الديانة الصابئية، فالنور هو نور القمر ذو المسحة الأنثوية الليلية السرية، أما الضوء فهو ضوء الشمس ذو المسحة الذكرية النهارية العلنية. والنور متصل بالماء اتصال أساسياً، فالنور منشق من الرطوبة والماء، وكلمة "نهورا" : تشير بوضوح إلى النهر أيضاً، و بذلك يتحد الجوهران أن النور والماء.. و هذا ما نلمحه في الدين السومري أيضاً.

أما الضوء فيتصل بالشمس و بالهواء ويمثله الكائن "شامش" في البابلية خير تمثيل.. وهو صاحب مركبة الشمس التي تحمل علماً ينبعث منه نور الله، و هذا العلم هو "الدرفش" أو الراية التي أصبحت الرمز الأساسي للدين الصابئي.

3 ـ جوهر الظلام : يسمى عالم الظلام في الدين الصابئي "آلمي دهشوخا" وهو عالم شديد التعقيد و التركيب تسيطر عليه كائنات ظلامية تقف على رأسها "الروهة و أور" ملكا الظلام .. و المتتبع للصفات التي يوصف بها عالم الظلام المندائي يجدها تشبه إلى حد كبير عالم الظلام الأسفل و الهيولي السومري.

يتكون عالم الظلام المندائي من سبع طبقات تنتهي بمقام الروهة و هي تسبح على ماء الظلام، و كذلك يتكون العالم الأسفل الهيولي السومري من سبع أبواب تنتهي بقصر ملكة الظلام : "ارشيكال".

أن العلاقة الخلاقة لجوهر الماء و النور و الظلام في الديانتين السومرية و المندائية لافتة للنظر حقاً ، و لانجدها في أية عقيدة أخرى بهذا الشكل المتداخل مما يدل على أن جوهر العقيدة الدينية لكليهما من أصل واحد قد يمتد إلى بدء ظهور الإنسان في جنوب العراق في الألف الخامس قبل الميلاد مكوناً للحضارتين السابقتين للسومرية وهما حضارة آرينو و حضارة العبيد.

شئ عن تاريخهم
ينسب الصابئة المندائيون كتابهم المقدس "كنزا ربا" ـ الكنز العظيم ـ إلى آدم عليه السلام ، ويعتقدون أن سام بن نوح عليه السلام هو جدهم الأعلى.

يقول الدكتور رشدي عليان في كتابه "الصابئون حرانيين ومندائيين" : الواقع أن لهذا القول ما يبرره و يشهد له ، فقد قيل أن تعاليم "هرمس أو أدريس" الذي هاجر من بابل إلى مصر و هو يحمل عقيدة التوحيد، قد أثمرت و صار لها أتباع هناك ، و أنهم كانوا يسمون الصابئة.

وقد اختلف العلماء في مكان ولادة أدريس، فمنهم من قال أنه ولد في مصر ، و منهم من قال أن ولادته كانت في بابل ـ وهذا أرجح الآراء ـ وقالوا أنه أخذ بتعاليم "شيت" من أدم جد جد أبيه ـ و أنه قد بلغ في الحكمة و العلوم الإلهية و الطبيعية و الفلك مبلغاً عظيماً حتى أن بعض الأمم ألهته فيما بعد.

فهل الصابئة مصريون أصلاً قد هاجروا من مصر إلى فلسطين ثم حران إلى البطائح في جنوب العراق؟ أم أنهم عراقيون أصلاً قد هاجروا إلى مصر. ثم عادوا من حيث نزحوا مارين بفلسطين فحران؟

أن جميع كتب التاريخ و الآثار و الأديان التي تحدثت عن عهد ابراهيم الخليل عليه السلام أشارت إلى وجود الصابئة في عصره، و أنه اصطدم بهم وجادلهم طويلاً، وقد ذكر الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل" الجزء الثاني ما نصه: "كانت الفرق في زمان ابراهيم الخليل (ع) راجعة إلى صنفين : أحدهما الصابئة، والثاني الحنفاء و نص الفخر الرازي " لما بعث الله ابراهيم (ع) كان الناس على دين الصابئة.

فإذا عرفنا أن عصر الخليل يرجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد، و أنه ولد و نشأ في أور، تلك المدينة التي ماتزال آثارها قائمة في نفس المنطقة التي كانت و مازالت موطن الصابئة الرئيس، و أنه و أتباعه اضطروا إلى الرحلة من أور إلى أشور إلى فلسطين إلى مصر ثم إلى فلسطين إلى صحراء شبه الجزيرة العربية، ثم إلى فلسطين حيث استقر ، أذا عرفنا ذلك ترجح لدينا أنهم أصلاً من هذه المنطقة ، و أن أسلافهم غادروا لأسباب متعددة ، ثم عاد خلفهم إليها، و أنهم لانظوائهم و انعزاليتهم و تشددهم في نقاوة دمائهم و أنسابهم بعدم الزواج من غير أهل دينهم ، قد حافظوا على سماتهم المميزة و عاداتهم الخاصة، و تقاليدهم الموروثة.

أن أقدم تجمع بشري عرف التوحيد كان مركزه العراق، يخبرنا بذلك الكتاب المقدس بعهديه الجديد و القديم، وهو أقدم كتاب تحدث عن تاريخ البشر، فقد ورد في الإصحاح الرابع من سفر التكوين أن آدم عرف امرأته فولدت ابناً أسمته "شيت" قائلة: " أن الله قد وضع لي نسلاً آخر عوضاً عن هابيل. وولد لشيت ولد سماه "آنوش" و من أولاد آنوش يأتي نوح و أولاده . و أن بلدة "الطيب" كانت من عمارة شيت بن آدم، و ان سكانها كانوا على ملة شيت و هم الصابئة.

وهكذا فأن جميع الدلائل تشير إلى أن أصول الصابئة كانت من جنوب العراق و أن قسماً منهم نزحوا مع إبراهيم الخليل (ع) في رحلته إلى مصر، و عادوا معه إلى حران التي تركوها بعد ذلك عائدين إلى جنوب العراق الذي استقروا فيه حتى يومنا هذا.

العقائد الصابئية

1 ـ عقيدتهم في الله

يعتقد المندائيون أن الله واحد، أزلي، أبدي.. لا أول لوجوده و لانهاية له "انبعث من ذاته، و انبعثت من لدنه الحياة، و إليه تعود، و به تتحد بعد أن تكمل قدرها. و أنه منزه عن عالم المادة و الطبيعة، لا تناله الحواس، و لا يفضي إليه مخلوق، و أنه لم يلد و لم يولد. ليس له مثيل، و لاشريك. رب الخير الذي لا ينضب منتشر القوة، متسلط على كل رغبة.

و المندائي ينزه نفسه عن عبادة الأوثان و الأصنام والنار.. و عن السجود للشمس و القمر و الكواكب.. وهو يعتقد أنها إنما خلقت من أجله.. كما يعتقد أن الإنسان شيئاً من الذات العظمى، و ما عليه إلا أن يتحرك و أن يعمل.. ما عليه إلا أن يطلب فيجد، و أن يسأل فيلقى، و أن يقرع فتنفتح أمامه أبواب السعادة.. السعادة المؤقتة على هذه الأرض، و السعادة الدائمة في السماء.

2 ـ عقيدتهم في الروحانيات

يعتقد المندائيون بأن الملائكة مخلوقات الله، و أنهم منزهون عن المادة ، فقد فطروا على الطهارة، و جبلوا على التقديس والطاعة و يعتقدون أن فريقاً من جنسهم قد أوكل إليهم عملية الخلق و تدبير الكون و إدارة شؤون العالم، منهم هيبل زيوا، و أباثر، و بئاهيل. و أن هؤلاء لا يعلمون كل شئ، و يعرفون الغيب و لكل منهم مملكة في عالم الأنوار.. كما يعتقد المندائيون بالأرواح الخبيثة "المه دهشوخا" ـ عالم الشر ـ ، الجن ، ابليس ، الشيطان.. وكلهم ينتمون إلى الروهة، الأم العليا لعالم الشر.

و الروح عند الصابئة المندائين قسمان: النفس "نشمئا" وهي النصف النقي من الروح ، الذي لا يخطئ ، و لا يحاسب ودلالتها العقل. و الروح "الروها" وهي النصف الثاني الذي تتجسد فيه العواطف و الرغبات ، وهي القابلة للوقوع في الخطأ لهذا تتعرض للحساب.

3 ـ عقيدتهم في النبوة

المندائيون لا يؤمنون بوسيط بين الخالق و المخلوق، فليس لديهم أنبياء، بل هم معلمون كبار بدءاً بآدم و انتهاءاً بيحيى بن زكريا عليهما السلام. إن الله عندهم لا يكلم أحداً من البشر و لكنهم إذ ينفون نبوة البشر، يقولون بمخلوق متوسط بين الروحانية و المادية يهدي الناس إلى الحق.. هذا المخلوق يستمد المعرفة من الحضرة القدسية و يفيض الفيض على البشر.. فكلام الله لا يصل إلى الناس بواسطة مخلوق بين النور و التراب.. حكمه حكم النبي، و من هذا القبيل في نظرهم آدم و شيت و أدريس و يحيى عليهم السلام، فهم ليسوا أنبياء بالمفهوم المعروف للنبوة عند أهل الأديان المنزلة، و إنما هم أناس طهروا أنفسهم حتى توصلوا بنوع من الكشف إلى المعارف العليا. هؤلاء هم المعلمون.. فذا ما وصفوهم بالأنبياء فهم إنما يقصدون ذلك، أي أنهم معلمون يستمدون معارفهم بطريق الكشف لا بطريق الوحي.

4 ـ عقيدتهم في الموت والحياة الأخرى والجنة و النار

يعتقد المندائيون أن الموت انتقال من العالم المادي ـ الذي هو بمثابة سجن ونفي مؤقت للروح سرعان ما تتحرر منه بالموت، و تنتقل إلى العالم الروحي وتخلد هناك. لأن الجسد عندهم فان و الروح خالدة، و لكن بعد أن تحاسب حساباً عسيراً بأن توزن أعمال صاحبها، فأن رجحت حسناته فأن روحه تذهب إلى عالم الأنوار "الجنة" ، و إن رجحت سيئاته فإن روحه تقاد إلى المطهر "المطراثة" في عالم الظلام "النار" حيث تتعذب فيه بدرجات متفاوتة إلى أن تتطهر من ذنوبها ثم ترسل إلى عالم الأنوار.

لقد أكدت الديانة المندائية على المعرفة فهي من اسمها "المندائية" أي المعرفة.

ملاحظة : هذا المقال كتبه الراحل عبدالرزاق عبدالواحد و لم يسبق نشره من قبل، و كان مقررا نشره عبر مركز ذرا للدراسات و الابحاث بفرنسا ..

مع تحيات المشرف العام : علي المرعبي





الاربعاء ٩ شعبــان ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / نيســان / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الرزاق عبد الواحد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة