شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

1 - التوازن .. يُعَدُ من أهم دعامات النظام الدولي ، أي نظام دولي ، حيث تقوم عليه العلاقات الثنائية بين الوحدات السياسية المختلفة، وتقوم عليه أيضًا العلاقات متعددة الأطراف.. وهي تشكل بكليتها التنظيم الدولي بروافده المختلفة في شكل منظمات وهيئآت ومؤسسات متخصصة تابعة للأمم المتحدة .. وإن أي إخلال في هذا التوازن كأن تسقط حجرًا في بناءه ، يختل في أسسه ويعرض هيكله للتصدع والأنهيار.. والمثال : حين تزعزع محور ميزان أحد أطراف التوازن ( الأتحاد السوفياتي ) أنفرطت كفة ميزان تعادل القوى وتهدمت هياكلها وانهارت سياجات دول حلف ( وارسو ) .. حينها ملأت فراغ الأنهيارات القوة الأمريكية الغاشمة ، فتسيدت على العالم وأعلنت أن القرن هو قرن أمريكي بإمتياز فتجبرت وشنت الحروب وتلقت ضربات موجعة ، لم تكن تتوقعها من لدن المقاومة الوطنية العراقية الباسلة، حين احتلت العراق ، فتراجعت، وهي الآن في حالة إنكفاء تفتش عن الأمن والأستقرار في الداخل الأمريكي، المُعَرضْ للأنفجار والأنهيار كما انهار الأتحاد السوفياتي .

حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) وحلف وارسو .. كانا عمودان للتوازن في القطبية الثنائية ، فيما يمثل ( الناتو ) ، القطبية الأحادية التي تسير الآن بأتجاه التفكك .. لأن أمريكا تريد تفكيك الحلف، لأنه فات عليه الزمن ولا جدوى من الأنفاق عليه.!!

2 - إذا انهار حلف ( الناتو ) فمن وجهة النظر الأوربية ، تمسي أوربا مكشوفة ، ونظام العلاقات الدولية يصبح خالٍ من أي توازن رادع ، وخاصة في ظل العجز الكامل لمجلس الأمن الدولي ، فكيف يصبح شكل العلاقات الدولية على المسرح السياسي العالمي، طالما أن الأدارة الأمريكية الجديدة ترى أن قيادة الناتو وحماية أوربا بمظلة نووية تشترطان الدفع .!!

الأمن الأوربي، على سبيل الحصر، يقوم على التوازن، كما أسلفنا، .. وحلف ( الناتو ) يعتبر الأساس الذي يعتمد عليه الأتحاد الأوربي .. وأمريكا تسعى إلى تقويض هذا الأتحاد بتشجيع إنفراط أعضائه وخاصة بعد أن عملت ولآية ( أوباما ) على سلخ بريطانيا من الأتحاد، وشجعت على ضرورة خروج أعضاء آخرون ، وأكدت عزمها على أن لا تبقى مظلة نووية لحماية هذا الأتحاد، الذي تريد تفكيكه لأنه ( اصبح عقيمًا ومستهلكًا وغير ذي جدوى ) وبالتالي ( ترك أي عضو في الأتحاد يتحمل مصيره بنفسه ولا أحد يحميه بدون مقابل ) .!!

3 - هذا المبدأ الغريب، الذي يراد تسويقه كمفهوم للعلاقات السياسية الدولية سوف تكون له تداعيات قاسية ومردودات غاية في السلبية وعواقب وخيمة، فضلاً عن ردود أفعال إقليمية ودولية متوقعة، قد تدفع أمريكا إلى المزيد من الأنكفاء نحو الداخل - لأن أمريكا بمفهومها التجاري للسياسة الدولية - ستضع نفسها في كفة والعالم في معظمه في كفة أخرى، بما فيه الداخل الأمريكي ذاته ، مما يزيد من إنحدارها وراء أسوار العزلة .. فأول إصطدامها كان بالمكسيك ، ثم محاولتها التحرش بالناتو ، ثم إثارة حفيظة العالم الأسلامي والعربي بالتلويح بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشريف ، ثم مسألة الهجرة ، ثم التحرش بالصين حول بحر الصين الجنوبي ، ومغازلة موسكو.. والأخطر من كل هذا .. تسليم رئيس الأدارة الأمريكية الجديد حقيبة مفاتيح السلاح النووي.!!

4 - ردة فعل المكسيك، جارة أمريكا .. أنها لن ترضخ للتهديد الأمريكي . وبهذا القرار تصدعت العلاقات الثنائية الأمريكية - المكسيكية .. كما أن أوربا لا تقبل بتقويض نظام اتحادها وستقف ( فرنسا وألمانيا ) وهما قلب القرار الأوربي الأتحادي بوجه واشنطن، إذا اقتضت الضرورة القصوى ذلك، وستقومان بلملمة أوضاع أوربا بخطوات على طريق ترصين الجيو - سياسة الأوربية .. وينسحب الأمر على العمق الآسيوي حيث الصين وبحرها الجنوبي وتايوان ، وتصاعد المديونية الخارجية الأمريكية لصالح الصين بإختلال الميزان التجاري النقدي والأستثماري .. فيما لم تعد للعقوبات المفروضة على موسكو إلا أن تترك للزمن الذي، لا تطيقه الأدارة الأمريكية الجديدة لتحصد نتائجه ومنها الأستنزاف ودواعي الخروج من سوريا بعد ضمان المصالح الروسية الأستراتيجية.

5 - أمريكا ( ترامب ) باتت تشعر بعجزها المالي الوخيم ، وتريد أن تستمر في زعامة العالم ولكن بشروط الدفع المقدم كمقاول .. فهل تستطيع أن تتخلى عن زعامتها الكسيحة هذه ، وهي إمبريالية سلطوية مهيمنة دون عولمة ، ودون عالم حر ، ودون سوق حرة ، ودون ديمقراطية النخب الفاسدة .. إنها لا تستطيع ، ولكنها تعرض خدماتها كمقاول، أحيانًا ، بقوانين وبقرارات تشريعية يراد تسويقها إلى دول العالم، وكأن العالم ضيعة تابعة لها تفعل بها ما تشاء .. وترى أن كل شيء بثمن بما في ذلك نظام العلاقات الدولية والتعهدات والمعاهدات والصفقات والتسويات .

6 - الشركات تتعامل عادة بأنماط وصيغ معاملاتها وعقودها التي قد تُفْسَخْ وقد لا تُنْجَزْ وقد تُغلقْ وتفلسْ وقد تُمحقْ وتُساق إلى المحاكم، وقد تفلت من العقابْ .. هل هذا نمط العلاقات الدولية، الذي تراه الأدارة الأمريكية الجديدة من الضروري أن يسود..؟

بيد أن المهم في هذا الأمر ما سيحصل لمنطقتنا جراء هذه السياسة :

أولاً - وضع ( أوباما ) قبل أن يرحل قانون ( جاستا ) وهو القانون الذي يسمح لأسر ضحايا هجوم 11 سبتمبر - ايلول 2001 بمقاضاة المسؤولين السعوديين على الأضرار التي لحقت بهذه الأسر .. هذا القانون ( يقوض مبدأ المساواة والحصانة السيادية ) ، وهو المبدأ الذي يحكم العلاقات الدولية منذ مئات السنين .. ولكنه سلاح ذو حدين ، يفتح بابًا لشعوب العالم أن تقاضي الحكومة والأشخاص الأمريكيين والقادة السياسيين والعسكريين عن نتائج أعمالهم العدوانية في العراق وافغانستان والصومال وفيتنام وكوريا وهاييتي وليبيا ودول أمريكا اللآتينية وهيروشيما وناكزاكي وفي كل القارات التي بلغتها الجيوش والمخابرات العسكرية الأمريكية وقاذفاتها.!!

هذا القانون يضع السعودية والسعوديين أشبه بوضع ( بقرة حلوب ) لأستنزاف أموالها ومواردها بالتعويضات من جهة وبعروض ( الحماية ) الأمريكية المدفوعة الثمن مسبقًا من جهة ثانية .. فالتعويضات هي عن جرم لم ترتكبه السعودية ، والحماية ، ربما ، إبقاء الضبع الفارسي مكشرًا عن أنيابه دائمًا مخيفًا ومهددًا من أجل الحلب.!!

ثانيًا - يتسبب هذا النهج غير المسؤول والغريب في إشاعة التوترات وإبقاء الملفات الأقليمية ساخنة .. ولكن مسيطر عليها بأتفاق الشراكة الروسية - الأمريكية لـ ( ضبطها ) ومنعها من التوسع .. وهنا تتوجس موسكو من إستمرار النزيف الناجم عن إستمرار وجودها العسكري في سوريا.. وفي حال تمكن موسكو من تسوية سياسية شاملة في سوريا تضمن مصالح الشعب العربي السوري لا النظام الذي مآله الزوال ، وإنهاء دور المليشيات الطائفية المسلحة على الأرض السورية، فأن موسكو ستكسب الدول العربية جميعها مع الشعب العربي كله، وتتخلص من مأزق العقوبات ومأزق الأستنزاف وتتفرغ لمعالجة وضعها الأقتصادي الناجم عن المشكلة الأوكرانية .

ثالثًا - إيران تدرك أن مستقبل مليشاتها الطائفية المسلحة معدوم في سوريا وغيرها .. وعلى أساس هذا الأدراك عمدت إلى توطين عوائل المليشيات الطائفية العراقية والأفغانية ومن جنسيات أخرى محل المهجرين المواطنين السورين بعد حرق مديريات العقارات ومحو آثار السجلات التي تثبت حقوق المواطنين في بيوتهم ومزارعهم وممتلكاتهم .. كما انها استبقت فعل التسوية السياسية بعقد معاهدات أراض واستثمارات وحقول نفط ومكامن كبريت ومزارع وحقول خاصة بالمواشي وتنمية الثروة الحيوانية تحت شعار أطلقته دمشق ( سوريا المفيدة للذي يدافع عنها وليس لساكنها ) .!! ، الفعل الأستباقي الأيراني هذا، هو في حقيقته فعل غبي يحمل إصرارًا طائفيًا إستعماريًا توسعيًا مسعورًا ليس له مستقبل أبدًا .

7 - السياسة الجديدة التي بدأتها أمريكا في عهدها الجديد، أدت خلال الأيام القليلة الماضية من إعلان جملة قرارات مربكة غير مسبوقة إلى سلسلة من الأستقالات والتقاعد في الوسط الدبلوماسي الأمريكي رفيع المستوى خلال الأسبوع الأول من عهد الرئيس ( ترامب ) .. فقد أحال ( Patrick F. Kennedy ) نفسه على التقاعد و ( Joyce Barr ) و ( Michele Bond ) و ( Gentry Smith ) و ( Victoria Nolan ) و ( Gregory Starr ) .. فيما عبر معظم الدبلوماسيين الأمريكيين عن قلقهم من استمرار عملهم مع إدارة ترامب.

8 - كما دعت حركات ناشطة في كاليفورنيا وتكساس وماساتشوسيس إلى الأنفصال عن الولايات المتحدة ، فيما أعلنت ولآيات أخرى الطعن بقرارات البيت الأبيض ( ماساتشوستس ونيويورك وفرجينيا وواشنطن ) .. مؤكدة على أن مثل هذه القرارات تعمل على تغيرات تمس كيان الولايات المتحدة وأمنها القومي وكيانها الدستوري .

سياسة خلط الأوراق :

جملة قرارات .. جملة تصريحات .. جملة ردود أفعال :

9 - الأنقسامات بدأت في أمريكا ، وبدأت في أوربا ، وأنتعشت حركات وتيارات إنتخابية غير مسبوقة، لا تُوَحِدْ حول طاولة مفاوضات لمناقشة أهمية التوصل إلى قاعدة عمل موحدة، بل على العكس .. الدخول في حالة مشوشة تختلط فيها أوراق التكهنات تمامًا ، وخاصة بين نهج السياسات ونهج الأقتصادات في مسارات غير واضحة بصورة متعمدة.

10 - ولكن خيوط سياسة التشويش، التي رافقت الأستراتيجية الجديدة في بعدها قصير ومتوسط المدى، تبدو ملامحها ظاهرة من بين أجواء الأرتباكات والتحسبات والتكهنات بالقرارات وردود الأفعال :

أولاً - فإستراتيجية الحرب على الأرهاب مستمرة لدى الأدارة الجديدة ( الحرب على إرهاب الجماعات والمليشيات المسلحة ) و ( الحرب على إرهاب الدولة ) ، لأن إرهاب المليشيات المسلحة وراءه إرهاب الدولة .. ومن العسير فصل إرهاب المليشيات عن إرهاب الدولة، لكون هذه المليشيات أدواتها في تنفيذ سياسة الدولة الأرهابية .. وتقع في مقدمة دول الأرهاب دولة النظام الأيراني.

ثانيًا - كما يقع حزب ( الأخوان المسلمين ) في مصر وباقي فروعه في الوطن العربي .. وفي العراق ( حزب الدعوة ) بإعتباره فرعًا للأخوان المسلمين تتبناه إيران لتدمير العراق وزعزعة أمن واستقرار المنطقة برمتها، في مقدمة المحددات التي وضعتها الأدارة الأمريكية الجديدة لسياسة ( الأحتواء ) المعروفة، التي حطم ركائزها ( أوباما ) برضوخه المخزي والمعيب لنظام ولآية الفقيه القائم على الدجل والخديعة والكذب والحقد الطائفي والأثني الأسود.

هذا المعطى ، يكشف عن أن السياسة الخارجية الأمريكية تتبع في الراهن أسلوب خلط الأوراق والتشويش، الأمر الذي يعكس تغيرات في التعاملات الدولية ستؤثر في طبيعة العلاقات الثنائية والعلاقات متعددة الأطراف، ولكن ينبغي عدم نسيان العجز المالي المخيف الذي أوجده كل من ( بوش الصغير ) و ( أوباما ) في بنية النظام الرأسمالي الأمبريالي الأمريكي.

ثالثًا - سياسة الأحتواء .. مراميها وأبعادها الأستراتيجية :

يتبـــــــــــــــــع .....





الجمعة ٦ جمادي الاولى ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٣ / شبــاط / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة