شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل نيف وشهر من هذا التاريخ، تجاوز الفراغ في موقع الرئاسة الأولى عامه الثاني وولج إلى الثالث دون أن تلوح في الأفق القريب بوادر حلحلة لإنجاز هذا الاستحقاق الدستوري. والشغور في موقع الرئاسة الأولى لم يكن المشهد السلبي الوحيد الذي أرخى ظلاله وما يزال على مجرى الحياة السياسية العامة، بل ثمة مشاهد أخرى، بدءاً من التعطيل لدور مجلس النواب التشريعي والرقابي، إلى شلل مؤسسة مجلس الوزراء الذي تحول إلى ما يشبه "العصفورية السياسية" وانتهاء بانعكاس ذلك على أداء المرفق العام الإداري والقضائي والخدماتي وكل ما له علاقة بدورة الحياة العامة. هذا الواقع الذي يعيشه لبنان، لم يعش مثيله من قبل. وهذا وأن كان يعود ببعض أسبابه إلى تراكم المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إلا أن الأسباب الأكثر تأثيراً هي أن ساحة لبنان وأن كانت تعيش حالة مساكنة سياسية لم تصل حافة الانفجار الشامل بالرغم من بعض الاختراقات الأمنية وآخرها عملية القاع الإجرامية، إلا أنها لا يمكن عزلها عن الصراع المتفجر في المحيط العربي وخاصة في سوريا.

إن المنطقة العربية التي تغلي على نار حامية، ويشتد الصراع فيها وعليها، تجعل كل موقع عربي ضمن امداءات اللهيب. وبالتالي فإن لبنان وهو على خط التماس الجغرافي والصراعي مع العدو القومي للأمة الذي يحتل ويستوطن فلسطين هو أيضاً على خط التواصل الذي يربط ساحات المواقع العربية الملتهبة.
وعلى هذا الأساس، فإنه من غير الطبيعي أن تكون المنطقة العربية تعيش مرحلة تحولات كبرى، ولا يكون لذلك ارتدادات قوية على ساحات الجوار الجغرافي للمواقع الحامية، وكيف إذا كان لبنان وهو الأقرب إلى سوريا وفيها يدور صراع يتجاوز حدود الترتيبات السياسية لإعادة تكوين السلطة، إلى ترتيبات تطال النظام الإقليمي برمته، والموقع العربي فيه؟

من هنا، فإن الاستعصاء السياسي المعبر عنه بالأزمة في تعبيراتها الدستورية والسياسية وانعكاساتها على الصعد الاقتصادية والاجتماعية يبدو أمراً طبيعياً إذا ما وضع في إطار البعد الأشمل. وهذا ما يجعل من الأطراف الداخلية اللبنانية أعجز من أن تنتج حلاً سياسياً لحالة الاستعصاء هذه، خاصة وأن الأطراف ومهما بلغت قوة تأثيرها في إطار موضعية الساحة اللبنانية، تبقى دون القدرة على تظهير حل سياسي يعيد الانتظام العام لدورة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكل ما تستطيعه هو الحؤول دون تمرير الحلول التي لا تراها ملاءمة لمصالحها الآنية والبعيدة ،ولهذا تمارس سياسة التعطيل والتعطيل المضاد. وهذا ما يبقي الساحة اللبنانية ساحة معطلة في انتظام دورة حياتها السياسية، وساحة مكشوفة لكل أشكال التدخل، خاصة وأن الكل بات يتعامل مع ساحة لبنان باعتبارها ساحة خلفية لتقديم خدمات إلى الساحات الأكثر مركزية في أتون الصراع الدائر.

وبحكم هذا الواقع القائم، فإن القوى اللبنانية، المنخرط منها ميدانياً في مجريات الصراع المتفجر في أكثر من ساحة عربية أو المتماهي سياسياً مع محوريات هذا الصراع، أصبحت واقعة تحت وطأة تثقيل الهزات الارتدادية للزلزال الذي ضرب ويضرب الواقع العربي وخاصة مشرقه، وعندما تكون هذه الهزات بهذه القوة، بأن البنيان الوطني يكون عرضة للتصدع وهذه حال لبنان. وعندما يكون البنيان الوطني في حالة تصدع، فإن انعكاسات هذا التصدع لا تقتصر عليه وحسب، بل تمتد لتطال المكونات السياسية أياً كانت أحجامها وقواها، والتصدع الذي يطال بنية القوى السياسية وأحزبها، يعبر عنه بشكلين :

الشكل الأول، هو التصدع الذي يطال تماسك الموقف في البيئة الحاضنة الشعبية، والشكل الثاني هو الذي يطال تماسك البنية التنظيمية للقوى السياسية وأحزابها.

وبما أن الإعصار الذي يضرب المنطقة العربية ببواعثه الدولية والإقليمية أكبر من قدرة الأطراف الداخلية على استيعاب تأثيرها وعواملها الضاغطة، فإنها ولا شك ستنوء تحتها، لأنها أضعف من أن تستطيع احتواء هذه المضاعفات.

وقد بدا واضحاً أن مؤشرات التصدع في تماسك الموقف السياسي برزت من خلال ما أفرزته الانتخابات البلدية من نتائج وخاصة في المناطق التي كانت الأحزاب تقدم نفسها بأنها أحزاب مهيمنة. وهذه الأحزاب وأن فازت إلا أنها فوزها في كثير من المواقع ذات الدلالة السياسية كان بطعم الهزيمة. وأما التصدع في تماسك البنى التنظيمية، فقد ظهر من خلال الأزمات التي تعصف بالأحزاب والقوى وخاصة تلك التي تمسك بمفاصل السلطة. وهذا التصدع لم يقتصر على حزب دون آخر بل طال الجميع وآخرها الكتائب.

إن بدايات هذا التصدع كانت في فكفكة تحالفات المحورين الكبيرين 8 و14 آذار ثم ما لبثت ان كرت سبحة هذا التصدع لتطال بنية الأحزاب والتي شملت كل الأحزاب والقوى المنضوية تحت يافطة المحورين اللذين أدار الحياة السياسية اللبنانية منذ أكثر من عشر سنوات متناوبين على تبادل الأدوار في الموالاة والمعارضة تارة، والتوافق على قواعد المحاصصة السياسية في دائرة الحكم تارة أخرى.

وإنه بعد عشر سنوات وأكثر على هذه الآلية في إدارة شؤون الحكم، لم يشهد لبنان انتظاماً لدورة الحياة السياسية فيه، بل كل ما ساد المرحلة السابقة هو التعطيل، وصولاً إلى الشلل فلا انتخاب رئيس للجمهورية رغم تجاوز عدد الدعوات لعقد الجلسة الانتخابية الأربعين ، ولا اتفاق على تفعيل عمل الحكومة وفق الآليات الدستورية، ولا اتفاق على قانون انتخابي جديد، يكون أساساً لإعادة تكوين السلطة. ورغم عشرات الجلسات الغير مكتملة النصاب لانتخاب رئيس، وعشرات الجلسات لللجان النيابية المشتركة ومثلها "لهيئة الحوار"، فإن الكل يدور في حلقة مفرغة، وفي كل مرة تلوح في الأفق إشارة حلحلة، تبرز عوامل تعقيد جديدة تعيد الأمور إلى المربع الأول. وهذا أن دل على شيء فإنما يدل أن الأوضاع ستبقى على مراوحتها وأنه ليس في الأفق القريب ما يبشر بقرب حل للأزمة السياسية اللبنانية.

فلو كانت تتوفر رغبة وإرادة صادقة لإعادة تفعيل الحياة السياسية، لما كان مدد للمجلس النيابي بحجة الظروف الأمينة، وقد سقطت هذه الحجة بإجراء الانتخابات البلدية، ولذلك، كان الموقف من تأجيل الانتخابات النيابية مرتبط بالخوف من نتائج هذه الانتخابات بحيث لا تأتي نتائجها وفق ما هو مرجو منها من جانب القوى الممسكة بمفاصل السلطة. وإذا كانت الانتخابات البلدية قد جرت في هدوء تام، فهذا لا يعني أن الانتخابات النيابية لو تقرر إجراؤها دون رغبة البعض، من أنها لن تعطل بعمل أمني أو بهزة سياسية.

كما أن الجدل حول قانون الانتخابات ما كان ليأخذ هذا المدى الطويل من النقاش لو كانت هناك نية جدية لسن قانون انتخابي ينهي تسلط القوى الطائفية الممكسة برقاب الشعب، ولما كانت الأمور وصلت إلى هذا الحد من اليأس من سن قانون انتخابي وهناك عشرات المشاريع والاقتراحات .

أن كافة القوى التي تصوب نارها على "قانون الستين" لا تريد الإقدام على "دعسة ناقصة" لا تعرف نتائجها مسبقاً في لحظة التحولات السياسية الكبرى. ولهذا فإنها جميعها مع قانون يعيد إنتاج هذه الطبقة الحاكمة على رغم المماحكة السياسية التي تسود خطابها وقانون الستين هو الأمثل.

لقد ثبت أن الطبقة الحاكمة بكل أطرافها، وهي أطراف طائفية ومذهبية، لا تريد تطبيق ما نص عليه اتفاق الطائف. وهو نص دستوري جاهز، وبالإمكان العمل وفق مقتضياته لو كان هناك نية صادقة لسن قانون انتخابي خارج القيد الطائفي.

كما أن كل الطبقة السياسية بأطرافها الحديثي النعمة في السلطة والقديمين منهم لا يريدون قانوناً انتخابياً يعتمد النسبية سواء في الدائرة الوطنية الواحدة أو حتى في الدوائر الأصغر، لأن هذا القانون يُفقد هذه القوى ما تعتبره شرعية تمثيلها الطائفي والمذهبي من ناحية، كما يفقدها الحصة التي كانت تحوز عليها وتفرض نفسها من خلالها في التشكل السلطوي. ولهذا فإن كل هذا الذي يجري في اللجان والهيئات الحوارية الكبيرة والصغيرة، المتعددة لأطراف أو الثنائية، إنما هو طواحين هواء لا تخرج ماء ولا طحيناً.

على هذا الأساس، فإن الأمر يتطلب مصارحة الشعب بالحقيقة. وهو أن الذين يقدمون أنفسهم، بأنهم رعاة حل، هم أعجز من ينتجوا حلاً لأزمة ارتضوا أن يقتصر دورهم على إدارتها لإبقائها ضمن دائرة الاحتواء بانتظار المتغيرات الخارجية وعدم دفعها إلى التفجر الشامل ..

هذا الواقع السائد، سيزيد من اتساع الشرخ السياسي الداخلي، وسيزيد من المخاطر المترتبة على الانكشاف الوطني، ومعهما سيرتفع منسوب التصدع في المواقف السياسية والبنى التنظيمية. وهذا يعني أن التصدع في البنيان الوطني لا تنعكس إثارة السلبية عل المكونات المجتمعية وحسب بل ستطال المكونات السياسية، وعندها لن يكون هناك رابح بل الجميع سيكونون في خانة الخاسرين وأن بنسب متفاوتة.

فهل من مصلحة القوى التي ارتضت لنفسها هذا الدور، أن يتصدع البنيان الوطني خدمة لأجندات أهداف غير وطنية. أن كانت تدرك فتلك مصيبة وأن كانت لا تدري فالمصيبة أكبر ولا نعتقد أنها لا تدري ...





الثلاثاء ٢٣ رمضــان ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / حـزيران / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة