شبكة ذي قار
عـاجـل










تحيي الجماهير في تونس ذكرى إعلان الجمهورية في مثل هذا اليوم 25 جويلية – تموز حيث تم إلغاء الملكية عام 1957 واعتماد نظام جمهوري وفق آلياته ومفاهيمه القانونية والسياسية المعروفة.

جاء هذا الإعلان معبرا عن رغبة التونسيين فجر الاستقلال في القطع مع منظومة الحكم السابقة لما يحوم حولها من شبهات متأكدة تشي بتورطها في استقدام الاستعمار وتهيئة كل ممهداته بدءا بإشاعة الفساد وتعميمه واحتكار السلطات بيد البلاط وحاشيته وصولا إلى إغراق تونس في ديون خيالية أهدر أغلبها لمصالح المتنفذين في البلاد ما أدى لإعلان عهد الحماية وما تلاه، كما مثل الانتقال بتونس من الملكية للجمهورية بارقة أمل حقيقية في نحت مسيرة جديدة يكون الصالح العام فيها والقانون والمواطنة والبناء والتشييد والرقي أساسها ومحورها خاصة بعد رحيل الاحتلال الفرنسي الغاشم وهو الأمر الذي من شأنه أن يرفع عن التونسيين ما كبل سواعدهم وعقولهم وحال بينهم وبين الإبداع والعمل الخلاق في جوانب الحياة كافة.

وبعيدا عن الإفراط في النظرة السوداوية القاتمة، حملت الجمهورية الوليدة بعض المنجزات التي أضفت حيوية وتطويرا نسبيين على حياة التونسيين بأن أولت التربية والتعليم والتغطية الصحية أولوية ملحوظة نصت عليهما إجراءات تعميمهما ومجانيتهما ما مكن من إحداث قفزة تعتبر في تلك الحقبة نوعية ومحترمة إذا ما قارناها بتجارب الجوار. إلا أنها – أي هذه المرحلة الجديدة – اصطدمت بالعديد الثغرات والنكسات لما حاق بها من عدم صدقية المشرفين عليها ذلك أنهم ضربوا طوقا شبه كلي حولهم واتسعت الفجوة بينهم وبين الجماهير عبر سلسلة من الإجراءات والقوانين التي مكنت حكام تونس الجدد وقتها من بسط سيطرتهم التامة على مفاصل الدولة والقرار معا، فكانت الحياة السياسية حكرا عليهم فقط وقاموا بخنق جميع الأصوات المعارضة وتخوينها ثم تقتيلها أو نفيها أو الزج بها في السجون فيما بعد ليصبح الحكم الجمهوري شبيها لحد كبير بالنظام الملكي وهو ما اتضح في سيطرة حزب الدستور على الدولة كما تمت مبايعة بورقيبة وهو أول رئيس للجمهورية بعد رحيل الاستعمار ليمنح الرئاسة مدى الحياة.

وفي ظل هذه الأوضاع التي اتسمت بديكتاتورية الحزب الدستوري والرئيس المؤبد وإحكام قبضتهما على البلاد، خيمت على الجمهورية أجواء القلق والخوف والرعب لعبت فيها الأجهزة الأمنية والدعائية وغيرها من الأجهزة التي استفردت بها منظومة الحكم أدوارا خطيرة أجبرت المواطنين على التسليم بالأمر الواقع إلا فئة قليلة من المثقفين والمتعلمين وسليلي حركة المقاومة الوطنية التي تعرضت بدورها للتشويه والملاحقة، ولم تجد هذه الفئة من أطر النشاط والعمل إلا المنظمات النقابية كاتحاد الشغل والاتحاد العام لطلبة تونس وغيرهما بعد أن تم تحجير التنظيم والنشاط السياسي في اعتداء صارخ على الدستور.

لم تقتصر تعثرات الجمهورية الناشئة عند المجال السياسي بل شملت مختلف أوجه الحياة قانونية واجتماعية واقتصادية وغير ذلك، إذ شكل القانون سوط عذاب على عموم التونسيين بعد أن غدا حاميا لمجموعة من المحيطين بالرئيس وبقيادة حزبه يمنحهم شتى الامتيازات ويحرم بقية الشعب منها، بل وغرق هذا الشعب في سيول المعاناة الجارفة بفعل انتهاج الجمهورية الوليدة سياسات تنموية واقتصادية فاشلة أو تم إفشالها عنوة خدمة لمصالح ضيقة، وعاين التونسيون نشأة خط وهمي انقسمت بفعله البلاد لشقين اثنين هما شريط ساحلي شرقي يرفل أهله في نعماء البلد وخيراته وآخر داخلي غربي يعاني الخصاصة والفقر والتهميش الكلي حيث تقتصر مهامه على إنتاج الثروة دون أي عوائد تذكر وهو ما يتضح بمنتهى الجلاء خصوصا في البنية التحتية شبه المعدومة والبدائية وانعدام الخدمات التي إن توفر بعضها فإنه لا وجه للمقارنة بينه وبين شبيهه في الساحل ناهيك عن ارتفاع الأمراض هناك وتأخر هذا الشريط في كل المجالات خصوصا العلمية.

تواصل هذا الخلل البنيوي الفظيع الذي نخر الجمهورية حتى بعد انتهاء الحقبة البورقيبية وتدشين الحقبة النوفمبرية التي حملت وعودا جمة في بدايتها فحافظت على نزعتها الاستبدادية وانعدام الانضباط والاحتكام للقانون فيصلا بين الجميع بل تنامت مظاهر السطوة العائلية وتنفذ المحيطين بالبلاط وازداد اتساع الفوارق الطبقية وتعاظمت قبضة الأمن والمخابرات الحديدية وتواصل التضييق على المعارضة السياسية باستثناء تلك الصورية التي نشأت في رحم النظام، وحتى الأحداث التي عجلت في إحداث تغيير في رأس النظام مطلع عام 2011 لم تأت بجديد يذكر بل ربما لا نبالغ إن قلنا إنها شهدت تراجعا وانحدارا رهيبا حتى لو قورنت بكل الحقبتين السابقتين.

فهذه الأحداث التي تمخضت عنها ما تسميه النخب في تونس ولادة الجمهورية الثانية عرت فشل الجمهوريتين معا بانعدام جميع مقومات الجمهورية الأساس لتظل آمال التونسيين كبيرة وصعبة التحقق في المدى المنظور ذلك أن المواطنة كقيمة حضارية ودستورية وإنسانية تبقى هشة البنيان في غياب دعائمها الأساسية ووسط تشبث النظام بغطرسته واستخفافه بحقوق الجماهير اقتصادية واجتماعية وسياسية وخاصة في المجالات القانونية بعد أن بقيت البلاد تدار بعقلية أمنية خالصة الكلمة العليا فيها للأجهزة البوليسية التي تتسابق لقمع أي صوت ينادي بتغيير حقيقي، كما يظل الواقع الطبقي والفوارق الجهوية على حالها القديم ناهيك عن غياب الشفافية خصوصا فيما يتعلق بالمسائل الحارقة والملفات خطيرة كالثروات الباطنية والسيادة الوطنية وهوية البلاد التي باتت مهددة من قبل من ادعو تأسيس الجمهورية الثانية أنفسهم.

فلا جمهورية حقة بدون استيفاء الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية وتكافئ الفرص بين جميع أبناء الوطن بلا حيف أو تهميش ولن تقوم تلك الجمهورية ما لم يتحسس التونسيون أنهم سواسية ولا أحد منهم فوق القانون ودون أن يتأسس الأمن الجمهوري والقضاء الجمهوري والإعلام الحر النزيه وحين تنتفي سيادة العصابات المافيوزية وتتبدد سطوتها على مصائر البلاد وتختفي الرشوة والمحسوبية والانتهازية بكل أشكالها التي أفسدت الحياة في تونس.
 





السبت ١٢ ذو القعــدة ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أب / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة