شبكة ذي قار
عـاجـل










من المفارقة بمثل هذا العنوان ان يكون العكس هو الصحيح بان هناك شعب يفكر بمصير وهموم وطنه؟؛ لكن تداعيات الخطوب القاسية في العراق التي تتالت بعد كل احتلال جعلت من مثل هذا الافتراض ألغرائبي ممكنا، فهناك وطن اسمه العراق يشكل الثابت المهموم بمصير شعبه، وهو ما نتمسك به كجبهة وطنية وقومية وإسلامية بكل فصائلها وأحزابها وشخصياتها ، نرى انه لازالت جغرافية وادي الرافدين ومكونات حضارته وثقافته الراسخة عبر العصور عصية على التقسيم وقد أثبتت في كثير من المراحل والأحداث أنها قادرة على ضم جميع مواطني العراق وبكل أصولهم القومية والاثنية والدينية ليتكون منهم شعبا عظيما تجلت ملامحه المتمايزة عبر التاريخ، فكتب لنفسه البقاء والاستمرار والخلود رغم كل الأطماع الدائرة من حوله .

وبسبب غيوم المأساة الوطنية التي يعيشها العراقيون تبدو للبعض ان مثل هذه الحصانة الوطنية لحماية العراقيين بوحدتهم لم تكن هي الثابت المطلق دائما عبر العديد من المحن والمحطات التاريخية التي تعرض لها العراق، فسقطت هيبة عاصمته التاريخية بغداد، وتفتت دولة العراق ، وضعفت سلطة حكامه بعد كل عملية غزو واحتلال أجنبي لتكون حافزا دغدغ البعض من مواطنيه، أو المحسوبين على ساكنته، ومنهم من بقايا التبعية و الاستيطان الأجنبي على أرض العراق ليخرج منهم، عن الصف الوطني، بمواقف تقترب من الخيانة، إن لم تكن هي الخيانة والغدر نفسه، وتعكس حالة نكران الجميل لهذا الوطن ، وهي ليست الحالة الأولى ولن تكون الأخيرة في المسار التاريخي الطويل للعراق باستغلال أقلية أو مجموعة ما لظرف توفر حماية الغازي والأجنبي له، وتكون هذه المجموعات أدوات داخلية في تدمير اللحمة الوطنية، والنيل من وحدة التراب العراقي، والسعي إلى الحكم والسلطة منفردة أو متوافقة وبالقمع والدم والاستبداد وتنفيذ المجازر، حتى لو قاد ذلك السعي المضلل بشتى الشعارات التي نسمعها اليوم إلى تقسيم العراق ومحاولات تشكيلات دويلات المدن والطوائف والأقاليم والإمارات العشائرية أو البقاء ضمن الأطراف والتكتلات التي تعتاش على ما يسمى المحاصصة المشبوهة عبر التوافق والتنسيق في مجموعات الحكم بالنيابة عن سلطات الاحتلال الغشوم، سواء في مركز العاصمة التاريخية للبلاد أو أطرافها القريبة والبعيدة عن المركز .

واقع حال العراق والعراقيين هو الألم والصراخ والقسوة المفرطة في ظل صراع دام محتدم فوق ارض ووطن جريح لم تزل عناصره تتمسك بقوة وصمود أسطوري بفضل تشابك جذورها التاريخية وطيوب تربتها لإبقاء هذا الوطن قائما ومستقلا الذي يضم العراقيين المنتمين له بالوعي والإدراك بقيمة ومكانة العراق.

ولا شك في ان أغلبية العراقيين مصدومين بحالة الذهول المفزعة لما يجري في وطنهم، كون أن آلة الخراب الشامل القوة والإرهاب الأمريكي والتدخل الفارسي الصفوي والصهيوني، و خاصة بعد ان أنهت المقاومة الوطنية الباسلة مهمة استمرار الاحتلال منذ ،2003 ثم أمنت إدارة اوباما وولاية الفقيه وأتباعها في حكومة نوري المالكي مهمة انسحاب القوات الأمريكية في نهاية 2011 تاركة الدور القادم لحلفائها الفرس، وخدام الاحتلالين على الأرض في المرحلة التالية بالشروع بتنفيذ مخطط التقسيم الفعلي للأرض العراقية وما فوقها من مدن مخربة وساكنة تعيش القلق واليأس والخوف؟ .

هذا المشروع، وان بدا ممكنا للبعض ؛ إلا ان طبيعة المقاومة الوطنية العراقية عبر التاريخ الطويل للعراق عصية على ذلك، وهي التي تمنح بمناعتها الذاتية وطنيي العراق القدرة والطاقة على الاستمرار في الممانعة والصمود للحفاظ على العراق، وطنا موحدا للجميع، رغم الظهور الطارئ لسلطات شذاذ الآفاق ومن يحميهم من قوى الغزو في المراحل الظرفية والانتقالية العنيفة بعد كل عملية غزو واحتلال تعرض لها وطننا العراق.

خلق حالة الفوضى المخططة، من خلال الاضطراب الزلزالي المدمر للاحتلال المباشر وتداعياته الارتدادية عبر الأحداث الأخيرة على مدى 13 سنة الذي بات يهز قطاعات واسعة من أبناء شعبنا، كانت مخططة ومقصودة، أريد بها التمهيد إلى خلق حالة شعب متشرد وبائس ومضطرب تكثر في أوساطه مكونات وأفراد اقل ما يمكن وصفهم " ممسوخي القيم وفاقدي الوطنية بقيمها العراقية المعهودة، فهناك ملايين من ساكنة العراق، شبه مهجرة أو نازحة، تعيش في المخيمات وفي العراء على ارض وطنها المقسم فعليا مثل كانتونات طائفية وإثنية تفرضها المليشيات والحشد الطائفي ، في ظل ولاءات من شبه جيش هزيل مهزوم الارادة، وبتغول قوات الداخلية، وممارسات الفرقة القذرة " سوات" وقطعان البيشمركة وكلها تشكيلات شبه عسكرية تقاد من قبل حيتان العملية السياسية من خدام الاحتلال والمتواطئين معه.

وبعد ان تشبعت المنافي البعيدة بتدفق النخب العراقية من كل المستويات والتخصصات والمكونات عبر هجرة مريرة على مدى أكثر من ثلاثين عاما حتى وصلت إلى حد التخمة في مدن الهجرة والاغتراب، تشكلها جاليات عراقية واسعة وجدت لها وطنا في بعض الملاذات الآمنة، وفي دول الجوار الجغرافي، أو في بلدان أوربا الغربية، وصولا إلى سواحل ومدن أمريكا واستراليا البعيدتين جدا عبر المحيطين الهادئ والأطلسي.

اعتمدت المخططات التآمرية على شعب العراق أقسى وسيلة لإجبار الناس على الهجرة والنزوح داخل العراق وخارجه، بتصعيد الإرهاب الدموي، بشقيه المذهبي والطائفي والاثني من جهة، واستبداد السلطات الحاكمة وفسادها. ويزداد الوضع سوء يوما بعد يوم بعدم وجود حكومة مركزية وقيادة ثابتة وموحدة للبلاد تمتلك رؤيا لمشروع وطني للم شمل العراقيين والحفاظ على وحدة البلاد، لذا تحققت في المدى المنظور بعضاً من أحلام الغزاة والمحتلين، وازدادت أطماع دول الجوار في تكريس شتات العراقيين ، بدفعهم وهم في حالة يأس، من وضعهم نحو المطالبة بالتقسيم والفدرلة للبلاد، وحتى بالاستنجاد بالقوى الأجنبية لفرض حلول ومشاريع تخدم الفئات المتسلطة في العراق ممن اكتسبوا المال والقوة والمليشيات والدعم الخارجي وتوظيف كل هذه العناصر مجتمعة في الحرب الطائفية والصراع للعمل على جبهة تقسيم العراق التي يتحاورون ويجتمعون عليها اليوم، في السر والعلن، بطرح مشاريع توافقية بينهم باسم " التسوية السياسية" ، وهي تستبعد تماما عن ما يقال ويطالب به شعب العراق بــ " المصالحة الوطنية" ؛ لان مضمون المصالحة الوطنية العميق لا يشملهم، طالما أنهم يعترفون في قرارة أنفسهم أنهم ليسوا وطنيين عراقيين؟، من خلال تأكيد تبعيتهم المطلقة لحكام الفرس وخدمتهم لقوى الاحتلال والأطماع الأجنبية في العراق ..

ان قوى الإرهاب تستفيد من خبرة قوى الاحتلال والدول الطامعة في العراق وما تفكيك دولة يوغسلافيا السابقة إلا مثلا يمكن التمعن فيه ودراسته بعمق عندما انطلقت فلول المليشيات الصربية والكرواتية والبوسنية تتقاتل في ما بينها تحت شعارات الدين والقومية لتجهز في نهاية احترابها الدموي ومذابحها على الدولة الفيدرالية وينتهون بها إلى تقسيم يوغسلافيا الأمس وتتشكل دويلاتها برعاية أمريكية وروسية وأوربية في البوسنة والهرسك والجبل الأسود وكرواتيا وصربيا .

والغريب ان هذه القوى الانفصالية في دولة يوغسلافيا السابقة، وأمام ظاهرة التوحد الأوربي سعت بأقدامها مرة أخرى تستنجد وتستجدي الانضمام بدويلاتها الجديدة إلى الاتحاد الأوربي بعد ان قسمت دولتها التاريخية الأكبر، الموروثة في عهد الرئيس الراحل جوزيف بروس تيتو.

وهذا ما يجري في العراق تماما؛ فدعاة التقسيم والفيدرالية والحكم اللا مركزي، من الساعين إلى تشكيل الأقاليم يدركون، في ذات الوقت، إن العودة إلى رضاعة ثدي بترول العراق تحثهم بأن يطالبوا بوحدة فيدرالية لتقسيم الريوع البترولية وبقية الثروات، وهذه إحدى مراوحات حكومة الإقليم الشمالي الكردي ، المهدد بالانفصال تارة، من جهة، والمتمسك بالمحاصصة مع حلفائه في سلطة بغداد للاستفادة من الريع البترولي والامتيازات الممنوحة له في المشاركة في دواليب الحكومة المركزية .

إن جميع هذه المجموعات المتهالكة على السلطة والمتمسكة بالحكم ببغداد يسعون إلى تقسيم العراق، وان بدا لهم ذلك ممكنا بمساعدة الدول الإقليمية والطامعة نسوا أنهم يخسرون وجود العراق التاريخي والوطن الذي أبى إلا ان يكون قائما وموحدا وصامدا، غافرا لكل الضالين من أبنائه وساكنته زلاتهم التاريخية في جريمة تقسيم العراق منذ سقوط الدولة العباسية والى يومنا هذا.

تلكم صورة بائسة نراها لعراق اليوم في أطلال المدن المهدمة التي عاشت وتعيش شبه الحرب الأهلية والإرهاب الأعمى، وما تفعله المليشيات المنفلتة، وجحافل القوات الحكومية المغذاة بالأحقاد التاريخية والثارات الدموية غير المؤسسة عن حق أو باطل.

تتجلى المأساة في مدن بعقوبة وخانقين وصلاح الدين وبيجي والحويجة والفلوجة والرمادي وهيت والقائم والقائمة مفتوحة على كل الاحتمالات في نينوى، وما حول كل هذه الأماكن المثقلة بهموم النزوح والتهجير قسري وبطرد ومنع حكومي للسكان من العودة إلى ديارهم، كلها إجراءات تستهدف تحقيق سياسة الأرض المحروقة وفرض التهجير تمهيدا إلى خلق حالة تغيير ديموغرافي وجلب المستوطنين الجدد من الأعاجم وهو المطلوب اثنيا ومذهبيا وطائفيا وخاصة في مناطق حزام بغداد وجرف الصخر وديالى ومرورا بالانبار وكركوك وما ينتظر الموصل ومحافظتها الكبرى نينوى من تقسيم واقتسام؟ .

وما أمام وطني العراق سوى طريق واحد للنهوض ووقف المأساة من خلال تحالف وطني واسع يرفض لعبة التسويات والمداهنة والنفاق السياسي و يلبي نداء الوطن الجريح الذي فقد بعض من أبناءه اتجاه البوصلة نحو قبلة التحرير لاستعادة العراق إلى أهله الحقيقيين وأمته الصابرة.

وان غدا لناظره قريب
 





الاحد ١٨ ربيع الاول ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / كانون الاول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة