شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ تعطيل فيتو أوباما على قانون جاستا الذي رافقته ضجّة كبرى لا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة فقط بل وفي العالم كلّه، لم تكفّ أصوات كثيرة عن التّعبير على نوايا ظلّت حبيسة الكتمان. وبصرف النّظر عن مدى اطّلاع هذه الجهات عن فحوى القانون وعن مسبّبات الانقسام الحادّ بشأنه خصوصا من المعنيّين به رأسا وهم الأمريكان أنفسهم، صارت المملكة العربيّة السّعوديّة في مرمى نيران أصحاب هذه الأصوات، وأشهرت بوجهها شتّى سيوف الحقد والضّغائن والرّغبة في الانتقام والتّشفّي.

وكالعادة، كان من بين أكثر من تحمّسوا بنفس البلاهة والسّطحيّة لهذا القرار الجديد، هم أولئك العرب الذين يظهرون حينا بثوب القوميّ أو الوطنيّ الحريص على مصلحة الأمّة ظاهريّا، أو برداء عرب اللّسان من الذين لا يجيدون التّفرقة بين معاني الانتماء للأمّة العربيّة ومقتضيات ذلك. واقتصر الخائضون في قانون جاستا هذا على توفيره للأمريكان من ضحايا العمليّات الإرهابيّة وخصوصا تفجير 11 سبتمبر - أيلول 2001 الفرص كاملة لرفع دعاوى ضدّ السّعوديّة.

إنّنا لن نخوض ههنا في ملابسات أحداث 11 -09-2011 ولا في ما تنطوي عليه من ملابسات وما يلفّها من غموض سمحا لأمريكا أن تبرّر تدمير أكثر من بلد خصوصا العراق عام 2003 وهذه إحدى الرّوايات التي لطالما ردّدها نفس من ينخرطون اليوم في حملات خسيسة مغرضة تتحرّش بالسّعوديّة وينفخون في نار استهدافها استتباعا للمشروع الامبرياليّ الاستعماريّ الصّهيونيّ بتذيّل صفويّ فارسيّ إيرانيّ لعين. ولكن، إنّما نذكّر بها للرّبط عضويّا ومباشرة بينها وبين قانون جاستا، ومن ثمّ لنحيل هؤلاء إلى المقاصد الحقيقيّة التي من أجله تمّ سنّ هذا القانون. فالأمريكان وبعد أن دمّروا العراق وأحالوه لما قبل العصور الحجريّة كما بشّر بذلك ذات يوم المجرم جيمس بيكر، وبعد أن استندوا في ذلك لأحداث 11-09-2011 وأكاذيب كولن باول وتقريره الفاضح حول علاقة نظام العراق الوطنيّ بقيادة حزب البعث العربّ الاشتراكيّ والقاعدة الضّالعة حسب ادّعاءاتهم في الحادث، حتّى يجدوا المبرّرات الكافية لتسويق حملتهم الآثمة على العراق، ها هم اليوم يتّخذون من هذا القانون عكّازا جديدا لبدء المرحلة الثّالثة من مخطّط سايكس بيكو الثّانية أو الشّرق الأوسط الكبير الجديد الذي بشّرت به الإدارة الأمريكيّة على لسان وزير خارجيّتها الإرهابيّة كوندوليزا رايس.

فقانون جاستا يأتي على ضوء فشل رهان أمريكا على ما سيحقّقه غزو العراق ومن بعده ثورات ما سمّي بالرّبيع العربيّ، بل إنّه ليس إلاّ محاولة للتّغطية عن الفشل المدوّي للسّياسات الأمريكيّة ومعاناتها بالتّالي من المستنقع العراقيّ خصوصا بفعل الضّربات القاصمة المدوّية التي سدّدتها لها ولا تزال المقاومة العراقيّة الباسلة حتّى لَتَكَاد أمريكا تشارف على انهيار اقتصاديّ شامل يجمع الخبراء الاقتصاديّون على استحالة التّعافي منه أو تداركه.

يدرك الأمريكان قبل غيرهم، أنّهم فشلوا في العراق فشلا لا نظير له، ويدركون تماما أنّهم باتوا عاجزين عن السّيطرة على كبريات الملفّات الحارقة في العالم وخصوصا في سوريّة وليبيا وغيرهما، ولكنّهم وعوض الإقرار بذلك وعض التّكفير عن إجرامهم الطّويل بحقّ الشّعوب والأمم والتّعويض لضحاياهم وهم بمئات الملايين، فإنّهم يعمدون لتوخّي سياسة الهروب للأمام والمضيّ قدما في مزيد استجلاب النّقم على الشّعوب الأمريكيّة من جهة والزّجّ بالشّعوب والأمم الأخرى وخاصّة العرب في دوّامة من الصّراعات القبليّة والمذهبيّة والطّائفيّة في إطار الفوضى الخلاّفة - وهي الفوضى الهلاّكة يقينا -.

الأمريكان علي دراية و معرفة عميقة بما تشكّله السّعوديّة من ثقل سياسيّ واقتصاديّ وروحيّ خاصّة في العالم كلّه وبالتّالي فإنّ استهداف السّعوديّة بهذا الشّكل العنجهيّ إنّما هو فصل جديد من فصول تآمر الإدارة الأمريكيّة على الإنسانيّة بالنّظر لتبعات انخرام الأوضاع في المملكة النّفطيّة والدّينيّة، ولا غَرْوَ إن أرجعنا ذلك لكونه إحدى أكبر تمظهرات سيطرة الصّهيونيّة على القرار الأمريكيّ سيطرة مطبقة.

قد يسأل البعض عن سرّ زعمنا هذا؟؟ وهنا يتوجّب علينا فورا أن نعالجه بالسّؤال التّالي :

- هل قدّمت الإدارة الأمريكيّة الأدلّة القطعيّة على ثبوت تورّط السّعوديّة جهة وحيدة تخطيطا وتمويلا وتنفيذا لاعتداءات سبتمبر هذه؟ ثمّ ألم تحقّق عشرات اللّجان والهيئآت والمؤسّسات الأمريكيّة في ملابسات تلك الأحداث؟؟ لِمَ انتظرت كلّ هذه المدّة لتتوصّل اليوم تحديدا لتورّط السّعوديّة في ذلك؟؟ فماذا إذن عن النّظام في العراق وماذا عن نظام طالبان والقاعدة رغم عدم المقارنة بينهم جميعا باعتبار لا رابط للنّظام العراقيّ بهما لا من قريب ولا من بعيد؟؟ هل من المعقول أنّ تحديد الجهة الضّالعة في تلك الأحداث مرتبط بتطوّر أهواء وأمزجة وسياسات وتكتيكات الأمريكان في كلّ عقد من الزّمن؟؟

إنّ الإجابة عن هذا السّؤال هو النّفي المؤكّد، بالنّظر لأنّ أمريكا لم تقدّم لليوم دليلا ماديّا واحدا يمكن البناء عليه لغرض إدانة السعوديّة واتّهامها بالتّالي بالضّلوع في الأحداث ليتمّ بعدها السّماح لضحايا مفترضين لمقاضاتها والقصاص منها. وعلى سبيل التّسليم جدلا بأنّ السعوديّة حقّا مورّطة في الأحداث الإرهابيّة التي ضربت أمريكا وإن على سبيل ذلك الرّبط الرّكيك المبتذل بين اشتراك السّعوديّة والقاعدة أو داعش أو ماعش أو غيرهما في الالتقاء في نقطة وحيدة هي الوهّابيّة، فهل هذا مبرّر كاف قانونيّا وسياسيّا وأخلاقيّا أن تعاقب كلّ السّعوديّة حكّاما ومحكومين؟؟

ثمّ ليكن ما رآه الأمريكان، فماذا عن مئات آلاف الوقائع الثّابتة الموثّقة والواضحة التي تؤكّد بدون مخاتلة ولا ادّعاءات، وتقيم الحجّة على ضلوع الأمريكان ساسة وعساكر وجنودا واستراتيجيّين في ارتكاب جرائم إرهابيّة لا حصر لها بحقّ شعوب مختلفة؟؟ ماذا عن استخدام الأمريكان للسّلاح النّوويّ والسّلاح الذّرّي في كل من هيروشيما وناكازاكي في أربعينات القرن الماضي؟؟ وماذا عن إفسادهم للحياة على متساكني هتين المنطقتين اليابانيّتين علاوة على تداعياتها النّفسيّة والصّحيّة وغيرها ؟؟ ماذا عن الفيتنام والسّلفادور وبنما والصّومال والأرجنتين ولبنان وسوريّة والأحواز العربيّة وفلسطين وليبيا؟؟

وماذا عن العراق ومأساته المفتوحة بفعل ما خصّته به الإدارات الأمريكية المتعاقبة من انتهاكات صارخة لكلّ القوانين والمواثيق والأعراف الدّوليّة بل ولكلّ تعاليم الشّرائع السّماويّة والأرضيّة ولجميع تقاليد الحروب؟ ألم تفتح أمريكا ترسانتها الحربيّة التّدميريّة بما تفتّقت به مصانع الحرب والموت فيها من أسلحة فتّاكة فأحالت العراق والعراقيّين لحقول تجارب استنفذت فيها كلّ مخزونها العنصريّ الوحشيّ والهمجيّ البربريّ؟

كيف ستسقط الفضائح المخزية التي نقلتها وسائل الإعلام العالميّة والأمريكيّة بل ونقلها جنود المارينز وبقيّة تشكيلات الجيش الأمريكيّ أنفسهم من داخل سجن أبو غريب وما شهده من سوابق تمتهن الذّات البشريّة وتوغل في نسف القيم وإن في حدودها الدّنيا؟

ماذا عن استخدام اليورانيوم المنضّب والمخصّب والقنابل النّوويّة المحدودة من حيث الفضاء الجغرافيّ الذي دكّت بهما أرض بلاد ما بين النّهرين؟ وماذا عمّا سبّبته الإشعاعات النّوويّة من مخلّفات كارثيّة على المواطن العراقيّ حتّى باتت بلاد الرّافدين مسرحا لظهور أمراض وعوارض غير معروفة سابقا حتّى على المستوى العلميّ علاوة على التّشوّهات الخلقيّة والاضطرابات النّفسيّة؟؟

هل من تعريف للإرهاب بل هل من ممارسات إرهابيّة أشدّ خطرا وأبعد أثرا وأسوأ مردودا من جرائم الإدارة الأمريكيّة في العراق؟

ليس من دليل أكبر على مدى ما بلغته الإدارة الأمريكيّة المجرمة من غطرسة واستغفال للشّعوب وتزوير للتّاريخ وقلب للحقائق من قانون جاستا هذا، وهو القانون الذي جاء معوّما فضفاضا وأقرّ فقط بحقّ لأمريكان باعتبارهم سادة العالم كما يروّجون، في مقاضاة الآخرين وصوّرهم كضحايا وحيدين للإرهاب فيما يدحض الواقع ذلك الادّعاء الفجّ دحضا لا غبار عليه ولا مجال لإنكاره.

إلاّ أنّه ورغم وحشيّة هذا القرار ومراميه الإجراميّة بل والإرهابيّة وما يغلب عليه من ابتزاز للدّول وبصورة أوضح الأقطار العربية لمزيد شدّها للبيت الأمريكيّ وإملاءاته، فإنّه فضح ما يشوب الأمريكان من غباء وحمق كبير وذلك بالنّظر لما سيسبّبه هذا القانون من تداعيات على أمريكا سياسيّا وقانونيّا واقتصاديّا بصفة أخصّ حيث يسمح قانون جاستا لكلّ ضحايا الغطرسة الأمريكيّة دولا وأنظمة وشعوبا وأفرادا بمقاضاة الأمريكيّين سواء تعلّق ذلك بالإدارة الأمريكيّة نفسها أو السّياسيّين أو العسكريّين بل وحتّى الاقتصاديّين وهو الأمر الذي نبّه إليه استراتيجيّون وخبراء قانونيّون وسياسيّون أمريكان أنفسهم.

هنا تحديدا، يحضر التّساؤل الأخطر الذي يبحث عمّا يفترض أن يردّ به العرب خصوصا وانّهم على رأس قائمة الاستهداف من خلال هذا القانون إن لم يكونوا الوحيدين ؟

يتبـــــــــــــــــع ....





الخميس ٥ محرم ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / تشرين الاول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة