شبكة ذي قار
عـاجـل










ما تتعرض له حلب من قصف تدميري يقتل البشر ويدمر الحجر ويحرق الشجر، ليس خارج السياق العام للمسار الذي يطوف على كل المدن السورية وكل النواحي بقراها وأريافها بحيث لم تنج مدينة، كبيرة كانت أم صغيرة، من محرقة الموت التي لم توفر المسنين الذين لم تسعفهم قدراتهم على النزوح والأطفال الذين ظنوا أن قرارات الأمم المتحدة تشكل مظلة واقية لهم من لهيب البراميل المتفجرة والصواريخ البعيدة المدى، فإذا بالقصف يحول الأرض إلى أخاديد والأبنية إلى ركام وما تحت الركام لا يسمع أنينه لأن القصف يستمر على الأبنية المهدمة كي لا تتحول إلى ملاجئ كما يروج إعلام النظام لذلك.

ما تتعرض له حلب هو مجزرة وهي جريمة موصوفة، وحالها، هي حال المدن المنتشرة على مساحة ريف دمشق وقبل ذلك حمص التي تحولت إلى أنقاض في استحضار لمشهد مدينة "دريسدن" في المانيا يوم دمرت على رؤوس أهلها ولم يسلم من الموت من ظن أن حرمة دور العبادة تحميه، لأن الحرب التي تخرج عن ضوابط الأخلاق وقوانين الحرب لا تقيم اعتباراً لكل القيم والإنسانية.

لقد صعّد القصف التدميري على حلب مع أفول الصراع في سوريا عامه الخامس وولوج عامه السادس أيامه الأولى، وكأن الذي يقصف حلب في توقيت الفصل بين تاريخ الأفول والابتلاج يريد أن يوجه رسالة،مفادها بأن بداية الخمس الثانية من عمر الصراع ستخضع لقواعد اشتباك جديدة، تكون زمام المبادرة فيه للنظام رداً إلى إمساك الحراك الشعبي بزمام المبادرة يوم انطلق سلمياً واستمر لأكثر من سبعة أشهر إلى أن فرضت العسكرة عليه ودخل من دخل على خط لأزمة.

قد يقول قائل أن النظام بقصفه التدميري لحلب إنما يستهدف القوى المصنفة إرهابية ومنها جبهة النصرة والتي صنفت مع داعش كتنظيم إرهابي وعلى أساسه تم استثناؤهما من المفاوضات حول آليات الحل السياسي.

إننا لا نناقش في تصنيف النصرة وداعش، باعتبار أن أعمالها تندرج تحت توصيف الأعمال الإرهابية، لكن هل النصرة هي الفصيل الوحيد المتواجد في حلب أم ثمة فصائل وقوى أخرى موجودة في الميدان وتجلس على طاولة المفاوضات باعتبار أنها صنفت معتدلة؟ وطالما أن النصرة ليست وحدها المتواجدة في حلب، فلماذا الاستهداف التدميري الشامل لكل الأحياء التي تقع تحت سيطرة المعارضة من نصرة وغيرها؟

وإذا كان الهدف هو التصدي للقوى الإرهابية "وداعش" صنفت واحدة منها، فلماذا لا تخاض المعركة معها بنفس الشراسة التي تخاض ضد "النصرة" وغيرها من القوى في ميادين حلب وغيرها، علماً أن "داعش" تمسك منفردة بالعديد من المدن والأرياف ولا تشاطرها فصائل أخرى. وبالتالي تكون المعركة أكثر وضوحاً في استهدافاتها ومسرح عملياتها؟

إنها تساؤلات مشروعة، لكن لا جواب عليها وأن كان معروفاً، لأن الهدف من التصعيد الأخير وعلى ما يبدو لا يهدف إلى ضرب القوى التي أدرجت تحت التوصيف الإرهابي، بل ضرب المشروع السياسي الذي يضع حداً للصراع المتفجر على قاعدة الانتقال لنظام جديد يحفظ لسوريا وحدتها وسلامة أراضيها ويضع جداً لقبض المنظومة الأمنية الحاكمة على مقدرات البلاد ومصائر العباد.

إن تدمير حلب المبرمج والممنهج هو استمرار لحلقات تدمير حمص وداريا ودوما والمعضمية والزبداني والقصير واستمرار لحصار المدن والقرى من كل الأطراف المنخرطة في الصراع من مضايا إلى كفريا والفوعة. ومن يمارس أعمال التدمير والحصار والتهجير والقتل بدماء باردة، إنما يندرج توصيف أعماله تحت الوصف الإرهابي، وإذا كان إرهاب الأفراد مدان ويجب التصدي له ومقاومته، فإرهاب المجموعات المنظمة والتي لها إمرة وتعمل في نطاق تسلسل المسؤوليات، إنما خطرها يفوق خطر إرهاب الأفراد، وأما إرهاب الأنظمة والذي يدرج تحت وصف إرهاب الدول فهو الأخطر، لأن من يمارسه إنما يفترض فيه أن يتصرف انطلاقاً من واقع مسؤولياته والتزاماته الدولية وليس من موقع رده الفعل المسكون بالعقل الميليشاوي.

لقد ارتكبت القوى المصنفة في خانة المعارضة للنظام أفعالاً جرمية يحق الإنسانية، لكن النظام بما يقوم به مع القوى المؤتلفة معه، إنما يرتكب أفعالاً جرمية تقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية الدولية باعتبارها جرائم ضد الإنسانية. ولهذا يجب أن يرتفع الصوت ضد كل من يرتكب مثل هذه الجرائم عبر انتهاكه لقوانين الحرب.

وإذا كان النظام يظن أن تصعيده للعمليات العسكرية في حلب والتي اتخذت طابعاً تدميرياً شاملاً يمكنه أن يحسم الصراع وفق شروطه، فهو وأهم، لأن من لم يستطع أن يحسم الصراع في أشهره الأولى ولا في سنواته الأولى لن يستطيعه بعد ذلك إذا بقي محكوماً بنفس العقلية والنهج والأداء. فالصراع في سوريا لا مخرج له إلا بالحل السياسي، والحل السياسي مدخله الاتفاق على عناوين ومضامين المرحلة الانتقالية والتي ستفتح الطريق أمام إعادة هيكلة الحياة السياسية على قواعد التعددية السياسية والديموقراطية وقبل كل شيء المواطنة.

لقد دمر كل ريف دمشق بمدنه وقراه، ودمرت حمص، ودرعا والعديد من المدن في الشرق والشمال السوري، ولم يحسم الصراع واليوم فإن تدمير حلب الذي يرفع فاتورة التكلفة البشرية والاقتصادية لن يحسم الصراع، لأن الأطراف الداخلية والنظام في طليعتها فقدت القدرة على التحكم في مسار الصراع إلا في الجانب التدميري وباتت أسيرة المأزق الذي وضعت نفسها فيه نظراً لإغلاقها الأبواب أمام ولوج الحل السياسي ظناً أنها ستخرج رابحة، فإذ بها تقع في فخ الوهم وما زين لها من مخارج. ان النظام في سوريا سقط في تجربة إثبات مشروعية وإذا كان حريصاً أن تبقى سوريا دولة مؤسساتية إلى الأبد فعلى رموزه أن تغادر منطق نحن أو لأحد أونحن وإلا نحرق البلد.

لقد تأخر الحراك الشعبي في حلب في انطلاقته واليوم لن يجد القتال في حلب نهاية له مع نهاية الأزمة. فحلب هي "كعب أخيل" لكن أحداً لا يستطيع أن يصيب هذا المقتل ولهذا لا بد من العودة إلى الحوار السياسي الذي ينتج حلاً يضع حداً لهذه المأساة الوطنية والتي باتت مأساة قومية لا بل إنسانية.

قد يكون ارتفاع الأصوات مفيداً ضد المجازر التي ترتكب بحلب كما في غيرها من المدن والنواحي السورية، ومسؤولية النظام وأن تكن الأكبر فهذا لا يعفي الأخرين من مسؤولية ما يتعرض له الشعب السوري، لكن الأكثر نجاعة هو أن ترتفع الأصوات المطالبة بتسريع خطوات الحل السياسي كخيار لا بد منه لوضع حدٍ لهذا النزف الدموي الذي أغرق سوريا ببرك الدماء في عام جفاف مطري.

قد تكون الإدانة مطلوبة كتعبير عن موقف أخلاقي، لكن المطلوب الضغط لأجل إنتاج الحل السياسي، لإنقاذ حياة ما تبقى من أروح في حلب كما في عموم سوريا .أنها دعوة للتعقل السياسي في لحظة الجنون لمن فقد صوابه، ولم يصدق أن الأمور انتهت بالنسبة إليه.
 





الاربعاء ٢٧ رجــب ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / أيــار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب كلمة المحرر الأسبوعي لموقع طليعة لبنان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة