شبكة ذي قار
عـاجـل










يترافق مع كلّ صعود إدارة أمريكيّة جديدة التّلويح والتّرويج لنقل السّفارة الأمريكيّة لدى عصابات الغصب الصّهيونيّة إلى القدس، ويصاحب ذلك في مرّة صخب كثير وموجات من الاستنكار والتّنديد العربيّة والفلسطينيّة.

إلاّ أنّ المثير في هذا هو انحصار تلك القرارات في مجرّد الاستهلاك الدّعائيّ، حيث لم يجرؤ لليوم رئيس أمريكيّ على تنفيذ هذه المتلازمة الانتخابيّة الأمريكيّة، وبالقدر ذاته ظلّت المواقف العربيّة سجينة التّنديد في سعي لامتصاص الغضب الشّعبيّ من جهة وتحقيق ضرب من التّماهي مع الذّات من جهة أخرى، فلم يقرّ النّظام العربيّ الرّسميّ لليوم ولم يتّفق على أيّ ردّ من شأنه مجابهة مثل هذه الخطوة حال تحقّقها.

فما المغزى يا ترى من نقل السّفارة الأميركيّة إلى القدس وما أهدافه وغائيّاته؟

يعلم الأمريكان والصّهاينة أكثر من غيرهم ما تمثّله القدس من رمزيّة في الوجدان العربيّ عامّة والفلسطينيّ خاصّة، ويدرك الجانبان مدى تأثّر نجاح مخطّطاتهما بهذه الخطوة تحديدا.

فنقل السّفارة الأمريكيّة إلى القدس هو في نهاية المطاف آخر الخطوات المؤدّية واقعيا وميدانيا لإعلان الدّولة اليهوديّة، وهي المسالة التي لم تحظ لحدّ الآن على خطورتها بما تستحقّ من قراءات ودراسات ومن ثمّة لخطوات عربيّة مضادّة. ففلسطين في نهاية الأمر ترزح تحت نيّر الاحتلال المباشر، ولكنّه احتلال يختلف عن غيره ولا يتماهى معه سوى الاحتلال الفارسيّ لبعض الأقطار العربيّة قديما وحديثا من حيث الطّابع الاستيطان التوسّعيّ العنصريّ، ويقوم الاحتلالان الصّهيونيّ والفارسيّ على محرّكات ثأريّة مترعة بالأحقاد والثّارات ويهدفان لطمس معالم العروبة في مهدها وأرضها وينتهجان التّغيير الدّيمغرافيّ كلّ بطريقته، فيغيّران أسماء المدن العربيّة بأخرى صهيونيّة وفارسيّة مكذوبة ولا سند لها لا في التّاريخ أو الجغرافيا، ويهدمان بنسق متفاوت المعالم الحضاريّة العربيّة ويتعكّزان على الأساطير والرّوايات والتّنظيرات الشّعوبيّة.

ولن يضرّ فلسطين قضيّة ومظلمة، التّوزيع الجغرافيّ لسفارات من صنعوا وغرسوا هذا الكيان المصطنع الهجين على أراضيها أو من تقاطروا على الاعتراف به أو التّطبيع معه في فترات لاحقة، بقدر ما تفتك بفلسطين الدّلالات والأهداف من مثل هذه الخطوات.

فأمريكا بما لها من ثقل ووزن دوليّين شبه شاملين، سيكون لأيّ قرار تتّخذه تبعات، وستحذو حذوها دول أخرى كثيرة مؤثّرة، فيصار لفرض الإرادة الأمريكيّة التي تعمل وفق التّوصيات الصّهيونيّة الاستراتيجيّة من جهة وتدعمها من جهة ثانية في مشهد سرياليّ، وعليه تغدو الدّولة اليهوديّة كما أشرنا آنفا حقيقة لتسقط معها أغلب الاتّفاقيّات السّابقة إن لم ينهر جميعها، وتحال بذلك القضيّة الفلسطينيّة بما تنطوي عليه من أبعاد وبما تشكّله من محور صراع وجوديّ عربيّ يقاوم إحدى أكبر المكائد في التاريخ، لمجرّد مسألة يغدو معها الفلسطينيّون أقلّية أكثر ما يمكن أن تجود عليها به دوائر صنع القرار الدّوليّ ضمان بعض حقوقها في العيش ليس أكثر، وتنهار بذلك حزمة التّشاريع والأعراف التي تعتبر الانتصاب الصّهيونيّ واغتصاب فلسطين مظلمة حقيقيّة وخطأ فادحا يتوجّب تداركه وإصلاحه.

وحتّى يهوديّة الدّولة ليس في نهاية المطاف سوى مرحلة آنيّة في المخطّط الصّهيونيّ، لأنّها تؤذن لما هو أهمّ وأبعد وأعمق وأشدّ خطرا وكارثيّة، ذلك أنّ الغرض من بلوغ هذه المرحلة هو تهيئة الوضع وخلق مزاج عربيّ ودوليّ قابل بالدّول الدّينيّة في الشّرق الأوسط ما يشكّل مسوّغا قانونيّا وأخلاقيّا لقيام ما يوازي الدّولة اليهوديّة فتنشأ الدّولة الإسلاميّة السّنيّة ونقيضها الدّولة الإسلاميّة الشّيعيّة، ويتوجّب في كلّ هذا تفتيت الوطن العربيّ وتقسيمه على أسس طائفيّة وإثنيّة وعرقيّة تذكي حروبا أهليّة طاحنة تمتدّ زمنا كفيلا للصّهاينة بالمرور للانطلاق فعليّا في تأثيث حدود ما يسمّى بــ "دولة إسرائيل الكبرى ".

إنّ هذه هي المقاصد الحقيقيّة من التّلويح بنقل السّفارة الأمريكيّة وغيرها من سفارات الدّول الكبرى للقدس، كما تعمد الإدارة الأمريكيّة من وراء هذا التّلويح لمزيد ابتزاز الفلسطينيّين والعرب، ودفعهم على القبول والتّسليم بما تغدقه على العصابة الصّهيونيّة من دعم لامتناهي، وهو ما ظهر مؤخّرا بإعلان السّلطات الصّهيونيّة الغاصبة عن قرارها بإنشاء 2500 مغتصبة جديدة تزامنا مع تسلّم ترامب لمقاليد الرّئاسة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.





الثلاثاء ٣ جمادي الاولى ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣١ / كانون الثاني / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة