شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يكن مفاجئا أبدأ أن يتجسد هدف الاحتلال الأمريكي على محو الهوية والذاكرة العراقية التي انتعشت وأصبحت محل فخر واعتزاز، لأن العراقيين عرفوا قيمة الانتماء للعراق وأن بلدهم أصبح رقما محوريا في معادلة الأمن القومي والإقليمي لا يستطيع أحد تجاهله، وبعد ان وجد العراقي حيثما حل أن عراقيته صارت عنوانا للشموخ والإباء.

ما سعت إليه الولايات المتحدة ومن اصطف معها بالقوة العسكرية كما فعلت بريطانيا وإسبانيا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وإيطاليا ودول أخرى أقل شأنا وأكثر تفاهة، أو من ساعد بتقديم الأرض أو الأجواء أو المياه أو الممرات لقوات العدوان، أو من تواطأ مع هذا الاحتلال البغيض خاصة إيران وإسرائيل، تمثل في هدف واحد يتلخص أصلا في إيصال العراقي إلى الكفر بهويته الوطنية والتنكر لها والكفر بانتمائه القومي وبتمسكه بدينه الحنيف، فالتقت برامج مراكز الدراسات وأجهزة المخابرات وأجهزة الإعلام وراحت تركز في مخطط منهجي في غاية الخبث، على تدمير الرابطة بين العراقي ووطنه بالدرجة الأولى ومع العراقي الآخر بالدرجة الثانية، مع استعداد لتأجيل الهدفين الآخرين لمرحلة لاحقة لا يباشر بهما إلا بعد تحقيق الأهداف النهائية لتكفير العراقي بوطنه ونزع اعتزازه به واعتبار الانتماء للعراق مجرد شعور عاطفي عابر لا يرتقي إلى مستوى الهويات الفرعية طائفيا وعرقيا وعشائريا ومدائنيا ومناطقيا والتي بدأ النفخ فيها بقوة الضغط والترغيب وصولا إلى التهديد والترهيب.

ووجد حلف الأعداء في الثنائية التي تنطوي عليها الشخصية العراقية أكبر عون له في تحقيق جانب مهم من هدفه في وقت قياسي، ومما ساعد على تمرير الشعور بضعف المواطنة أن المثقفين العراقيين المختلفي الانتماء للمدارس السياسية والفكرية يتطيرون من أي عراقي آخر لا يتطابق معهم في الرأي بل يصل الغلو عند بعضهم حتى مع أي زاوية ميل مهما كانت صغيرة مع القوالب الجاهزة التي أعدوها لأنفسهم ولغيرهم لا يحيدون عنها وتظهر عليهم علامات التماهي مع العدو الخارجي لكل فكرة جريئة وجديدة، فلو أن كاتبا عراقيا كتب عن مظلومية السنة بعد الاحتلال وهضم حقوقهم بل تصفية وجودهم الإنساني في بلدهم، فإن سهام الكراهية سرعان ما تنطلق من أقواس متربصة ومتمترسة وراء خنادق الضغينة، وتبدأ تهم الولاء للخارج تنهال عليه تارة متهمة إياه بالارتباط بأجندة سعودية تارة وتركية تارة أخرى وقطرية ثالثة، حتى باتت الشكوى من ألم حز خنجر الغدر الفارسي تبعية للخارج، ومع أن الحديث عن العلاقة مع بلد عربي لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الانحدار القيمي والوطني والأخلاقي بالارتباط ببلد مثل إيران يحمل تراكما هائلا من الحقد الموروث على العراق والأمة العربية، إلا أن محاولة القمع الفكري لدى من يشعر بعار العمالة للفرس ومشروعهم العدواني، تقود على الدوام إلى إراحة الضمائر التي أماتها طول السفر مع المشروع الإيراني البغيض عن طريق توجيه التهم الجاهزة للوطنيين الحقيقيين، ولعل من بين أكبر المفارقات المتداولة في فضاء الإعلام أن من نشأ في "الحلية وهو في الخصام غير مبين" ومنح نفسه روحا وعقلا وجسدا لدولة الفقيه، لا يتورع في توجيه الاتهامات شرقا وغربا.

كعراقي وعربي عروبي أحمل فكرا قوميا لا يجد لنفسه صداما مع عقيدة التوحيد التي جاء بها سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أراني ملزما أخلاقيا أن أتابع ما يجري فوق الساحتين العربية والإسلامية وما حولهما، وأجد أن من حقي بل ومن واجبي أن أؤشر على ثلاثة أعداء ثابتين للأمة العربية وهم ومن دون أن يعني التسلسل ترجيحا معنويا لدرجة الخطر، بل هو مجرد تأشير للعناوين، "الاستكبار العالمي وإسرائيل وإيران" فالاستكبار العالمي يمكن أن تمثله روسيا في وقت متقدمة في درجة العداء على الولايات المتحدة أو بريطانيا، وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل وإيران فكل هذه العناوين بدرجة واحدة من الخطورة على الأمة العربية ومشروعها النهضوي، وإن كان المشروع الإيراني يحتل الدرجة 10 على أقوى مقاييس الزلازل السياسية في الكون.

على سبيل عندما تناولت موضوع قانون جاستا وتهديدات إيران لبلاد الحرمين الشريفين ومحاولة تطويق المملكة العربية السعودية بالخطر الإيراني من الشمال حيث المليشيات المرتبطة بقاسم سليماني ومن الجنوب بمليشيا الحوثي المرتبطة بالولي الفقيه، تنطلق أسوأ محاولة للقمع الفكري وتوجه الاتهامات بالقبض من المملكة العربية السعودية، وعندما أتناول بتغريدة على تويتر إطلاق سلطة حماس لرجل دين مرتد باع نفسه لشياطين قم وطهران تكال التهم بالقبض من الإمارات العربية، حتى اللحظة لم أجد ربطا في هذا التفسير، وعندما أتحدث عن صفوي حاقد يريد تمهيد الطريق لإيران للربط بين حدود إيران مع العراق عبر ديالى وصلاح الدين ونينوى وصولا إلى الشاطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، يقال بأن العثمانيين الجدد بدأوا بفتح خزائنهم، ولا أراني مضطرا لنفي هذه الاتهامات لأن من يتهم بالقبض لا بد أن يكون صاحب تجربة في هذا المضمار.

هذه كلها محاولات لتجفيف حبر قلمي وتكسير أقلامي يسعى إليها إرهابيو الفكر وحملة الفكر المتعثر والمرتبطون بأحلاف مع شرار الأرض، بعد أن عجز العاجزون عن تقطيع أصابعي، ولهذا فأود أن أقول لهم بشفقة وحزم، لن أتوقف عن الكتابة "حتى إذا تجاوزت تهمهم الزبى" في كل ما أراه صائبا وما أعتقده متطابقا مع قناعاتي ولن أجامل أحدا كائن من كان وسأسمي الأشياء بأسمائها الصريحة، فالعمر مضى أكثره ولم يعد للمجاملة حيزا مهما ضؤل حجمه ووزنه في الضمير، ومن لم يجامل عندما كان في مقتبل العمر ويتوقع من مجاملته حينذاك منفعة، فلن يفعل ذلك في خريف العمر.

قد لا يعلم من يوجه هذه التهم المثيرة للسخرية أنني ممنوع من الظهور على الجزيرة والعربية والحدث وفضائيات كثيرة عربية أو ناطقة بالعربية، انصياعا لأوامر أمريكية أو إيرانية أو إسرائيلية أو من طرفين منها أو مجتمعة، وقد قالها عبد الرحمن الراشد المدير السابق لقناة العربية لصديق عزيز، بالحرف الواحد "نزار لن يظهر على شاشة العربية أو الحدث أبدا لأنه يهاجم إيران والمرتبطين بها" ولكن العربية عندما رأت أن تجربتي الطويلة في الأسر تخدم خطتها الإعلامية المضادة لإيران أجرت معي لقاء من أربع حلقات في برنامج الذاكرة السياسية، وقد لامني كثير من الأصدقاء على إجراء تلك الحلقات مع العربية، فكان جوابي أنني صاحب قضية وأبحث عن منبر لإيصالها والعبرة بما يقال وليس من قال أو أين قيل.

أما قناة الجزيرة فلا أحد يعرف بالضبط لماذا حظرتني منذ عام ونصف العام وقد قيل لي الكثير واتهم البعض هذا الشخص أو ذاك بالوقوف وراء القرار، ولكنني من ناحيتي أعرف أن موقفي المتشدد خارج الحدود المسموح للقناة بها تجاه الدورين الأمريكي والإيراني في العراق لا يعجب بعض القائمين على الفضائية المذكورة فأرادوا أن يريحوا أنفسهم من وجع الرأس.

بقيت قضية أردت سردها في حديثي هذا فأقول إن قناة الحدث تعرض فلما دعائيا لقدرة مراسليها على التواجد في أكثر المناطق خطورة، فتعرض مشهدا يسبق تفجيرا في مقهى كان مذياعه يصدح بإحدى أغاني ناظم الغزالي، فيهرب العراقيون وهم في حالة ذعر وهلع لا يدرون أين يولوا وجوههم، لكن مصور الحدث وحده هو البطل المغوار الذي يركض بسرعة أكبر من سرعة الهاربين، ولكن عكس الاتجاه فهو يذهب إلى موقع الخطر والتفجير في بطولة نادرة لهذا المصور وجبن نادر للعراقيين الذين لا يفكر أحدهم بتقديم النجدة لأخ أو صديق أو جار، الحدث تريد التسلق على جراح العراقيين وتوجه لهم تهمة الجبن كي تحقق كسبا رخيصا، هل هذا معقول؟ نحن الشعب الوحيد الذي وقف قائده في حلق الموت ولم يرتجف ونطق بالشهادتين عندما كان الآخرون من هول الفزع يلوذون بأحضان زوجاتهم، ترى هل نسيتم كيف وقف صدام حسين فجر الأضحى؟ العراقيون وبدرجات متفاوتة على طريق قائدهم.

يا لها من مفارقات تدمي العيون.





الخميس ١٢ محرم ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / تشرين الاول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة