شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل أسابيع، خطفت عصابات المليشيات المتأسلمة الطائفية في العراق الصحافية أفراح شوقي، من بيتها، ليطلق سراحها بعد أسابيع، عقب تدخل شخصي مباشر من رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بنفسه. وهو تدخل يطرح أسئلة عديدة بشأن علاقة الدولة العراقية وأجهزتها في وزارة الداخلية بعمليات الخطف والإرهاب المستمرة من دون انقطاع منذ غزو العراق. ولكن الأخطر جاء على لسانه، في مؤتمر صحافي في 3 /1/ 2017، وهو أن على من يريد إضعاف رئيس الوزراء أن يواجهه شخصياً، ولا يخطف الناس. وهذا اعتراف واضح وصريح لا لبس فيه من رئيس الوزراء بمعرفه هوية الخاطفين، وارتباطاتهم السياسية وأسباب الإرهاب والخطف في العراق. وحسناً، أن العبادي استطاع إطلاق سراح الصحافية المخطوفة. لكن، ماذا عن باقي المختطفين الذين تبحث عنهم عوائلهم من دون جدوى، ومنهم الصيدلي الدكتور جليل مشكور، صاحب صيدلية، يوم 9 يناير/ كانون الثاني الجاري، من شارع قناة الجيش في بغداد في العاشرة ليلاً؟ لماذا لم يتدخل العبادي في هذه القضية مثلاً؟

وبما أن الاعتراف هو سيد الأدلة في القانون، فيتحتم على القضاء جلب الخاطفين والاستماع إليهم، واستجواب حيدر العبادي، لأن كلامه شهادة أساسية على جريمةٍ يُعاقب عليها القانون العراقي، وهي الخطف والتهديد تحت قوة السلاح من مليشيات، خصوصاً أن شاشات المراقبة وثّقت جريمتهم، وصور عرباتهم موجودة في الفيديوهات وكاميرات المراقبة. وقانونياً، لا ينتهي الأمر بهذا الاعتراف، بل يعني عدم المساءلة تستّراً على الجريمة. إضافة إلى ذلك، أن الدستور العراقي يمنع، وفقا للمادة 9/ ب، تشكيل مليشيات عسكرية خارج القوات المسلحة، فما بالك بمليشيات تصول وتجول، مقترفةً كل أنواع الجرائم، بمعرفه رئيس الوزراء؟

لماذا لم يحدث مثل هذا الاستجواب والاستدعاء، ولم يتحرك القضاء ولم يتم تفعيله؟ أليس هناك قانون في العراق للأخذ بهذا الاعتراف وجلب الخاطفين ومحاكمتهم؟ هل ما يزال الاعتراف
"لو كان هناك قانون في العراق لكان في وسع أفراح شوقي رفع قضية"

سيد الأدلة في قانون هذا البلد، كما في جميع قوانين العالم، أم أن العراق لم يعد اليوم في ظل حكومة احتلال محكوماً بالقانون، وإنما بحسب الهوى الحزبي والمليشياوي والطائفي؟
ليست تصريحات رئيس الوزراء عن معرفته الخاطفين الأولى من نوعها في اعترافات أحزاب العملية السياسية وبرلمانيها، حول جرائم تقترف في العراق يعاقب عليها القانون. بل هي اعتراف آخر يندرج ضمن سلسلة اعترافاتٍ حول الفساد والاختلاس والعمولات وكل الموبقات التي جاءت مع دخول الغزاة.

عدة مرات، ومن على شاشات الفضائيات العراقية، صرح رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، بكل ثقة ومن دون أي تحفظ، إن في حوزته ملفات فساد واعتداء على المال العام ورشاوى وعقود وهمية على غير مسؤول يحتفظ بها، لكن القضاء، الديمقراطي الجديد، لم يتكلف، ولو مرة، باستدعائه وسؤاله عن الملفات التي يتكلم عنها، والتي لو حصلت في بلد ديمقراطي فعلاً، كما يدّعون، لهرع في الحال المدعي العام والشرطة، ووضع يده على كل الملفات المذكورة، ولاستدعي صاحب التصريح، وأطلقت بحقه أوامر قضائية صارمة من تفتيش واستدعاء، كما يحصل في الدول الديمقراطية عادة، بضمنها استدعاء واستجواب لرؤساء الجمهوريات فيها.

لم نر هيئة النزاهة، صاحبة الشأن في مراقبة الفساد وملفاته في الدولة، تطلب لا من المالكي ولا من غيره الاستماع له أو استجوابه أو التحقيق فيما يذهب إليه من اعترافات واضحة. لعل من أهم القضايا في ولاية المالكي إعطاؤه الأوامر لانسحاب الجيش وتسليم الموصل إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وعلى الرغم من أن البرلمان شكل لجنةً للتحقيق في الأمر، وتوصل إلى مسؤولية المالكي و 38 شخصاً عن تسليم المدينة، وإعطاء أمر بالانسحاب منها، وتسليمها وأسلحة الجيش إلى "داعش"، لكن القضية أغلقت بالكامل. وبالصوت والصورة، تحدث المالكي للإعلام عن استغلال بعض أصدقاء ابنه أحمد، ونفوذهم في المنطقة الخضراء وفسادهم، وسمعنا عن هدر 800 مليار خلال حكمه، لكنه ما يزال ينعم بالحصانة وعدم المساءلة لا من القضاء، ولا من هيئة النزاهة رفيقتها.

سمع العراقيون تصريحات النائب مشعان الجبوري عن الفساد وعمولاته التي يمارسها جميع البرلمانيين، وهو نفسه أحدهم، قبل أن يخرج أخيراً مع النائب فائق الشيخ حسن، ويطلق فضيحة أخرى مدوية عن رشاوى وحماية أحزاب العملية السياسية الدينية (سمّاها تقريبا بالاسم) صالات القمار والملاهي في بغداد في مقابل أموال يومية، تصل إلى ملايين الدولارات، واستيلاء هذه الأحزاب على ممتلكات وأراض وبيوت في مناطق واسعة من بغداد من دون أي حق.

وقبله كانت تصريحات النائب حيدر الملا الذي اعترف عن نفسه قبل أن يعترف على زملائه،
"أحزاب العملية السياسية الدينية هي المسؤولة الأولى عن العدد المخيف للقتلى العراقيين"

وقال "كلنا مشاركون في الفساد والعمولات، وأنا منهم". ونشرت الصحف البريطانية فضائح وزراء حكومة المنطقة الخضراء وسرقتهم ملايين في صفقات وعقود وهمية في الدفاع والكهرباء، وهربهم بها من العراق إلى أوروبا أو كندا. لكن، وعلى الرغم من ذلك، لم تشهد المحاكم العراقية أي متابعة قانونية لهذه الاعترافات، ولا الأخبار، ولا رأينا ملاحقة حكومية ورسمية لهذه الملفات الخطيرة. بل أعادت المحكمة الدستورية نواب رئيس الجمهورية ووزراء الفساد، وأعادت رواتبهم وامتيازاتهم، بدلاً من محاسبتهم واستجوابهم.

ينص الدستور العراقي على فصل السلطات، وعلى حرية القضاء، لكن سكوت القضاء على كل هذه الانتهاكات الموثقة لا يعتبر فقط تقصيراً، بل هو أمرٌ يصل إلى مرتبة الجريمة ويعتبر تواطؤاً بحق المواطنين ومؤسسات الدولة وأموالها وهيبتها. لكن، ليس هذا فحسب، فهذا القضاء المتقاعس عن محاربة الجريمة المنظمة وجرائم الفساد في العراق التي ترتكبها عصابات ومافيات تابعة وأحزاب سياسية وبرلمانيون، يغض الطرف عن مثل هذه الجرائم المركّبة، بحجة أن فئة معينة هي من تقوم بالقتل والإرهاب والفساد، فيقتل هؤلاء ويستولى على ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة، منهم من يعذّب ويحرق، ومنهم من يسجن ويعتقل، ويجبر على اعترافاتٍ كاذبةٍ بعد التعذيب، تمهيدا لقتلهم بحجة الإرهاب، ومنهم من يُخطف وتُطلب فدية مقابل إطلاق سراحه. كما يتم إجبار مواطنين على دفع أموال لهذا السبب أو ذاك، إلى قتل الناس تحت أنقاض البيوت المهدمة، بسبب القصف، لأسباب طائفية وباتهامات باطلة، التحريض على القتل وقطع الرؤوس. وقد وثقت المنظمة البلجيكية لحقوق الإنسان عدداً مهماً من هذه الجرائم، إحداها ما صرحت به المسؤولة فيها لـ "الخليج أون لاين" "إن مليشيات الحشد الشعبي اختطفت 56 رجلاً من عوائل النازحين، بعد أن عزلوهم عن عوائلهم التي تركوها ترحل بدونهم"، و"إن المليشيات اتصلت بالعوائل، لطلب فدية مقدارها 4000 دولار مقابل إطلاق سراح كل محتجز".

بل إن دعم الأحزاب الدينية كل هذه المليشيات والعصابات وعلاقة هؤلاء بالمسؤولين الأمنيين المعينين منها على أسس مذهبية هو الذي يجعلهم يستهترون بالقانون وبالعقوبات والمساءلة من دون نتيجة، ولا يستمعون إلا لقادتهم. وقبل أيام، صرح واثق البطاط، وهو رئيس إحدى المليشيات، عن إهانة مواطنين نوري المالكي في البصرة، إنه "ليس من حق أي أحد محاسبة سياسي من مذهبنا، بل نحن من نحاسبه". ولا تغير من ذلك "مطالبة" هذه الأحزاب نفسها أحياناً، وعندما تشتد الضائقة والاحتجاجات الشعبية استضافة هذا المسؤول أو ذاك في البرلمان، كما طلب رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان، حاكم الزاملي، أخيراً، استضافة العبادي ومساءلته بشأن تردّي الوضع الأمني في بغداد، بدليل قول النائب، فائق الشيخ حسن، "مللنا من الاستضافة والاستجواب، ولم يعد أحدٌ منا يهتم بها، لأنها عقيمة، لا تؤدي إلى أي نتيجة".

كشف رئيس الوزراء، حيدر العبادي، في حادثة خطف الصحافية أفراح شوقي، وأكد ذلك في مؤتمر حوار بغداد أن أحزاب العملية السياسية في حالة تناحر ومعارك خفية فيما بينها، تتلهف على البقاء في السلطة، وعلى المناصب والمنافع. ومن أجل ذلك كله، فهي مستعدة للتنافس بالسلاح، فلو كان هناك فعلا قانون في هذا البلد لكان في وسع أفراح شوقي رفع قضية خطف وتهديد تحت قوة السلاح. لكن، لا أفراح ولا غيرها يمكنه أن ينال حقه، حينما لا يكون الاعتراف في قانون بلدٍ ليس سيد الأدلة.

اعتراف رئيس الوزراء بشأن هويه الخاطفين شهادة على الوضع السياسي والقانوني في العراق، ودليل قاطع على أن أحزاب العملية السياسية الدينية هي المسؤولة الأولى عن العدد المخيف للقتلى العراقيين، كما نشرته بعثة الأمم المتحدة، عشرين ألف قتيل وجريح خلال عام 2016، وليس أي شماعة أخرى تلصق بها الجرائم عادة.





الاربعاء ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / كانون الثاني / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ولاء سعيد السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة