شبكة ذي قار
عـاجـل










مضى على احتلال العراق 14 سنة كاملا، وتعرّضت بلاد ما بين النّهرين طيلة هذه المدّة لسلسلة متلاحقة من الجرائم المركّبة والمعقّدة والمبتكرة لم تعرف لها الإنسانيّة في تاريخها كلّه نظيرا.

عاش العراق على وقع حرب إبادة شاملة استهدفت البشر والحجر والشّجر، وطالت كلّ شبر فيه، وتنوّعت الخسائر النّاجمة عنها وتوزّعت على جميع الأصعدة سواء الماديّة أو البشريّة أو التّاريخيّة أو الحضاريّة. وكانت مظاهر التّدمير وعلامات التّخريب تسير وفق المخطّط الاستراتيجيّ العامّ الذي انبنى عليه مشروع غزو العراق الظّالم الخارج عن كلّ حدود تصورات العقل البشريّ بالنّظر لمغذّياته العنصريّة ودوافعه السّاديّة ونوازعه الإجراميّة الثّأريّة.

فلم يكن احتلال العراق كغيره من الاحتلالات المعروفة سابقا، وحتّى الاغتصاب الصّهيونيّ لفلسطين لم ينطوي على ما انطوى عليه المشروع الأمريكيّ في بلاد الرّافدين وذلك للاختلاف الهائل في القوّة التّدميريّة الهائلة المعدّة له والميزانيّة الماليّة العملاقة المرصودة له ناهيك عن الضّخّ الإعلاميّ الرّهيب الذي صاحبه مرفوقا بسيل جارف لا مهادنة فيه ولا انقطاع من الأكاذيب والتّلفيات والافتراءات والتّشويهات والتّضليل المتعمّد والوعود الكاذبة والشّعارات البرّاقة المخادعة علاوة على الغايات التي عمل أصحابه على بلوغها وهي غايات عميقة كان التّأسيس للنّظام العالميّ الجديد عنوانها الأبرز وإكمال بسط الهيمنة والنّفوذ الأمريكيّ المطلق على العالم. وواصل الاحتلال الأمريكيّ للعراق محافظته على أعلى درجات الوحشيّة واللّؤم والهمجيّة البربريّة من خلال تشكله من حلف كونيّ شمل أكثر من ستّين دولة تفرّقت مشاركتهم في الجريمة الأكبر في تاريخ الإنسانيّة بين العسكريّ والإسناد اللّوجيستيكيّ والإعلاميّ والمادّيّ عند انطلاقته، ثمّ على التّوافق الأمريكيّ والإيرانيّ الفارسيّ على تقطيع أوصال العراق وتمزيق نسيجه المجتمعيّ وإحالته للفوضى الهلاّكة العارمة والدّائمة، حيث تحوّلت أرض الرّشيد لمسرح تناغمت فيه الأدوار وتوزّعت فيه المهامّ القذرة بين الثّور الأمريكيّ الهائج والعلج الفارسيّ الأرعن الحاقد لتوغل في تعميق جراح العراق وإهلاك حرثه وزرعه وشفط ثرواته وتقتيل شعبه واغتيال علمائه وسرقة آثاره وتبديل ديموغرافيّته بمنتهى البشاعة ودونما شفقة وفي غياب كلّي لأيّ نوازع إنسانيّة أو قيم أخلاقيّة أو اعتبارات دينيّة.

إلاّ أنّه ورغم كلّ فداحة هذا العمل الإجراميّ بحقّ العراق، وبرغم ما توفّر عليه من عوامل الحسم وتحقيق المآرب التي قام لأجلها، فإنّ مشروع الاحتلال لم يتمكّن من تحقيق رهاناته مطلقا إلاّ إذا اعتبر رعاته وعتاته ودهاقنته حصد زهاء خمسة ملايين قتيل عراقيّ وتشريد نصف سكّان البلد إنجازا قد يستحقّ مجرّد الإشارة إليه، بل إنّه قد فشل فشلا ذريعا ذلك انّه أخفق طيلة هذه السّنين في تقسيم العراق وتمرير مشروع الشّرق الأوسط الكبير ومعاودة تفتيت الوطن العربيّ ناهيك عمّا خلّفه من ركود وانهيار اقتصاديّ خانق ضربا أغلب اقتصاديّات أضلع الاحتلال وخصوصا الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران.

هذا، ولا يبدو في الأفق أيّ بارقة أمل لمشروع الاحتلال الأمريكيّ والإيرانيّ للعراق في النّجاح، بل إنّ هذا الاحتلال يواجه منعطفات كثيرة قد تسرّع في انتهائه واندحاره. فليس خافيا على أحد أنّ هذا المخطّط الشّرّير الآثم والشّيطانيّ قد اصطدم بمقاومة عراقيّة مستعرة شمل مداها أغلب مدن العراق ومحافظاته وبرفض شعبيّ واسع لم تفلح سياسات التّرويع والتّرغيب في التّقليل منهما ما عوّق تقدّمه. ولعلّ أهمّ ما تمثّله هذه المنعطفات الجديدة هو استفاقة الشّعب العراقيّ وانعدام تأثير مخدّر الطّائفيّة عليه حيث أدركت جماهير العراق أنّ الهدف من نشر هذه الآفة لم تكن إلاّ للتّعمية على جوهر ما يستهدفها لا في ثرواتها ولا في مستقبلها فقط بل وفي وجودها من الأساس، وهو ما عبّرت عنه التّقارير التي تفيد بتراجع شعبيّة الأحزاب الطّائفيّة من جهة، ومعانقة فشلها الذّريع في التّفاعل مع الشّأن العام علاوة على انهيار سمعة جميع بيادق الاحتلال وعملاء إيران لما ارتكبوه من جرائم آثمة وما كدّسوه من ثروات نتيجة إدمانهم سرقة ثروة العراق وإهدار المال العامّ من جهة أخرى.

وتأتي هذه المعالم الجديدة لصحوة عراقيّة شعبيّة لتزيد من تعقيد مهامّ الاحتلال والمنخرطين فيه، وهي المهامّ المتعثّرة بطبعها، ذلك أنّ حسم المعارك والحروب لا يحقّقه فقط التّفوّق العسكريّ والامكانيّات الحربيّة مهما بلغت ضراوتها.

وتتعمّق عزلة الاحتلال عبر ما تعانيه أركانه الرّئيسة من أزمات داخليّة لا تشمل فقط الجانب الماديّ والاقتصاديّ فحسب. فأمريكا المنهكة من جرّاء ضربات المقاومة العراقيّة والتي استحال ويستحيل عليها خوض حروب مباشرة، تعاني مشاكل اجتماعيّة متفاقمة بلغت ذروتها بتعالي أصوات مطالبة بفكّ عديد الولايات لارتباطها بالمركزيّة الفيدراليّة، لم تعد قادرة على التّورّط المباشر في المستنقع العراقيّ لوعورته من جهة ولانشغال الأمريكان بأكثر من ملفّ ساخن في أكثر من بقعة في العالم من جهة أخرى.

أمّا الفرس، فإنّهم بدورهم في مأزق حقيقيّ حيث فشل استخدامهم للورقة الطّائفيّة وخاب رهانهم عليها، تماما كما فشلت ميليشيّاتها الطّائفيّة في إنجاز المطلوب منها داخل العراق، هذا دون نسيان عدم مقدرتهم على الاستجابة لمستلزمات حماقاتهم المتكرّرة ومغامراتهم الخرقاء بالتّمطّط في أكثر من قٌطر عربيّ ما أرهق كاهلها اقتصاديّا واستنفذ مدّخراتها الماليّة واستنزف رصيدها البشريّ وخاصّة العسكريّ منه خصوصا بعد نفوق عشرات الآلاف من مرتزقتهم في سوريّة والعراق بالإضافة لاستمرار الفشل الكلّيّ في الأراضي السّوريّة وهو ما سيقضي على صورة العملاق الفارسيّ ويكسر تلك الهالة التي احتفظ بها طيلة العقد الأخير رغم زيفه وعدم استناده لمبرّرات موضوعيّة وواقعيّة، ويبقى اتّساع رقعة الاحتجاجات في الدّاخل الإيرانيّ وما تعانيه منظومة الملالي من غضب شعبيّ عارم وخصوصا ثورة الأحواز العربيّة وانتفاضة الأذربجيّين والهزّات في المناطق الكرديّة، تحدّيا جدّيا لمنظومة الشّرّ الفارسيّة ما سيدفعها حتما لترجيح كفّة ترميم بيتها الدّاخليّ وتطويق الأزمات هناك وبالتّالي سيضاعف ذلك من انهيار مشروع الاحتلال الأمريكيّ والإيرانيّ للعراق.

هذا ولا يجب ههنا إسقاط التّصدّع في العلاقات الأمريكيّة الإيرانيّة بعد صعود الإدارة الأمريكيّة الجديدة، إذ من شأن هكذا فتور أن يعمّق الخلافات على الأرض ويوسّع من دائرة التّصارع والتّجاذب بين الأمريكان والفرس ما يفقد مشروع الاحتلال ركيزة أساسيّة وإحدى رافعاته الأهمّ ألا وهو التّنسيق بينهما.

إنّ كلّ ما تقدّم على أهمّيّته قد لا يشكّل خطرا استراتيجيّا كبيرا يهدّد بنسف مشروع الاحتلال الأمريكيّ الإيرانيّ للعراق، لأنّ أكبر الأخطار والتّهديدات الجدّيّة التي ستعجّل بقبر المؤامرة الكونيّة الكبرى التي تعرّضت لها أرض ما بين النّهرين، هو حتما استئناف المقاومة العراقيّة الباسلة لأعمالها النّضاليّة ومعاودة النّهوض لجهادها وكفاحها المسلّح ضدّ طغمة الاحتلال الغاشم المجرم.

فالمقاومة العراقيّة بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ كانت وستظلّ الرّقم الأصعب في المعادلة العراقيّة وفي المنطقة برمّتها، وسيكون لفعلها انعكاسات جمّة على الإقليم والعالم معا.

ولا يأتي اعتبار استئناف المقاومة العراقيّة الباسلة لأنشطتها الجهاديّة من فراغ ولا هو بالقول الإنشائيّ، بل إنه يستند على حقائق ملموسة نضحت بها خصوصا مواقف قيادة المقاومة وقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ممثّلة في عدد من الرّسائل والتّعليمات والتّوجيهات التي أصدرها قائد البعث وأمينه العامّ وقائد المقاومة العراقيّة الرّفيق القائد شيخ المجاهدين عزّة إبراهيم والذي أكّد وشدّد على أنّ حزبه ورفاقه وخاصة المقاومة لم تتخلّى عن النّضال والكفاح المسلّح طيلة العامين الفارطين ولم تلق السّلاح وأنّها لم ولن تفكّر في ذلك مطلقا، كما بيّن بوضوح كبير أنّ المقاومة خيّرت في إطار قراءتها الاستراتيجيّة العامّة وموازناتها العسكرية وآثرت أن تتوقّف مرحليّا لحين الانتهاء من المواجهة مع داعش لأنّ المقاومة والحزب يريان - وهو ما لا يراه غيرهما – أنّ داعش كان فخّا محكما للمقاومة وللحزب يهدف لحرفهما عن حرب التّحرير الشّاملة والكاملة بإلهائهما بصنيعة مخابراتيّة أسّست لغرض تسريع تنفيذ مشاريع الاحتلال الأمريكيّ الإيرانيّ للعراق.

إنّ هذا الإعلان المباشر والصّريح والمتضمّن لاستئناف المقاومة العراقيّة لكفاحها، والصّادر عن الرّجل رقم واحد في العراق حاليّا وفي الحزب وفي المقاومة، إنّما هو دعوة للنّفير وللتّعبئة العامّة بما يدلّل على أنّ ساحة العراق ستتحوّل مجددا لجحيم مفتوح يبتلع الأعداء جميعا سواء كانوا فرسا أم أمريكانا ناهيك عن عملائهم وبيادقهم ومرتزقتهم، وهو تعهّد قديم متجدّد بمواصلة الدّفاع عن العراق العربيّ الحرّ الموحّد والتّضحية في سبيل مناعته واستقلاله بكلّ غالي ونفيس، وإنّ هذه الدّعوة بما تشكّله من رعب حقيقيّ لأضلاع الاحتلال للعراق، ستشكّل أكبر ضربة قاصمة له بإذن الله.





السبت ٢٧ جمادي الثانية ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / أذار / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة