شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ استيلاء الخميني على ثورة الشّعوب الإيرانيّة على النّظام الشّاهنشاهيّ وانتصاب ولاية الفقيه وسيطرتها على الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في الهضبة الإيرانيّة، حاولت منظومة الحكم إقناع العالم وخاصّة الإسلاميّ بمعاداته للامبرياليّة الأمريكيّة والصّهيونيّة العالميّة وذلك في مسعى لإخفاء مخطّطاتها التّوسّعيّة سيّما في الوطن العربيّ وفق ما تنصّ عليه نواميس ولاية الفقيه وتعاليمها.

وتصاعدت منذ ذلك التّاريخ، التّصريحات السّياسيّة والعسكريّة والدّينيّة الصّادحة بالموت لأمريكا وللكيان الصّهيونيّ فيما كانت الاتّفاقيّات السّرّية والتّطبيقات على الأرض تفصح عن المدى الواسع لحجم التّعاون الوثيق بين إيران الخمينيّة وعدوّيها المزعومين، وهو ما كشفت عنه فضيحة إيران غايت ذائعة الصّيت وكلّ ما تلاها منذ العدوان العسكريّ الفارسيّ الغادر على العراق.

وفي حقيقة الأمر، فلقد عملت إيران الخمينيّة ما في وسعها لضمان استقرار تحالفها الاستراتيجيّ مع أمريكا والكيان الصّهيونيّ مع المحافظة على حالة العداء الاستهلاكيّة، وعبّرت عن ذلك من خلال مواقفها وتذيّلها للمشاريع الامبرياليّة خصوصا تلك التي تستهدف العرب بدافعين كبيرين ومهمّين ممثّلين رأسا في ما طبع سياسة الفرس تجاه العرب من عدوانيّة وكراهيّة وعنصريّة وحقد وثارات، وفي رهانها على أنّ اصطفافها خلف " الشّيطانين الأكبر والأصغر كما تسمّيهما " سيمكّنها من تنفيذ أجنداتها الاستراتيجيّة والسّاعية لابتلاع أرض العرب وتطويع العرب قسريّا لإملاءاتها وعقيدتها بما يحقّق لها مرتبة تجعل منها قوّة إقليميّة مهمّة تشارك ولو بمقدار ضئيل في رسم الخرائط والمخطّطات في المنطقة الأكثر سخونة في العالم. واستفادت إيران الخمينيّة من توافق مخطّطات الأمريكان والصّهاينة طيلة العقود الأربع الأخيرة استفادة واضحة لتتعمّق في العشريّة الأولى ومنتصف العشرينيّة الثّانية من الألفيّة الثّالثة والتي توافقت مع غزو العراق في البداية ثمّ اضطلاعها بدور المحتلّ بالوكالة عن الأمريكان بعد فرارهم من المستنقع العراقيّ، وهو ما نتج عنه فيما بعد تمطّط إيران في أكثر من قٌطر عربيّ بطرق مختلفة تراوحت بين العمل المسلّح المباشر والتّغلغل النّاعم حسب طبيعة تلك الأقطار، وتمّ ذلك كلّه بمباركة أمريكيّة صريحة ومباشرة وتنسيق عالي بين واشنطن وطهران.

خلق هذا الوضع يقينا لدى الفرس بأنّهم ارتقوا لمرتبة الحليف الاستراتيجيّ للأمريكان، وبناء عليه سمح دهاقنتهم في غمرة نشوة تدلّل على قصور التّحاليل والتّقييمات للسّياسة الفارسيّة والتي تؤكّد وتشدّد على مدى واقعيّتها ونبوغ مؤثّثيها، وأباحوا لأنفسهم ركوب موجة من التّمرّد وصلت حدّ التّجرّئ على الاعتقاد بأنّهم صاروا منافسين جدّيين للأمريكان وهو ما عكسته مواقفهم خصوصا في سوريّة وتوّجت مطالبتهم بإقصاء الأمريكان من مؤتمر الآستانا واشتراطهم عدم مشاركتهم فيه إلاّ في سياق ما تسمح به ضوابط الدّيبلوماسيّة ليقبلوا على مضض بحضور واشنطن كضيف على المؤتمر.

أغفل الفرس إذن التّطوّرات والتّغييرات العميقة التي تجتاح المجتمع الأمريكيّ واستخفّوا بصعود دونالد ترامب للحكم وما يكتنفه من دلالات وما يمكن أن ينجرّ عنه، ليفيقوا بسرعة باغتت جميع المراقبين في العالم على حزمة من التّوجّهات العلنيّة التي يعقد ترامب العزم على سلوكها.

فترامب عبّر مرارا خلال حملته الانتخابيّة وقبلها عن استيائه العميق من الدّور الإيرانيّ في منطقة الشّرق الأوسط وخصوصا في العراق، كما وجّه انتقادات لاذعة لسلفه أوباما وإدراته التي غضّت الطّرف على التّجاوزات الفارسيّة، ولم ينتبه الفرس لتأكيد ترامب في أكثر من مرّة على يقينه بانّ غزو العراق كان أكبر خطأ في التّاريخ على حدّ وصفه.

إلاّ أنّ الفرس ووفق قراءتهم للمشهد العالميّ والأمريكيّ، ولاتّكائهم خصوصا على تحالفهم الوثيق مع الامبرياليّة الرّوسيّة الصّاعدة، لم ينتبهوا للاحتمالات الممكنة والخيارات المفتوحة للإدارة الأمريكيّة الجديدة. وها هم اليوم يفيقون على إهانة مباغتة وصدمة حقيقيّة تمثّلت في تراجع الأمريكان عن نظرتهم السّابقة للنّظام الإيرانيّ، واعتبروا إيران المسؤول الأوّل عن الإرهاب في العالم، واقترن ذلك مع بداية تصنيفات أشخاص ومؤسّسات إيرانيّة على كونهم إرهابيّين أو مورّطين في الإرهاب، ولم تقف الإهانة الموّجهة للإيرانيّين عند هذا الحدّ، بل ذهبت المواقف الأمريكيّة للتّشديد على ضرورة مراجعة الاتّفاق النّوويّ والمجاهرة بإمكانيّة تنفيذ عمل عسكريّ ضدّ طهران ردّا على تجاربها الصّاروخيّة وغير ذلك.

إنّ هذا التّبدّل في السّياسة الأمريكيّة الجديدة تجاه إيران ليس مفاجئا لمن خبر العقيدة الأمريكيّة ومغذّياتها، بل هو تبدّل منتظر إذا ما راعينا فشل الرّهان على إيران من جهة في إنجاح المشروع الأمريكيّ الهادف لتقسيم الوطن العربيّ مجدّدا لدويلات متناثرة تقوم على أسس دينيّة ومذهبيّة وعرقيّة، بل إنّ هذا الرّهان تحديدا هو الذي أخرج إيران لدائرة الإقليميّة وحتّى العالميّة أحيانا، فهي وكما هو معلوم، مكلّفة بتأجيج الصّراع الطّائفيّ في أقطار الوطن العربيّ بالنّظر لتحوّزها على عقل ووجدان العرب من الطّائفة الشّيعيّة الكريمة الذين انطلت عليهم فرية رعاية إيران وولاية الفقيه لأتباع المذهب الشّيعيّ وما هي في الحقيقة إلاّ عاملة على استدراجهم للتّشيّع الصّفويّ وبالتّالي جعلهم مجرّد أدوات وجسور تسرّع عبرها تحقيق مطامحها القوميّة.

وعليه، فلقد عجزت إيران لحدّ الآن عن امتصاص الصّدمة التي أحدثتها الإدارة الأمريكيّة الجديدة في قرار العقل الاستراتيجيّ والمخططّ للسّياسات الإيرانيّة، وبلعت بذلك الإهانة الأمريكيّة وسعت للتّقليل من مرارتها من خلال بعض التّصريحات الإنشائيّة واللّغو والتّهديدات الجوفاء التي أطلقها كالعادة كبار المسؤولين الدّينيّين والعسكريّين لتحجم الإدارة السّياسيّة عن التّعبير عن أيّ موقف وذلك سعيا منها لتدارس كيفيّة تأمين مخرج آمن من مأزق جدّي وحقيقيّ لم يعد من مناص لإنكاره، ولعلّ من دواعي القبول بالإهانة الأمريكيّة المباغتة لإيران أيضا تردّي العلاقة مع الحليف الرّوسيّ مؤخّرا وهو الطّامح بدوره لاجتذاب الأمريكان والظّفر برضاهم.

وإنّه لا غرو في القول إنّ أولى السّياسات الأمريكيّة الجديدة إهانة فعليّة لإيران، وهو ما تدعمه تحرّكات إيران وتخبّطها مؤخّرا والذي انعكس في العراق المحتلّ حيث يتحرّك نغول إيران هيستيريّا مطالبين بالرّدّ على ما أعلنه ترامب بخصوص العراق أكثر من مرّة ورفضه استقبال الصّغير العبادي الذي كان يعتزم تهنئته، ويملؤون الدّنيا ضجيجا ليس انتصارا للعراق بقدر ما هم يسعون لفكّ الخناق عن أولياء نعمتهم في إيران ولصرف الأنظار عمّا تلقّوه من إهانة في الصّميم.





الاربعاء ١٨ جمادي الاولى ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٥ / شبــاط / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة