شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

لا يمكن لأمريكا أن تكون شرطي أو مصرفي العالم ، ولا حتى قاضي أخلاقي كوني .. فالأولى تقتضي ( الشرعية ) ، وتستند الثانية إلى ( السيولة ) ، بينما ينبغي أن تنهل الثالثة من ( مُثلْ أخلاقية نقية ). " زبغنيو بريجنسكي ".

- أمريكا والأمم المتحدة .. الانحسار والتراجع :

- من أجهض القطب الأوربي الوليد بعد الحرب الباردة ؟ :

وفي ضوء هذه المعوقات فأن القوة التأثيرية لأمريكا بدأت بالانحسار ، ليس نتيجة لانحسار ( القوة ) ، إنما نتيجة لعدد من الأسباب ، تقع في مقدمتها - إنها غير عادلة ، ومنحازة لمصالحها غير المشروعة ، وانتقائية في سلوكها ، وتجريبية في سياساتها، وعدوانية في نهجها الإمبريالي .. في هذا الإطار تفقد أمريكا تأثيرها العالمي وبالتالي صدقيتها في السياسة الدولية .. وتصبح القيم الأمريكية عرضة للتهتك ، ويمسي هذا المزيج عبئًا على كاهل صاحب القرار المؤسسي ، وبالتالي تتعرض ( القوة ) و( الثروة ) إلى التصدع والتبدد ، فيما يتعرض العالم إلى مزيد من الاضطراب .. فهل أن سياسة أمريكا ناجحة .؟!

1- أمريكا والأمم المتحدة .. الانحسار والتراجع :

- سلبت أمريكا ، كقوة متفردة بعد الحرب الباردة ، روح الأمم المتحدة وأحبطت قدراتها وعملت في خارج نظامها وسربت مجهوداتها في السلم والحرب وأضرت بالأمن والسلم الدوليين ، فحطمت شعوب وسلبتها حريتها وثرواتها وهجرتها وعبثت بأمنها واستقرارها وتعاونت مع شياطين الأرض من أجل الوصول إلى أهدافها التدميرية المنافية للإنسانية .. وكانت تحظى بسلطة عالمية متزايدة في ظل الثنائية القطبية .. ولكن هذه السلطة تفتقر إلى ( القوة العالمية الشرعية المقبولة ) لكي تمارس دورها في حفظ الأمن والسلم الدوليين في واقع دائم التغيير أولاً ، وجمود ونمطية أداء الهياكل الأممية وافتقارها للمرونة ثانيًا ، وانعدام أي صلة لهذه الهياكل مع أداة ( القوة ) الأممية ثالثًا .. وإن استخدام حق النقض ( الفيتو ) من أجل المصلحة العالمية قد أختزل كليًا إلى حق النقض بما يخدم المصلحة الانفرادية للدولة الأمريكية والروسية والصينية .. والمعنى في هذا : إن أعضاء مجلس الأمن الدولي لم يتبنوا ( فعلاً جمعيًا ) يخدم الأمن الدولي ، إنما باتوا لا يكترثون أو غير مهتمين للأزمات والمشكلات والمعضلات العالمية الخطرة .. ومنها التدخل الخارجي والاستعمار الاستيطاني والتمدد الديني – المذهبي - الإثني بالضد من الحق السيادي للدول ، الأمر الذي ترك الباب مفتوحًا للفوضى وللإرهاب وإرهاب الدول .

- الحديث عن ( حكومة عالمية ) هو كلام مضلل يصطدم أو يجرد الدولة القومية من سيادتها واستقلالها الوطني ، وتعد صيغة توسيع تمثيل مجلس الأمن الدولي صيغة عملية ، لتشمل قارات العالم بصلاحيات جديدة محددة وصارمة بما يخدم حقوق الشعوب ويحافظ على الأمن والسلم الدوليين ، وبآليات غير جامدة مدعومة بشبكة من الهيئات الدولية ذات الطابع الوظيفي ومنظمات متعددة الأطراف .. ومع كل ذلك ، فأن مجلس الأمن الدولي يظل معاقًا بفعل هيكليته ، التي تعبر عن حقيقة واقع احتكار القوة من لدن المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ، وهم على عدد الأصابع ، فيما لم تشارك قوى كثر في صنع النظام الدولي الراهن وهي الآن مستعدة للنهوض بأعباء التحولات والمشاركة في تأسيس النظام الدولي الجديد .

- يقول " بريجنسكي " ( إن أي محاولة لتعديل ميثاق الأمم المتحدة سيشرع الأبواب للمطالبين الآخرين ، الذين قد يشعرون بتمتعهم بمثل هذه المكانة العالمية ، ويقصد هنا - ألمانيا والهند واليابان والبرازيل ونيجيريا وأوربا - إن دخولهم في نادي حملة حق النقض ( الفيتو ) لن يضعف من المكانة الخاصة للأعضاء الدائمين الحاليين فحسب ، بل سيزيد من الاحتمالية الرياضياتية لحالات إعلان حق النقض ) .!!

- ولكن ، الأعضاء الدائميون في مجلس الأمن الذين لهم حق استخدام ( الفيتو ) هم المنتصرون في حرب لم تعد شروطها وظروفها قائمة ، الأمر الذي يستوجب الانفتاح في صنع القرار ورفض احتكاره والتخوف من ازدياد محاولات شل مجلس الأمن وإعاقة حركته بالاتجاه الذي يخدم الأمم والشعوب ويحل المشكلات بروح العصر بآليات مشروعة وبضوابط معلنة وبمحددات تمنع صيغ التكرار في استخدام هذا الحق بعرض الأمر على الجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة عدل دستورية دولية .. يجعل التخوف من تكرار أو ازدياد استخدام الـ( الفيتو ) ، تخوف في غير محله، طالما توضع في الاعتبار ( ضوابط ) متفق عليها تتلائم مع الواقع المتحرك الجديد ، الذي يسود العلاقات المستقبلية على المسرح السياسي الدولي .. هذه الشروط والضوابط تعتبر المفتاح الذي يمنع حشر الملفات في الزوايا الضيقة أمام مجلس الأمن الموسع وآلياته والجمعية العامة للأمم المتحدة ، التي يتوجب أن توكل لها صلاحيات مهمة قد تأخذ شكل التشريع والرقابة على القرارات خاصة في مسائل تتعلق بالأمن والسلم الدوليين .

بيد أن الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي الدولة الأغنى والأقوى في العالم ، رغم أنها تجمع بين القوة والثروة ، ولكنها تفتقر إلى السياسة الشرعية والأخلاقية لكي تكون مقبولة ، فمثلاً : كيف يمكن قبول السياسة الأمريكية المنحازة إلى ( إسرائيل ) منذ عام 1948 ولحد الآن ؟ ، وكيف يمكن قبول تمسك بريطانيا بوعد ( بلفور ) سيئ الصيت ، منذ ما قبل عام 1948 ، الذي كرس وجود الكيان الصهيوني كيانًا مغتصبًا غريبًا أنتج مأساة أستمرت أكثر من (69) تسعة وستون عامًا ، تحمل وزرها دون جريمة تذمر شعبنا الفلسطيني ، وتحمل وزرها شعبنا العربي حروب هذا الكيان المتكررة ؟! .

- الإمبريالية الأمريكية غير قادرة على توظيف قدراتها من خلال الأمم المتحدة للمزاوجة بين ( القوة ) و( السلطة ) المقبولة دوليًا على أساس ( الشرعية ) .. وعلى الرغم من قوة الولايات المتحدة ، إلا أن سلطتها ( السياسية ) و( الأخلاقية ) تظل في موضع الشك والجدل العقيم ، طالما أنها غير مكترثة لقيام نظام دولي جديد ( عادل ) يحمي مصالح دول العالم ومنها الدول الضعيفة ، ويحمي التغيرات السلمية ويراعي الكوارث العالمية ، الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والبيئية .

- التحديات التي تجابه النظام الدولي ، الذي لم يولد بعد ، هي تحديات ( مركبة ) وأساسية ، لها أبعادها الـ( جيو- سياسية ) والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. تتشابك جميع هذه الأبعاد لترسم مسار التحولات الناجمة عن سوء توزيع ( القوة ) واتساع دائرة ( القدرة ) في تعظيم النزاعات الإقليمية المسيطر عليها تحت خيمة الردع النووي الشامل المؤكد .

- استفحال ظاهرة التشويش الفكري واختزال الفكر المنظم لواقع الصراع بافتراضات وسيناريوات تتعارض مع القدرات والاحتمالات ، وتصطدم مع الاعلانات الفارغة عن ( ديمقراطيات ) و( حريات ) و( إملاءات المفردات والمصطلحات ) التسويقية في عالم الأعلام السياسي أو السياسة الاعلامية ، الأمر الذي ينتهي إلى تفاقم الأوضاع وتشعب أزماتها بالتغطية على الأساسيات والعمل على ( خلط الأوراق ) والتعمية السياسية والتشويش الفكري .. إن استفحال الصراعات الفكرية في نطاقها الدولي يأتي من عدم الفهم للقواسم المشتركة التي تشكل الأساس وعدم المساواة ، التي تستولد الأثارة وتوجيه نزعات التصادم .

2- من أجهض القطب الأوربي الوليد بعد الحرب الباردة ؟ :

في بداية تسعينيات القرن الماضي ، ومع إنهيار الاتحاد السوفياتي ، إنهار نظام القطبية الثنائية الدولي ، وبرزت الولايات المتحدة الأمريكية كقطب وحيد في العالم تتمتع بالقوة والثروة والقدرة على الحركة .. واعتقد الكثير من السياسيين والدبلوماسيين بأن انتهاء الحرب الباردة سيجعل بمقدور أمريكا أن تفرض الحلول السلمية لمختلف القضايا والنزاعات في العالم .. كما ساد الاعتقاد بأن أجواء ما بعد الحرب الباردة من شأنها أن تتيح الفرصة أمام الأمم المتحدة كي تقوم بدورها في حل الملفات العالقة بفعالية وموضوعية تمهيدًا لقيام نظام دولي جديد يصبح فيه القانون الدولي هو الحكم ويقوم بدوره لحماية الدول الضعيفة .. غير أن الذي حصل هو أن القوى الصناعية والمؤسسة العسكرية الأمريكية وهي تأخذ طريقها في اندماج تاريخي مع ( أيديولوجيا دينية وشوفينية متطرفة ) قد تمكنت من القيادة الأمريكية ودفعتها إلى الحروب العدوانية على أفغانستان والعراق تحت ذرائع واهية لا أساس لها .. وقد حاولت دول ( فرنسا وألمانيا وروسيا ) على سبيل المثال منع العدوان على العراق إلا أن الولايات المتحدة وبريطانيا قد اتخذتا قرار الحرب خارج سياقات الأمم المتحدة وخرقًا للقانون الدولي .. فحصل الاحتلال وحصل التدمير الشامل والتهجير والتغيير الديمغرافي لشعب العراق وعم الفساد وحل التفسخ في منظومة القيم الاجتماعية تحت دعاوى طائفية لم يكن يعرفها العراق من قبل وتحت ذرائع إثنية غريبة على نسيجه الاجتماعي .

- ولمنع تكرار مثل هذه الحروب العدوانية الأمريكية وحفاظًا على التوازن الدولي .. جاء اجتماع بروكسل يوم 29-04-2003 ، ليعبر عن رؤية دولية للعالم تحفظ التوازن والاستقرار الدوليين .. حيث قال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ( حينما تنظر إلى تطور العالم ، فأنك ترى أن عالمًا متعدد الأقطاب يولد بشكل تدريجي - وأضاف - من أجل توازن جيد ينبغي أن تكون هناك أوربا قوية وولايات متحدة قوية ، مرتبطتان معًا بميثاق ثقافي قوي .. وهذا يعني ان العلاقات بين الاتحاد الأوربي وأمريكا ينبغي أن تكون علاقة تكامل وشراكة ، بينَ متساويين ، وإلا فسنجد أنفسنا أمام عالم مختلف لا تتوقعه فرنسا ولا تريده ) .. فيما صرح " توني بلير" رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وهو يروج لرؤية أمريكا حول عالم ذي قطب واحد ويحذر من نظام عالمي جديد يتنافس فيه قطبان أو أكثر.. ( إن رغبة فرنسا في إنشاء عالم متعدد الأقطاب من شأنها أن تخلق المنازعات والتنافس وعدم الاستقرار ، وفي المقابل على أوربا وأمريكا أن تعملا كقطب واحد لحل المشاكل ، وإلا فإننا سنعود إلى انقسام العالم الذي قطعنا معه بانتهاء الحرب الباردة ) .. إلا أن الرئيس " فلادمير بوتين " قد رد عليه ، ( إذا كان مسلسل صنع القرار في مثل هذا التصور ، مسلسل ديمقراطي فإننا نوافق عليه ، ولكن إذا كانت القرارات تتخذ من طرف عضو واحد من المجموعة الدولية وعلى الباقي أن يؤيدوه ، فأن هذا أمر لا يمكننا قبوله ) .

- بيد أن هذا الرفض الفرنسي والروسي والألماني والبلجيكي وباقي الدول لم يتحول إلى رفض عملي يأخذ طريقه في شكل سياسات - استراتيجية لخلق التوازن الضروري للاستقرار مقابل التوجه الأمريكي الفاشي ، إلا من خلال اجتماع بروكسل والاتفاق الذي نتج عنه ردًا عمليًا ، رغم أنه كان في بداياته ويحتاج إلى استقطابات باقي الدول الأوربية وغيرها من أجل وضع سياسة أمنية ودفاعية أوربية مستقلة عن السياسة الأمنية الأمريكية ، التي تستلب القرار الأوربي .. إذ تشكل ( ألمانيا وفرنسا ) النواة الأوربية الصلبة لتنسيق السياسات الدفاعية الأوربية بعيدًا عن الابتزاز الأمريكي .

- في بروكسل العاصمة البلجيكية وعاصمة الاتحاد الاوربي ، أجتمع قادة دول أوربية ( فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ ) يوم 29 - 04 - 2003 وأصدروا بيانًا يعلنون فيه إنشاء نظام للتخطيط العسكري المشترك في نهاية عام 2003 وعن قيادة للعمليات العسكرية الأوربية لا يتدخل فيها حلف شمال الأطلسي .. كما أعلن البيان عن عزم الدول الأوربية الأربع وكل من ينضم إليها من دول الاتحاد الأوربي لأنشاء قوة تدخل سريع (RDF) خاصة بها، وإطلاق اتحاد أوربي للأمن والدفاع كجزء من أي دستور أوربي مقبل .

- لقد أتسم هذا البيان ، رغم الظروف الدولية الصعبة ، بأهمية استراتيجية وتاريخية لأكثر من سبب :

أولاً - إنه قرار يدخل دائرة التنافس مع الولايات المتحدة لتكريس كيان أوربي مستقل في قضايا الأمن والدفاع .

ثانيًا - كما أنه قرار يطرح تساؤلاً مهمًا وهو ، ما هو الدور الذي يضطلع به حلف شمال الأطلسي بعد سقوط حلف ( وارسو ) وانهيار المنظومة الشرقية ؟ ، بمعنى انتفاء الحاجة لحلف ( الناتو ) ، الذي أسس لمجابهة الاتحاد السوفياتي .

- ومع ذلك فأن التفسيرات المخففة التي ظهرت آنذاك في أوربا كانت تشير إلى إن هذا القرار لا يستهدف حلف الأطلسي ولا الولايات المتحدة الأمريكية .. وقد عبر عن هذه الرؤية الاستراتيجية " جيرهارد شرودر " المستشار الألماني الأسبق ( داخل حلف شمال الأطلسي ، ليس لدينا الكثير من أمريكا ، وفي المقبل لدينا القليل من أوربا ، وهذا ما نسعى إلى تغييره بواسطة المقترحات ، التي تقدمنا بها ) .. والمعنى في هذا التصريح هو إن حلف شمال الأطلسي قد انتهى أوربيًا، وإن على الاتحاد الأوربي أن ينشئ مؤسسته الدفاعية والأمنية الخاصة به ، والتي تراعي مصالحه الاستراتيجية لا مصالح أي كيان آخر .!!

- ومع ذلك أيضًا ، فأن البيان المشترك أكد على أن حلف شمال الأطلسي يبقى حجر الزاوية (Corner Stone) في السياسة الدفاعية الأوربية ، كما أن ( الشراكة الاستراتيجية ) لا تزال تشكل أولوية استراتيجية لأوربا .. ولكن الملاحظ أن البيان قد أختتم نهايته ( لقد آن الأوان لاتخاذ خطوات جديدة على طريق بناء أوربا أمنيًا ودفاعيًا إستنادًا إلى تقديرات عسكرية أوربية قوية ، من شأنها أن تعطي حيوية لحلف شمال الأطلسي ) .. ولكن هذا البيان قد قرع في واشنطن ناقوس الخطر على تَزَعُمْ أمريكا لأوربا .!!

- وقد جاء رد الفعل الأمريكي الغاضب على لسان " كولن باول " وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ( إن أربعًا من دول الاتحاد الأوربي قد اجتمعت مع بعضها البعض ووضعت نوعًا من المخططات لإنشاء نوع من القيادة العسكرية .. وإن ما نحتاج إليه ليس هو المزيد من المقدرات وجعل البنيات والقوات الموجودة هناك أكثر مرونة ) ، وكان ذلك بشيء من الاستخفاف .. طالما أن أمريكا كانت عازمة على تحطيم مرتكزات التوازن والاستئثار عسكريًا ، وبناء نظام القطب الواحد الذي يتطلع ليحكم قبضته على العالم، وهو الأمر الذي جعل أمريكا تفكر جديًا بمنع أوربا من بناء نفسها قطبًا من أقطاب التعددية التي لا تريدها أمريكا .!!

- معضلات قوة عظمى :

يتبـــع ...





الخميس ٢٧ صفر ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / تشرين الثاني / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق الدكتور أبو الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة