شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يتأخر الوقت طويلاً، ما بين السابع عشر الثلاثين من تموز 1968، والأول من حزيران 1972، حتى كانت الأمة العربية على موعد مع حدثٍ كبير جداً، كان صداه مباشراً في ساحة العراق وارتداداته شديدة التأثير على شركات النفط التي تملك مفاتيح التأثير السياسي في دول بنت استراتيجياتها الاقتصادية على ثابت هيمنتها وسيطرتها واستغلالها لمصادر الطاقة النفطية في ما يطلق عليه بدول الجنوب.

أربع سنوات تقريباً، فصلت بين استلام حزب البعث لمقاليد توجيه دفة الأمور السياسية في العراق، وبين قراره تأميم النفط ووضع شعار بترول العرب للعرب موضع التنفيذ. يومذاك كان كثيرون يشككون بإقدام العراق على تأميم نفطه، وكان كثيرون أيضاً يشكون في قدرته على حماية قراره. اما المشككون فهم الذين لم يعرفوا جيداً طبيعة التغيير السياسي الذي حصل، وظنوا الأمر كسابقات، حصلت في بعض الأقطار العربية، وما كانت للشعارات لتطبق على أرض الواقع، وأما الذين شكوا بقدرة العراق على حماية قراره، فانطلقوا من خلفية أن هذا الأمر هو إعلان حرب على مراكز نفوذ دولية، وأنه في ظل موازين القوى المنظورة لا قدرة للعراق أن يواجه كارتلات اقتصادية كبرى خاضت سابقاً مواجهات مع مواقع دخلت غمار التجربة لكنها سقطت، وتجربة مصدق نموذجاً.

نسوق هذا الكلام، لأن ممثلي الشركات النفطية الذين حضروا إلى بغداد لدفعها لإعادة النظر بقرارها، سئلوا في مطار بغداد، كيف تقيمون الموقف وكيف ترون الاحتمالات، فكان جوابهم، بأنه قبل وصولنا إلى لندن ستسمعون الخبر اليقين. وكانوا يقصدون بذلك، أن مصير الحكم في بغداد سيكون كغيره حكم مصدق. لكن الذي حصل ان الوفد النفطي المفاوض وصل إلى لندن، ولم يذع بلاغ أول من إذاعة بغداد، ومرت الأيام ولم يذع البلاغ المنتظر، وعندها تبين للذين ظنوا أن الحدث العراقي هو كغيره من الأحداث التي تشهدها ما عرف دول الجنوب، ان شيئاً جديداً حصل في العراق لم يكن مفهوماً جيداً لديهم.

لقد نجح العراق في حماية خطوته، وبذلك رد على التشكيك والشاكين، باستراتيجية محكمة الحلقات واضحة الاستهدافات. لقد أحكمت الحلقات من خلال النجاح الذي تحقق في خطوات الإنتاج والتسويق، وتوضحت الاستهدافات من خلال وضع مردود الثروة الوطنية في خدمة التنمية الشاملة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والبشرية. ومع تفجر الحقول النفطية التي صب مردودها في الخزينة الوطنية تفجر المشروع النهضوي الذي نقل العراق من مصاف الدول المتخلفة تنموياً إلى مصاف الدول التي تضع إقدامها على عتبة النهوض الشامل.

إن هذا الإنجاز التاريخي وقدرة العراق على حمايته، شكل عامل استفزاز إضافي للمواقع الدولية ذات الطبيعة الاستعمارية والتي لا ترى في العراق والأمة العربية، سوى بقرة حلوب تمتص خيراتها وسوقاً استهلاكية لسلعها. ومنذ تلك اللحظة لم تستطع القوى الدولية المسيطرة على مصادر الطاقة استيعاب الضربة التي تلقتها، بل كتمت خططها السرية إلى اللحظة التي تستطيع فيها الانقضاض على خطوة تأميم النفط.

لقد حاولت تلك القوى أن تسقط الحكم الوطني بطرق عدة، فبدأت بالتخريب الداخلي عبر أدوات ربطت بها تمويلاً وتجهيزاً وتوجيهاً، وبعدما فشلت لجأت إلى توظيف الاحتياط الإقليمي الذي يضمر شراً بالعراق، فكانت الحرب التي زينت للنظام الإيراني خوضها ضده تحت عنوان تصدير ما يسمى "بالثورة" لرد جميل من النظام الإيراني الجديد لفضائل الغرب السياسي عليه، والذي وفر له كل التسهيلات الإعلامية والرعاية السياسية والاسناد العسكري وكانت النتيجة ليست بأفضل مما منيت به الشركات النفطية يوم بدأت خوض جولات المواجهة عشية اتخاذ القرار بتأميم النفط.

ولما فشلت أدوات التخريب الداخلي وحرب الوكيل الإقليمي في إسقاط الحكم الوطني الذي قدم نموذجاً ثورياً في إدارته لسياساته الوطنية وتوظيف ثرواته الطبيعية في خدمة شعبه وأمته، اندفع الأصيل إلى الواجهة وبدأ رحلة الاستعداد للحرب، التي بدأت بالحرب الاقتصادية لحظة وضعت الحرب المفروضة على العراق أوزارها ثم مرت مرحلة معطى تشكيل الأزمة مع الكويت والتي كان الغرب السياسي مهندس تحضير مقدماتها، إلى أن جاء الحصار ومن ثم العدوان الذي أوقع العراق تحت الاحتلال وما تولد عنه من تداعيات.

ومن يدقق جيداً بالأسباب الفعلية الكامنة وراء وضع العراق ضمن دائرة الاستهداف المركزي للقوى الاستعمارية المعادية فإن هذا الاستهداف أملته ثلاثة عوامل رئيسية.

العامل الأول، ان تأميم النفط جعل العراق بنظر هذه القوى مهدداً لأمن النفط والذي تدرجه القوى الاستعمارية في صلب أمنها القومي.

العامل الثاني: ان تأميم النفط ونجاح العراق في تجربته الثورية سيكون حافزاً لدول أخرى لأن تقتدي به وبذلك تخرج هذه المادة الاستراتيجية من تحت السيطرة الاستعمارية.

العامل الثالث: ان تأميم النفط أدى إلى توظيف مردوده في خدمة التنمية الشاملة، وهو بهذا يضع البلاد على سكة النهوض وبالتالي إخراجها من منظومة الدول الفقيرة، واستطراداً تقوية موقعها في خارطة التأثير السياسي في دوائر فعلها القومي والإقليمي والدولي، وهو ما يعطي للنظم الحاكمة التي تضع يدها على ثرواتها الوطنية حرية اتخاذ القرارات السياسية التي تحاكي مصالحها الوطنية. وبذلك يكون الاستقلال السياسي قد وجد ترجمته العملية في تمكين الشعب من السيطرة على مقدراته ووضعها في خدمة مصالحه وقضاياه وليس في خدمة القوى الناهبة له.

إن هذه العوامل الثلاثة المجتمعة كانت بنظر الاحتكارات الدولية سبباً كافياً لشن الحرب، لكن لم تستطع لتجاهر بذلك، لإن تصرف العراق حيال ثروته الوطنية وحقه في تحديد خياراته المستقلة، كان يجد متكأه في المواثيق الدولية وخاصة تلك التي تؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادتها على ثرواتها الطبيعية، فكان اختلاق الذرائع لشن الحرب. بدءاً من ابتداع كذبة العلاقة مع "القاعدة" علماً أنها تربت وتغذت بداية من مصادر ارضاع أميركية، وانتهاء بامتلاكه لأسلحة دمار شامل، وقد ثبت بالوقائع أن هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة وباعتراف أميركي، لكن بعدما نفذ العدوان ووقع العراق تحت الاحتلال.

بعد أربعة واربعين عاماً على تأميم النفط، عادت الشركات الأميركية لتضع يدها على الثروة النفطية، وبعد ستة وثلاثين عاماً على نسج العلاقات التحالفية مع أميركا ومن يدور في فلكها ونظام الملالي في طهران والذي لو لم يكتشف في فضيحة "إيران غبت" لبقي التعتيم قائماً حوله والتضليل سائداً حول مواقفه .

ان التحالف المعادي عاد ليظهر مجدداً من خلال الطريقة التي تدار فيها شؤون العراق بعد وقوعه تحت الاحتلال وما أفرزه من نتائج سياسية بدءاً من العملية السياسية التي حولت العراق في ظل حكم رموزها إلى دولة فاشلة، والى بلد تنهب خيراته لصالح قوى العدوان الأميركي والإيراني وتغول الطائفية القاتلة.

من هنا، فإن القول بأن الحرب شنت على العراق، ثأراً للهزيمة التي منيت بها الشركات النفطية في معركة التأميم، كما أن الحرب شنت على العراق للانقضاض على نتائج الحرب مع النظام الايراني إنما هو قول يطابق واقع الحال وهو الحقيقة بذاتها فضلاً عن حقيقة ضرب موقع تهديد فعلي للكيان الصهيوني.

ففي ظل نفاذ قرار تأميم النفط تحول العراق إلى دولة مرجعية في أمته، والى دولة مؤثرة في منظومة عدم الانحياز والى دولة تلعب دوراً في مساعدة دول صناعية تريد الخروج من تحت الهيمنة الأميركية وهذه هي أهمية قرار تأميم النفط والمدلول الثوري لشعار بترول العرب للعرب.

أما بعدما انقضت القوى الاستعمارية بقيادة أميركا على العراق وإقامتها لعلاقات تحالفية مع نظام يستبطن حقداً دفيناً على العروبة، تحول العراق إلى دولة فاشلة، وتحول شعبه إلى مجموعة أشلاء تتقاذفه قوى طائفية ومذهبية لتفتيت تماسكه الاجتماعي وتشويه هويته القومية، ولولا أمل منبثق من المعطى الإيجابي الذي يتجسد في المقاومة الوطنية والتي أخذت على عاتقها مواجهة الاحتلالين الأميركي والإيراني لكان العراق دخل خانة النسيان.

هذا الأمل المرتجى هو ما يعول عليه لوضع حدٍ لهذا التمادي في النيل من شعب العراق ودوره وثرواته. وان قوى الفعل المقاوم التي يشكل حزب البعث عصبها الأساسي إذ تستنهض الهمم وتحشد الإمكانات في مواجهة القوى التي تعبث بأمن العراق الوطني، فهي بقدر ما تستقوي بقدراتها الذاتية ومشروعية مشروعها السياسي، فإنها تستقوي بقوة الوطنية العراقية والتي كما اختبرت في ثورة العشرين وثورة 1958، وثورة 17-30 تموز وثورة تحرير الثروة النفطية واستطاعت الانتصار فإنها تختبر اليوم في ثبات قوى الفعل المقاوم على مواقفها الثابتة ومشروعها السياسي الوطني في الحراك الشعبي المنتقض ضد الاحتلال الأميركي وتغول الاحتلال الإيراني ومنظومة الفساد وكل قوى الترهيب السياسي والتكفير الديني،والعراق الذي استطاع الانتصار في معركة التأميم وصد الرياح الصفراء القادمة من الشرق قادر في ذكرى التأميم على الانتصار على القوى التي شنت الحروب ثاراً من الهزائم في حرب التأميم والقادسية الثانية والحضور الفعال في معارك الأمة القومية وخاصة في فلسطين
 





الاربعاء ١٨ شعبــان ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / أيــار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة