شبكة ذي قار
عـاجـل










كدأبهم دوما، تشرئبّ أعناق بعض العرب باستمرار صوب الولايات المتّحدة الأمريكيّة كلّما حلّ الموسم الانتخابيّ، ويٌجنّد الإعلام العربيّ الرّسميّ والخاصّ بأصنافه المختلفة وتٌسخّر كلّ إمكانيّاته لرصد الأجواء الانتخابيّة رصدا دقيقا لا يغفل شاردة ولا واردة تتعلّق بالسّباق صوب البيت الأسود.

ويبرّر هؤلاء العرب وخصوصا النّخب على اختلاف مشاربها هذا الاهتمام بانتخابات الولايات المتّحدة ويعزونه لسبب وحيد أوحد يرونه مقنعا ووجيها للانكباب على الاعتناء بمسار الانتخابات منذ المنافسات داخل الأحزاب لحين استقرار رأيها على مرشّحيها وغير ذلك، بكون الولايات المتّحدة الأمريكيّة هي القوّة العظمى والأكبر في العالم وهي التي تهيمن عليه إعلاميّا وعسكريّا واقتصاديّا وعلميّا وحتّى ثقافيّا..

وبصرف النّظر عن هذا الدّافع ومدى موضوعيّته وصحّته، فإنّه لا يتناسب مع حجم التّركيز على الحدث وخاصّة مع انتظارات بعض العرب منه أو ما يعمد الإعلام ومعه النّخب السّابحة في فلكه للإطناب في تناولها وشرحها واستشرافها.

مع كلّ موعد انتخابيّ أمريكيّ، ينقسم العرب لفريقين رئيسيّين اثنين، يبذل الأوّل قصارى جهده في الاستماتة في الدّفاع عن مرشّح الحزب الدّيمقراطيّ وتعداد فضائل هذا الحزب ومسيرته، بينما يستميت الفريق الثّاني في دحض الطّرح الأوّل ويحاول الدّفع باتّجاه القبول بالمرشّح الجمهوريّ. ويتركّز بالتّالي مع هذا الخوض استقطاب ثنائيّ يستبدّ بالعرب ويباعد بينهم فوق ما يعانونه من انقسامات جمّة لا فائدة في التّعرّض إليها الآن.

فإلى أيّ مدى تتوافق انتظارات هؤلاء العرب من انتخابات البيت الأسود مع ما ستنتجه؟؟ وهل هذا الحدث حريّ بأن يحظى بتقديمه حتّى على أخطر الملفّات العربيّة الحارقة؟

يرى أغلب العرب في متابعتهم وتركيزهم المبالغ فيه على الانتخابات الأمريكيّة أنّ نتائجها ستؤثّر فعليّا وعمليّا على الواقع العربيّ، وعليه فإنّ التّعامل مع ما قد تفضي إليه الانتخابات يستوجب الاستعداد لها، لكأنّ هذا الاستعداد لا يتحقّق إلاّ عبر هذا الرّصد الدّقيق. كما يسعون من خلال المفاضلة بين الحزبين الأكبرين في أمريكا لخلق مناخ شعبيّ عربيّ هشّ ومرتبك وغير مدرك لحقيقة الانتخابات الأمريكيّة وجوهرها.

يعمد هؤلاء العرب الملتصقون بالأجندا الأمريكيّة لتزييف كلّ ما يكتنف العمليّة الانتخابيّة الأمريكيّة، بل ويظهرونها في غير ثوبها الحقيقيّ، حتّى ليٌخَيَّل للمواطن العربيّ البسيط وغير العربيّ أنّ قمّة الدّيمقراطيّة تتجلّى فيها، ويغفلون عمدا كون هذه الانتخابات الأمريكيّة ليست سوى محفلا برجوازيّا ليبراليّا يتمّ تأثيثه لإغراء العالم وترويج صورة حسنة للولايات المتّحدة الأمريكيّة وهو أمر مهمّ جدّا عند الأمريكان الذين يسعون بكلّ الوسائل لتحسين سمعتهم لدى الآخر لغايات معلومة لعلّ أهمّها إدامة السّيطرة الأمريكيّة على العالم.

إنّ الانتخابات الأمريكيّة في أحسن حالاتها لا تعنى بغير الشّأن الدّاخليّ الأمريكيّ ومصالح مواطني الولايات المتّحدة، فلقد ظلّ المتسابقون للرّئاسة في أمريكا دوما مقتصرين على مسألة الضّرائب والإحاطة الاجتماعيّة وتحسين شروط العيش للأمريكيّين، وهذا أمر جوهريّ لا ينبغي التّغافل عنه أو إهماله.

فعلى عكس ترويجات العرب المهووسين بالانتخابات الأمريكيّة - سواء لسذاجة أو قصور في التّفكير أو لنقص في المعرفة أو لأجندات أخرى معيّنة يرتبطون بها - لا يتبوّأ شأن السّياسات الخارجيّة لأمريكا حيّزا مهمّا فيها لأسباب عديدة، وهو ما يسقط أحد أهمّ تبريرات هذا التّدافع المحموم صوب القبلة الأمريكيّة في واشنطن خلال موسم الانتخابات وأجواء الاستعدادات لها.

إنّ السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة كما سياسات الدّفاع، لا تتأثّر بتغيير شكليّ في من سيحكم وطبيعة انتمائه سواء كان ديمقراطيّا أو جمهوريّا. حيث تتولّى إدارة هذه السّياسات والتّخطيط لها والإشراف عليها أجهزة ثابتة لا تراعي ولا تقوم على غير المصلحة القوميّة الأمريكيّة العليا. بل إنّ الرّئيس الأمريكيّ المتوّج بغضّ النّظر عن خلفيّاته وكلّ إدارته هم المطالبون بالتّكيّف والتّأقلم مع مقّررات تلك الأجهزة وتوصياتها ورؤاها التكتيكيّة والاستراتيجيّة رغم ما قد يبدو من صراع ظاهريّ في فترات معيّنة بين تلك الأجهزة والتي سرعان ما تذوب في بوتقة الصّالح العام الأمريكيّ مجدّدا.

إنّه وبالعودة للسّياسات الخارجيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، سنجد أنّ العرب هم أهمّ ضحاياها بل لعلّهم الضّحايا الأكبر والأبرز منذ عقود طويلة. فليس من مجال لإنكار حجم الجرائم الإرهابيّة الغادرة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكيّة بثوبيها الرّديئين الدّيمقراطيّ والجمهوريّ ولا إسقاط الفضاعات والأهوال التي خصّوا بها العرب، كلّ العرب ولم يسلم من تآمرهم ونهمهم وجشعهم الامبرياليّ وتوسّعهم الاستعماريّ أيّ قٌطر عربيّ وخاصّة في ليبيا والسّودان وفلسطين ولبنان والصّومال ناهيك عن خطيئتهم الامبرياليّة الكبرى بحقّ العراق من تحالف وعدوان عسكريّ ثلاثينيّ وحشيّ ثمّ الحصار الجائر وصولا للغزو البربريّ في 09-04-2003 وما تلاه.

لعلّ من شأن هذه الحقائق أن تجعل من رهانات هذا الفريق من العرب أو ذاك على تغيّر في سياسات الأمريكان بعد كلّ انتخابات رهانات خاطئة وبعيدة عن الواقعيّة ومفتقرة لأيّ منطق. فليس صحيحا مثلا انّ الدّيمقراطيّين أرحم من الجمهوريّين أو أقلّ جرما ولا إرهابا منهم، وحسبنا ههنا أن نضرب بعض الأمثلة وما بها من قدم، حيث حافظت أمريكا على دعمها اللاّمحدود للكيان الصّهيونيّ الغاصب وانحازت له دوما أبدا وتسبّبت بالتّالي في نسختيها الدّيمقراطيّة والجمهوريّة في كلّ مآسي شعب الجبّارين وعمّقت جراحات فلسطين السّليبة ورفعت طويلا الفيتو ضدّ كلّ سعي لمجرّد إدانة السّلطات الصّهيونيّة الغاصبة، كما نذكّر أيضا بأنّ استهداف العراق وهو أهمّ محطّات ضرب العروبة والعرب في مقتل وتهديد مصلحتهم القوميّة العليا، لم تختلف وتيرته ولا شكله بتغيّر انتماءات رؤساء أمريكا أو إداراتها، ونستذكر جميعا انّ المجرم بيل كلينتون مثلا لم يختلف عن سابقه بوش الصّغير من حيث الوحشيّة والسّاديّة والنّزعة الإجراميّة التي خصّت بها إدارته العراق، ونستذكر ذلك التّصريح المخزي لوزيرة الخارجيّة المتصهينة مادلين أولبرايت التي أكّدت فيه على أنّ قتل نصف مليون طفل عراقيّ لا يحرّك فيها ساكنا وأنّ العراقيّين ومن خلالهم العرب لا يستحقّون أفضل من الموت، وإنّنا إذ نضرب هذه الأمثلة فلكي نعرّي تماما زيف المفاضلة الرّكيكة الممجوجة التي يلوذ بها المفتونون بمتابعة الانتخابات الأمريكيّة من العرب نخبا وغيرهم ..

هذا ويتوجّب علينا التّأشير على أنّ العرب مدعوّون إن هم راموا أن يكون لهم تأثير ولو بدرجات بسيطة في سير الانتخابات الأمريكيّة وبالتّالي دفع سياسيّي الولايات المتّحدة وإدارتها لتغيير طرق تعاملها معهم ، إلى أن يبحثوا عن إنشاء وتركيز مجاميع نافذة داخل المجتمع الأمريكيّ فيما يشبه اللّوبيّات سواء كانت اقتصاديّة أو ثقافيّة أو إعلاميّة، إذ لا يعقل أن يتحوّز العرب على موارد ومقدّرات طاقيّة وثروات طبيعيّة هائلة يحتاجها الاقتصاد الأمريكيّ بشدّة وتظلّ بلا عوائد مباشرة عليهم بل وتتسبّب في أكثر الأحيان في استجلاب دواعي الاعتداءات الأمريكيّة الغادرة المتكرّرة ضدّهم.

ويدعونا ما سبق للتّشديد على ضرورة تدارك العرب سريعا لكلّ جوانب التّقصير في خلق موجبات تأثيرهم في الانتخابات الأمريكيّة وحتّى غيرها لما يعود بالمصلحة عليهم لا بالوبال، وعليهم الإقلاع عن الكفّ الفوريّ عن الاكتفاء بمتابعة تلك الانتخابات متابعة سلبيّة لا تقوم على غير التّمنّي والتّذلّل والتّبعيّة المهينة في ظلّ عصر لا يحترم غير الأقوياء. وإنّه على العرب أن يدركوا أنّه لا مجال لتحقيق هذه المعادلة بغير مشروع قوميّ عربيّ نهضويّ تقدّميّ حقيقيّ يقوم أساسا على الرّهان فقط وحصرا على المقدّرات العربيّة والطّاقات الإنسانيّة في الأمّة العربيّة وهي قادرة إن غلّبت مصالحها القوميّة عمّا سواها على إيجاد تغيير شامل وجذريّ لا على المستوى القوميّ فقط بل وكلّ العالم.

فلا معنى للتّمنّي والرّجاء، ولا معنى لانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكيّة لأنّ السّياسة الأمريكيّة حيال العرب تقوم رأسا على ما أفصح عنه هنري كيسنجر أحد اكبر مفكّري أمريكا الاستراتيجيّين في أحد مقالاته عقب ما سمّي بثورات الرّبيع العربيّ المزعوم، حيث شدّد على أنّ سياسات بلاده حيال العرب تقوم على بعدين رئيسّيّين اثنين هما أمن الموارد النّفطيّة والطّاقيّة وأمن الكيان الصّهيونيّ وما سمّاه في مقالته بـ " أمن إسرائيل " ويبقى - والكلام دوما لكيسنجر - البعد الأهمّ في تعاطي الولايات العربيّة وسياساتها تجاه العرب هو " منع قيام كيان عربيّ ذو طابع وطنيّ يجمع حوله العرب ويوحّدهم " .

فمتى يدرك العرب هذه الحقائق ويستوعبونها ومن ثمّ يسعون لانتزاع حقوقهم واسترداد مكانتهم التي لن تمنحها لهم انتخابات أمريكا ونتائجها سواء أفرزت إدارة جمهوريّة أو ديمقراطيّة أو من خارج هذين الحزبين؟





الخميس ٢٠ ذو الحجــة ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / أيلول / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة