شبكة ذي قار
عـاجـل










سمَّى ابنه البكر رشاداً تيمناً باسم والده، غير أن رفاقه وأبناء جيله لم يكونوا لينادونه سوى بـ ( أبو نضال ) الاسم المحبب إلى قلبه والذي اكتسبه أيام نضال الزمن الجميل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

إنه الرفيق المناضل الدكتور أحمد رشاد بارودي الذي غادرنا إلى دار البقاء منذ أيام وقد تغلب عليه المرضى وتعاقبت على جسده عقود السنين فما وهن ولا ضعف لا استسلم لليأس، رغم أن "مشاويره" المعروفة إلى مقهى الأندلس في طرابلس توقفت لسنين لم تعد معها "العصا"، الصديقة المثالية للاتكاء عليها، ورغم ذلك بقي يتابع الأحداث يوماً بيوم، يتصل بالرفاق والأحباب كلما لفت نظره خبر ما فيعلق عليه ويكتب، فكان له عاموده الصحافي المميز في جريدة "البيان" الطرابلسية، وعندما كان يجد ضرورة ما للاستفاضة في النقاش حول أحد المواضيع الساخنة، لا يتورع عن استدعاء من يرى فيه نداً للحوار فيتناول وإياه مجريات الحدث للوقوف على الاستنتاجات التي تروي غليل المنطق التحليلي لديه، فيدوّن كل ذلك في كتاباته التي سبق ودونها مطبوعة في كتابه المميز الصادر عام 2014 حاملاً عنوان الوحدة الاتحادية طريق النهضة العربية، محللاً الأوضاع المحلية والإقليمية والعربية وهو يشعر بالفخر في أنه يقدم "هذا الجهد الفكري المتواضع تحية لأرواح ملايين الشهداء العرب الذين سقطوا في مختلف ساحات الوطن العربي من بغداد وسواحل الخليج العربي إلى سواحل المغرب على المحيط الأطلسي دفاعاً عن الأمة العربية".

وقد أصرَّ على طباعة هذا الكتاب على نفقته الخاصة وتوزيعه بالمجان تعميماً للفائدة وكم كان بوسعه أن يعرضه على أحد النافذين والمتمولين لينوبون عنه في ذلك ويقيمون حفلات التوقيع من هنا وهنالك، غير أنه كان بأبى كل ذلك وبفضل أن يبقى الجندي المجهول الذي تحتاجه الأمة في زمن الملمات، لا الذين تستهويهم الشعبوية والأضواء المزيفة التي لا تلبث أن تفقد بريقها وأشعتها فتتغير مع تغير المواقف والسياسات.
لم أكن أعرف عنه سوى أنه أحد رجالات الرعيل الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي تأسس في العام 1947، فكان الدكتور أحمد بارودي أحد المسؤولين الأساسيين للتنظيم الفتي الجديد الناشئ في طرابلس والمتمدد في كل مناطق ومحافظات ومناطق لبنان.

وكان الراحل الكبير الأستاذ خالد العلي، الذي كان من أوائل اللبنانيين المنتسبين للبعث وهو يدرس الحقوق في دمشق، وعضو القيادة القومية الأسبق، قد روى لي يوماً،
إنه لما عاد إلى طرابلس في منتصف خمسينيات القرن الماضي، طُلب منه الاتصال برفيق بعثي من طرابلس يسلمه وثيقة الانتقال، فتوجه حينذاك إلى كلية التربية والتعليم الإسلامية في طرابلس حيث سأل عن الأستاذ أحمد بارودي فكان هو الرفيق المقصود لهذه المهمة كأحد المسؤولين حينها عن المنظمة الحزبية في طرابلس.

يومها كان الجميع ينادونه "ابا نضال" حين كان شعلة حقيقية من النضال، لم تقعده عقود النضال الأخرى عن سبل التحصيل العلمي وتكوين الأسرة والعمل الوظيفي، وأن يبقى ملتصقاً برفاقه حتى في سنوات الانقطاع عن التنظيم، التي كان خلالها يستقبل القريب والبعيد في مختبر المستشفى الحكومي في طرابلس ليقدم خدماته للجميع فيسأل عن أحوال هذا الرفيق وأوضاع ذاك وينصح ويوجه وكأنه ما زال في صلب الأطر التنظيمية المعهودة ولم يغادرها البتة.

وأنا استذكر اليوم رفيقنا الراحل الدكتور أحمد بارودي لا بد لي من أن أسجل ما كان عليه من خصال أخلاقية وإنسانية قلَّ مثيلها، ووطنية متناهية وإصرار على مواصلة العطاء رغم تقدم السنين، وهو الذي ولغاية الأمس كان يسأل عن نشرة "طليعة لبنان الواحد" التي يصدرها الحزب، في حال تأخر رفيق عمره المناضل أبو فؤاد ازمرلي عن توصيلها إليه، ثم ليعود ليتصل بي في الكثير من المرات عندما كان يجد الحاجة للإضاءة على موضوع ما أو تقصيرنا في تغطية حدث لم نشبعه تحليلاً، فيقدم ما لديه من اقتراحات تفي المواضيع المطروحة حاجتها من التغطية.

وإن كنت أنسى، فلا أنسى يوم دخل علي في مكتب الإعلام الكائن في مقر الحزب بأبي سمراء غداة ترشيح الحزب للراحل الكبير الدكتور عبد المجيد الرافعي للانتخابات النيابية في العام 2005.

حين بادرني قائلاً : اسمع يا رفيق نبيل، في العام 1972 كنت أحد مسؤولي الحملة الإعلامية للحزب حين رشحنا الرفيق الدكتور عبد المجيد للمقعد النيابي بطرابلس، واليوم، وأنا علمت أنك المسؤول الإعلامي عن حملة الحكيم ها أنا أضع كل إمكانياتي وخبرتي بتصرفك وسأعمل جاهداً على تزويدك بمقال يومي للملاحق الانتخابية التي ستصدرونها في هذه المناسبة.

كم كان كبيراً هذا الرجل وهو يحمل عصاه التي يتكئ عليها وهو يحنو على رفيق مثلي من الجيل الثالث أو الرابع للحزب، لست أدري، ليقدم كل هذا الجهد وقد بلغ من العمر عتيّا، سوى أن البعث ليس إلا الفكرة المتجددة، شأنه شأن الجينات الوراثية التي تنتقل من جيل إلى جيل، فكيف إذا كان ذاك الجيل هو الرعيل الأول الذي مثله الدكتور أحمد البارودي طيب الله ثراه واسكنه فسيج جناته رحمات الله عليه حياً بيننا وغائباً عنا بالجسد فأمثال "أبي نضال" لا يموتون وستبقى ذكراهم مشاعل مضيئة تنير لنا الطريق، كما بالأمس واليوم وغداً وكل يوم.

* انتقل إلى رحمته تعالى ووري في الثرى يوم السبت 9 / 12 / 2017





الثلاثاء ٢٣ ربيع الاول ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / كانون الاول / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة