شبكة ذي قار
عـاجـل










شكّل ولا يزال يوم الثّامن من أوت – آب من عام 1988 يوما تاريخيّا فارقا في حياة العراقيّين والعرب عموما حيث يصادف تاريخ إعلان المجرم الخميني قبوله بوقف إطلاق النّار موذنا بانتهاء العدوان الفارسيّ الإيرانيّ الغاشم على العراق وهو الذي تواصل ثمانية أعوام كاملة، ومعترفا بهزيمة جيشه النّكراء إذ عبّر عن ذلك بقولته الشّهيرة المدوّية " إنّي أتجرّع السّمّ وأنا أعلن وقف إطلاق النّار " وذلك بالنّظر لتجاهله لدعوات العراق المتلاحقة بالتّوقّف عن العدوان عليه لاعتبارات كثيرة أهمّها أنّ الحرب تٌقعد العراق عن معارك الأمّة المصيريّة وتحرمه من الإسهام في صدّ العدوان الصّهيونيّ على لبنان وفلسطين وغيرهما خصوصا وأنّ الخميني رفع شعارات برّاقة أهمّها مقاومة الكيان الصّهيونيّ الغاصب.

ولا يمثّل هذا اليوم في تاريخ العراق والعرب جميعا حدثا خالدا ولا يستمدّ أهمّيته من خلال تأريخه لانتصار العراقيّين وصدّهم للجحافل الفارسيّة الصّفويّة الغازية، ولكن تكمن تلك الأهمّية في الدّروس والعبر المستخلصة من تلك الحرب الظّالمة، لعلّ أهمّها أنّها أظهرت للعرب ما يزخرون به من طاقات ومقوّمات رهيبة باستطاعتها إحداث نقلة نوعيّة بشرط استثمارها وتوظيفها توظيفا علميّا، ناهيك عن أنّها تفصح عن قدرتهم على النّهوض مجدّدا ونحت مشروع تحرّريّ قوميّ إنسانيّ وبناء منظومة صدّ الاعتداءات الخارجيّة ودرء الأطماع المعادية على عكس ما روّجه أعداء الأمّة وسعوا لتثبيته مسلّمة لا يمكن تغييرها واستبطنها كثير من أبناء الأمّة نفسها وردّدوها ويتجلّى ذلك من خلال القراءات الاستسلاميّة اليائسة الخانعة القابلة بالاستعباد والمتصالحة مع واقع العرب المريض والمشجّعة على الرّضوخ لإملاءات الاستعمار والرّجعيّة ومختلف الجهات الحاقدة على الأمّة العربيّة كاملة.

إنّ ما تحقّق في هذا اليوم الأغرّ وما حمل في طيّاته من دروس وعبر لا يجب أن تمرّ مرور الكرام على أذهان العرب وفي عقيدتهم ووعيهم وعقلهم النّقديّ، بل إنّه محطّة شديدة الخطورة والفاعليّة ليس أمامهم إن راموا فعلا النّهوض مجدّدا ونحت مسيرة إبداعيّة شاملة إلاّ أن يعكفوا عليه وعلى ما رافقه بالدّراسة والتّشريح.

فنصر الثّامن من آب – أوت 1988 لم يكن ليتحقّق لو لم يتمخّض عن تهيئة شاملة لامست المواطن والجماهير العراقيّة في مختلف الأبعاد والأصعدة نفسيّة وتعليميّة وثقافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أو حتّى السّياسيّة والقانونيّة وتتعدّى ذلك للمكتسبات العمرانيّة والتّنمية البشريّة، وهي أبعاد متى انصهرت وتفاعلت تفاعلا سليما لن تثمر غير الإبداع والخلق والابتكار النّوعيّ.

إنّ المؤسف حقّا أنّ العرب ظلّوا الوحيدين الذين لم يستوعبوا ما حدث يومها، ولم يبنوا عليه ولم يتلقّفوا مآثره.

إلاّ أنّه وفي مقابل ذلك، استغلّت الدّوائر الامبرياليّة والجهات الاستعماريّة والصّهيونيّة نصر الثّامن من آب – أوت لتسرّع من وتيرة استهدافها لتجربة النّظام الوطنيّ في العراق بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وهي التّجربة التي حاربتها منذ انطلاقتها بطرق ناعمة حينا ومخاوزة أحيانا، حيث ومنذ تأسيس الحزب سعت تلك الدّوائر لمحاصرته ودسّ الدّسائس وتنفير الجماهير منه بافتعال الأكاذيب واختلاق الافتراءات، وتنوّعت أساليب محاربة البعث بالاعتماد على الحركات الرّجعيّة المناهضة لأيّ فعل مؤسّس لغد عربيّ يقوم على امتلاك العرب لناصية أمورهم ويمكنّهم من تخطّي الحواجز التي حيكت في دهاليز التّآمر الغربيّ والصّهيونيّ.

لقد أربك هذا النّصر الباهر أعداء العرب والعروبة إذن، فما كان منهم إلاّ أن أطبقوا حصارا جديدا على البعث ونظامه الوطنيّ في العراق وتجربته النّهضويّة الرّائدة والشّاملة، ففي محاصرتها إبقاء على ممهّدات إحكام السّيطرة على المقدّرات العربيّة واستغلالها لمصلحة تلك الجهات وهي مصلحة تتناقض واقعا مع مصالح أهل الأرض، وفيها أيضا محافظة على الواقع الفاسد المزري الذي يتيه في ثناياه ملايين العرب، كما يحفظ تعويق البعث واستهدافه وعرقلة مسيرته في البناء وهي المبنيّة على أسس وعقيدة قوميّة ثوريّة أصيلة تفوّق الكيان الصّهيونيّ المزروع بسلطان القوّة في قلب الوطن العربيّ مشكّلا حاجزا مصطنعا بين جزئيه الغربيّ الإفريقيّ والشّرقيّ الآسيويّ.

وعليه، تلاحقت المؤامرات وحيكت الحيل، وكان المرور إلى المخطّط المعدّ سلفا باستغلال حادثة الكويت استغلالا فاحشا ظالما ليرزح العراق ونظامه الوطنيّ بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ تحت سياط الحرب الطّويلة الجائرة التي حشّد لها الغرب بقيادة أمريكا المدفوعة من الصّهيونيّة العالميّة أقوى الحشود في العالم، واستغلّ المعتدون سطوتهم وسيطرتهم على مجلس الأمن ليسنّوا كلّ القوانين التي من شأنها أن تجرّد العراق ومن خلاله أمّة العرب وتحرمهما من كلّ دعائم القوّة والسيّادة والمناعة والتّحصين القوميّ. ولم تكتف تلك الدّوائر المجرمة بالحرب بل أردفتها بحصار مطبق حورب فيه الإنسان العراقيّ في قوته وفي رزقه، واستهدفت الدّولة العراقيّة في كيانها طيلة ثلاثة عشرة عاما حرص أعداء العراق والبعث والعروبة على إنهاك العراق وتبديد قواه وإضعاف قدراته البشريّة والعسكريّة والدّفاعيّة لتقدم عام 2003 رأس الامبرياليّة في العالم الولايات المتّحدة الأمريكيّة على جريمة جديدة هي جريمة الغزو البربريّ الذي قوّض وأفسد كلّ معالم الحياة في العراق ومن ثمّ في كلّ المنطقة العربيّة.

يحاول كثير من السّفهاء التّرويج لسخافات أسقطها الواقع وما تبع غزو العراق، ويسعون لاتّهام العراق ونظامه الوطنيّ بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ بالتّسبّب في كلّ ما حلّ بالعراق، ويعمل بعض المتحذلقين على إدانة نظام العراق بالتّعنّت والتّصلّب، قافزين على حقيقة لا يختلف حولها عاقلان أو موضوعيّان مفادها أنّ قرار تدمير العراق وإسقاط نظامه الوطنيّ الشّرعيّ قرار قديم جاهز على رفوف الإدارات والقوى المتحكّمة بالعالم وبمصائره، تمّت تهيئة الظّروف لتنفيذه على مراحل، بل يجمع كلّ النّزهاء والأحرار على أنّ لا سبيل للمقارنة ولو على سبيل المزاح بين حال العراق قبل الغزو وبعده، أي عراق البعث وعراق الجواسيس والعملاء الذين امتطوا ظهور دبّابات الغزاة.

لقد أفسد الأمريكيّون وكلّ من ركب ركابهم من صهاينة وعرب رسميّين وفٌرس صفويّين معالم الحياة في العراق، وتجلّت مظاهر نقمتهم واتّحدت أحقادهم على عراق التّاريخ والحضارات وعراق البعث ومشروعه القوميّ العربيّ العامل على تهيئة كلّ ممهّدات استعادة العرب كأمّة قائمة لسالف أمجادها وبالتّالي تبوّئها مكانتها الطّبيعيّة بين بقيّة الأمم بعيدا عن كلّ مظاهر التّمييز والاستعلاء والاستعباد.

لقد بدا جليّا من خلال ما تلا غزو العراق وإسقاط نظامه الوطنيّ واغتيال قادة العراق وهم في أغلبهم قادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ مدى ما شكّله هذا الحزب بفضل خطّه النّضاليّ الكفاحيّ الجهاديّ ورسالته الخالدة من بواعث قلق في الدّوائر المتنفّذة في العالم، وما مثّله من تهديد جدّي علميّ وعمليّ يضرب مصالحهم في مقتل ويقلّم أطماعهم في مزيد استنزاف خيرات الأمّة العربيّة استنزافا مجانيّا يديم حالة الوهن والخمول والرّكود التي تعصف بها.

وإنّه ما من شكّ في أنّه لو لم يتمثّل الغرب الاستعماريّ خطر حزب البعث العربيّ وطرحه وهديه وفكره ومشروعه الحضاريّ على خططه وأجنداته، ما كان ليوكل في بداية الأمر الدّور للعدوّ الفارسيّ الصّفويّ ويطلق له العنان ويخصّه بكلّ أشكال الدّعم لتقليم أظافر هذا المارد العربيّ الأصيل، وما كان - لولا فشله في مسعاه وفي تعويله على الخميني المجرم - ليتدخّل بقضّه وقضيضه مباشرة ولسنوات طويلة لينهي ما بدأه من قبل.

ليس من مجال لدحض هذه الحقائق المثبتة علميّا وواقعيّا، بل إنّها تزداد ترسّخا ودعامة بالوقوف على قرارين اثنين خصّ بهم أعداء العرب التّقليديّون – وهم أعداء البعث بطبيعة الحال – حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، حيث سنّ الأمريكان قانونا الاجتثاث الأسود وهو القانون الذي صدر زمن بول بريمر الذي شغل خطّة الحاكم المدنيّ للعراق إبّان الغزو، وسنّ أقزام المنطقة الخضراء في بغداد المحتلّة بتوجيهات وأوامر وتعليمات صارمة من الفرس الصّفويّين قانون حظر البعث مؤخّرا.

إنّه ولمّا فشل قانون الاجتثاث البائس وانثنى على ظهور البعثيّين بفعل صمودهم ونضاليّتهم العالية وجهاديّتهم الفريدة، جاء حظر البعث ليكشف عن مدى الرهبة والخشية من هذا الحزب العملاق.

وفي حقيقة الأمر، لا مناص من التّدليل على العلاقة الجدليّة بين قرار حظر البعث ويوم الثّامن من آب – أوت 1988 كما الحال أيضا مع الاجتثاث.

لقد سبق وأن بينّا أنّ حرب السنوات الثّماني التي انتصر فيها العراق وكبح جماح أطماع الفرس الصّفويّين الحاقدين المسكونين بالثّارات التي لا تخبو جذوة اتّقادها الشّريرة، كانت من بين خطط القوى الكبرى التي رعت وباركت وسّهلت تصعيد الخميني لدفّة الحكم في الهضبة الإيرانيّة من أجلها، بل لعلّها كانت الدّافع الرّئيس لاختياره أوّلا، وهي أيضا، أي تلك الحرب، كانت المهمّة الأعلى التي انتدب لأجلها المقبور الخميني. وبطبيعة الحال، لن تغفر تلك القوى للعراق أن أفشل مخطّطاتهم ولن تهمل الخسائر الفادحة التي كبّدها إيّاها بالنّظر للمستوى المهول من الدّعم العسكريّ والتّسليحيّ والإعلاميّ وقطع الغيار وغير ذلك.

وما لم تسقطه تلك القوى المجرمة للعراق ونظامه الوطنيّ بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ أبدا، هو تجرّؤه على دكّ معاقل الإرهاب والعنصريّة والفاشيّة في تلّ الرّبيع المحتلّة وضرب القطعان الصّهيونيّة، مباشرة بعد انتصار آب – أوت الخالد، ليعلن العراق أنّه فعلا انتصر على العدوّ الفارسيّ وخرج أقوى وكسب جيشا ذا مهارة وقدرات يقرأ لها ألف حساب على خلاف الرّهانات السّابقة.

أمّا قانون الحظر البائس، وهو كما عرّفناه سابقا على أنّه نسخة مشوّهة من الاجتثاث الخائب، فلقد جاء ليشفي أحقاد أتباع الخميني وهو الذي مرّغ الجيش العراقيّ زمن حكم حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ أنفه في التّراب واضطرّه لتجرّع السّمّ الزّعاف صاغرا ذليلا.

هكذا إذن، كان نصر الثّامن من آب – أوت 1988 محرّكا لما استقرّ في باطن الامبرياليّة بريادة أمريكا والصّهيونيّة والصّفويّة الخمينيّة من هزائم مدوّية أهانت غطرسة هذا الثّلاثيّ المهووس بالتّفوّق على العرب والعراق والمسكون بنقمة لا تنقطع على حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، إذ يكفي البعث والبعثيّين فخرا أنّهم لا يزالون متمترسين في السّوح وخنادق المواجهة بشقّيها المسلّح والجماهيريّ السّلميّ في كلّ ربوع الوطن العربيّ، وهم الذين يشكّلون المصل الطّبيعيّ والمضاد الحيويّ للأمّة العربيّة فتظلّ بفضل جسام تضحياتهم الأمّة الوحيدة الخارجة عن سيطرة هذا الثّالوث الشّعوبيّ المجرم وتبقى بالتّالي عصيّة عن التّركيع والدّخول لبيت الطّاعة على عكس كلّ الأمم والشّعوب الأخرى رغم كلّ المكابدة والمشقّة والعناء.





الاربعاء ٧ ذو القعــدة ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / أب / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة