شبكة ذي قار
عـاجـل










ومن المؤلم حقا أن يصبح حلم تحقيق المصالحة الوطنية في العراق يحسب على أحلام النوم واليقظة لدى بعض الساسة العراقيين على اختلاف مشاربهم. وعند عامة الناس وهم في متاهات الاصطراع والتصادم المفتعل، فإن كثيراً من العراقيين قد اختلط الأمر عليهم وعندهم، ولم يعودوا يفرقون بين المصالحة الوطنية، كمشروع وطني، يجب أن يحظ بالأولوية في كل عمل سياسي واجتماعي، وما مشاهد تبويس اللحى والاستقبال بالأحضان أمام كآمرات الإعلام، وحضور الولائم الفارهة عند من ظنوا أنفسهم، إنهم لا زالوا يتمتعون بالوجاهة السياسية أو الاجتماعية ، انطلاقا من توفر المال السياسي بين أيديهم، وهم يدعون إلى مؤتمرات تعقد هنا وهناك، باسم المصالحة، ولا تكاد تنتهي إلا بفرقة واحتراب وتنابز بالتهم، ووضع حواجز أكثر لتكريس التكتلات والابتعاد عن المشاريع الوطنية الحقيقة، حتى أصبح الناس يطلقون على تلك الفعاليات والأنشطة بــ " المؤامرات" بدلا من المؤتمرات لأنها أضحت تكرس المزيد من التفتيت في اللحمة الاجتماعية في العراق.

وباستمرار مثل هذه الظاهرة التي أنتجت صراعات سياسية وعداوات مجتمعية وتضارب في مصالح شخصية بل وعقد نفسية دون الوصول إلى أدنى الأهداف المرسومة من اجلها مثل تلك المؤتمرات أو الملتقيات التي يشرف عليها تجار همهم تبييض المال السياسي الذي يحصلون عليه من مصالح واستثمارات دولية مهتمة بالشأن العراقي سواء مباشرة أو بالوكالة.

وبغياب كلي لعناصر السلم المجتمعي ومقوماته، من خلال توفير العدل، التضامن الاجتماعي، تكافؤ الفرص، الحرية الشخصية، وتوافر بقية الخدمات التي تكفل للإنسان كرامته وأمنه فإن مناخ الحالة التصالحية بين أفراد المجتمع العراقي ومكوناته لازال مغيبا كليا.

وإذا كانت سلطة الاحتلال منذ 2003 وتابعاتها من حكومات وجماعات وصلت إلى الحكم بشكل وصولي وقسري؛ كفلت ووطدت سلطاتها انطلاقا من العمل على تقسيم المجتمع العراقي بتكريس الممارسات التي تقود إلى الاختلاف العميق، وتخلق حالات التوجس وعدم التجانس، ما يؤدي ذلك إلى التخندق فالاحتراب واستبعاد أية فرصة للمصالحة الوطنية.

على الجانب الآخر فان عناصر التشتت الموروثة عند بعض القوى الوطنية الرافضة للعملية السياسية تزيد الطين بلة عندما راوحت بعض من تلك القوى في مكانها متمسكة بعوامل الفرقة القديمة الموروثة، ولم تنجز بعد جزء مهماً من المصالحة المطلوب تحقيقه في طريق بناء وترسيخ الوحدة الوطنية.

ان المصالحة الوطنية في العراق مصالحة مركبة ومعقدة ومتشابكة يتقدم عليها الجانب السياسي قبل غيره ليترك أثره لاحقاً على الجانب الاجتماعي أو المجتمعي أيضا، لذلك نطلق عليها المصالحة الوطنية بشقيها السياسي والاجتماعي. فالمصالحة السياسية نعني بها المصالحة بين الأحزاب والكتل والجماعات والفرق السياسية المتخاصمة والمتناحرة والعاملة في الساحة السياسية.

وهناك أنواع أخرى من المصالحة ليس من الضروري التطرق إليها جميعاً والذي يهمنا بلدنا اليوم وفي ظل الظروف المعقدة التي يمر بها شعبنا، المتمثلة بالصراعات القومية والدينية والطائفية والسياسية التي تسببت في مآسي وكوارث كبيرة لشعبنا ووطننا.

والمصالحة الوطنية ذات المعنى الاشمل للمصالحة تلك التي تتخذ من الوطن عنواناً رئيسيا، ومن المواطنين محوراً أساسياً، ومن حل الخلافات والمشاكل والعقد المستعصية بين مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية والحزبية والفئوية هدفاً مركزياً، وكل هذه الصراعات والخلافات والاختلافات تنزوي بل تذوب عندما يصبح الوطن والمواطن عنواناً لأي عمل أو مبادرة أو مهمة وطنية، فكيف إذا كانت هذه المهمة هي المصالحة الوطنية و تحت مظلة الوطن الوارفة الظلال .

ان الدعوة المتكررة للمصالحة الوطنية منا ليست دعاية سياسية أو تمهيد لحملة يقوم بها فصيل سياسي أو جماعة، بقدر ما هو واجب وطني تمليه علينا الحالة المزرية التي وصل إليها العراق وتفتت مكونات شعبه.

لماذا نحتاج المصالحة الوطنية الحقة في العراق؟ العراق ارتطم بجدران الحروب والحصار والاضطرابات لأكثر من عقدين متتاليين ، ثم جاء جدار الاحتلال الذي أدت صدمته إلى انهيار كافة مقومات المجتمع، فسقطت السلطة والدولة والمؤسسات سقوطاً مريعاً، فانكسرت نفسية المواطن، وانعدمت الثقة المتبادلة على كل المستويات، وغاب الأمن والأمان وأُهدرت الكرامة الإنسانية، وهُمِش الشعب العراقي كله.

وعليه فإن المصالحة الوطنية باتت قضية وجود، وضمان مصير، وهدف سامٍ نحتاجها لإعادة بناء المجتمع وشد لحمة شعب يعاني التمزق، وبدونها من المستحيل ان ننتظر ظروفا ملائمة لانجاز التنمية، وبناء الجيش والمؤسسات الوطنية للدولة وإقامة عراق مستقل عن النفوذ الأجنبي، خالٍ من الإرهاب والإرهابيين، والبدء ببناء أجيال سليمة معافاة من أمراض الاحتلال التي تتسلل من جيل إلى جيل.

ولسنا بعيدين عن تجارب الشعوب، وآخرها التجربة الكولومبية التي استمرت فيها الحرب الأهلية قرابة نصف قرن، لكن رجاحة العقل لدى السياسيين عندهم جعلتهم يجلسون إلى طاولات الحوار وإعلان وتوقيع ميثاق المصالحة الوطنية التي استحق بفضلها الرئيس الكولومبي الحالي جائزة نوبل للسلام.

وقبلها هناك تجارب نتعلمها من تجارب الشعوب كقيادة أبراهام لنكولن في أميركا بعيد منتصف القرن التاسع عشر التي طرحت مبدأ المصالحة الوطنية عقب الحرب الأهلية الأمريكية، التي أنهت العبودية وشرعت الطريق إلى نظام ديمقراطي وبناء دولة باتت عظمى .

والتجربة الأهم هي تجربة القائد الإفريقي المناضل نيلسون مانديلا الذي استطاع بسياسته التصالحية أن يجنب جنوب أفريقيا الخراب، رغم العذابات والاضطهاد الذي تعرض له مواطنيها الأفارقة نتيجة لسياسة الميز العنصري والاستيطان من قبل المحتلين البيض القادمين لجنوب إفريقيا من وراء البحار والمحيطات.

كما لا يمكن الاستهانة بمحدودية ونجاعة بعض من تجارب المصالحة الناجحة في المنطقة العربية، كالحالة المغربية التي جاءت بمبادرة من داخل نظام الحكم الملكي، وقبلتها القوى الوطنية المغربية بعد إجراءات ملموسة مهدت الطريق إلى الحوار الوطني بإنصاف الضحايا ورفع الغبن الشخصي والسياسي عن المناضلين المغاربة، وتصفية عقود من المظالم عاشها المواطن المغربي، والتي انتهت بفتح الطريق إلى مسار انتخابي ديمقراطي يتلمس طريقه في النجاح والاستقرار بعد عدد من الدورات الانتخابية .

كما لا يمكن تجاهل النجاحات الكبيرة الواضحة التي حققت في مجال إعادة الجزائر إلى حالة الاستقرار الاجتماعي والسياسي وواصلة التنمية وحفظ الوحدة الشعبية والترابية للجزائر بعد عشرية دموية قاسية ، تمكنت الحكومة الجزائرية في عهدي الرئيسين اليمين زروال وخلفه الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة في بلوغ وتحقيق المصالحة الوطنية، حيث نجحت الحكومة الجزائرية وبالتفاف شعبي كبير، زكاها ودعمها عبر استفتاء وطني صوت به الشعب الجزائري بأغلبية ساحقة مباركاً تحقيق المصالحة الوطنية في الجزائر، مهدت له جملة من التدابير والظروف والخطوات لخلق أجواء من الثقة المطلوبة، ومنها منح عفو شامل، ومنح تعويضات مالية لعائلات ضحايا المأساة الوطنية التي تم طيها بوقف العنف، وتوجه الجزائر نحو التنمية ومواجهة رياح وتداعيات الربيع العربي، وطي جراحات العشرية الدموية السوداء تدريجيا والى الأبد، والنظر إلى المصالحة الوطنية كواجب وطني واجتماعي مقدس، طالما إنها كانت تمس من خلال إشاعة الفوضى والاضطراب استقرار واستقلال البلد وتفرقة الشعب. لقد تم تجاوز الحلول بتفهم وطني حكومي وشعبي، وليست من خلال التدابير الإدارية المتخذة لتنفيذ قرارات تصدر من أعلى الهرم إلى أسفله، بل اعتبرها الجزائريون أنها مهمة وطنية ذات مسار طويل وصعب ومهم، تفترض وتتطلب مشاركة مختلف الفئات الاجتماعية فيها إلى جانب الأحزاب والمؤسسات السياسية في البلاد كلها، وهذا ما نحتاجه فعلا في الحالة العراقية.

والسؤال الذي يؤرق كثيراً من أبناء العراق لماذا يغيب رجال المصالحة الوطنية عن العراق المشتعل بكل ويلات الخراب والدمار الشامل؟ وإلى متى سننتظر قدوم "المخلص" ، فرداً أو جماعةً يتبنى الإخلاص للإصلاح والشروع في انجاز مشروع المصالحة الوطنية التاريخي المطلوب؟.

يقيني إن من ينجز هذا المشروع هو المتصالح مع نفسه أولاً، ومع غيره، ومع المخالفين لرأيه، ثانيا وثالثاً، ويكون المتفهم الواعي لمسببات هذا التخندق والانعزال، سواء في ما هو حاصل بين السلطة ومعارضيها، أو حتى بين مكونات وعناصر كل من الخندقين المتصارعين في ساحة العراق سلطة ومعارضة .

فعلى مستوى السلطات الحاكمة في العراق، ممن قبلت الانخراط في العملية السياسية، وقبلت وصاية الاحتلال الأمريكي، والخضوع للنفوذ الفارسي الصفوي، ظهر نموذجان كلاهما أخفق في تحقيق مصالحة وطنية ، نموذج متطرف أعمى مشدود بكوامن الحقد والثأر التاريخي والطائفي الأعمى طرحه وقاده إبراهيم الجعفري في مؤتمر الجامعة العربية بالقاهرة، وفيه قدم خطاباً، فيه من الغطرسة والتعالي الفارغ، ما أفسد كل شئ، خطاب أجوف يدعو به الخصوم إلى الالتحاق بالعملية السياسية، كحالة إلحاق، من دون شروط أو حوار، وهو خطاب ينغمس مع جماعة حكومات التحالف الوطني وأحزابها الطائفية في الإنصات والتنفيذ للاملاءات الإيرانية الصفوية، وهي التي من مصلحتها تكريس سياسة الإقصاء والاجتثاث بحق الآخرين، ويرى هؤلاء في المصالحة الوطنية أنها مجرد فقرة ترد في ثنايا البرنامج الحكومي لحكومات المالكي والعبادي كي تدر على وزير المصالحة الوطنية ميزانية من ملايين الدولارات تصرف على الاجتماعات الشكلية وشلل النفاق السياسي وأصحاب الصحوات الحاضرين حسب الطلب والموعد إلى فنادق الدرجة الأولى لتصب الأموال في جيوب أمثال عامر الخزاعي وبطانة فاسدة من الأحزاب الطائفية والملتحقين بها من سنة وشيعة، وهؤلاء يرون في المصالحة الوطنية مجرد عملية إلحاق قسري للآخرين بالعملية السياسية، من دون الاعتراف بالحقوق السياسية والاجتماعية والإنسانية المترتبة على الدولة اتجاه رعاياها ومواطنيها ولمئات الألوف من السجناء والمعتقلين والمهجرين والمفصولين والمطاردين.
 





الاربعاء ٢ صفر ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٢ / تشرين الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة