شبكة ذي قار
عـاجـل










لا يمكن قراءة ما أقدم عليه رئيس وزراء العصابات الصّهيونيّة ناتانياهو أوّل أمس في الجولان حيث أفصح في إعلان حرب واضح لا لبس فيه عن أنّه يتوجّب على العالم أن يعي أنّ الجولان " إسرائيليّة " وستبقى كذلك لأبد الآبدين، دون الإلمام بالحقائق والتّاريخ والأسباب التي تحوم حول قضيّة هضبة الجولان.

وفي واقع الأمر، لهضبة الجولان ككلّ الأراضي العربيّة أهمّيتها الاستراتيجيّة الكبرى خاصّة تلك التي تعرف ببلدان الطّوق أو التّماس على الحدود مع فلسطين المحتلةّ، وتتضاعف أهمّية الجولان بالنّظر للدّور الكبير والخطير الذي كان منتظرا أن تضطلع به سوريّة ومصر خصوصا في معادلة الصّراع العربيّ الصّهيونيّ المفتوح منذ وعد بلفور المشؤوم ونكبة فلسطين فيما بعد استنادا على القدرات البشريّة والعسكريّة لكلّ منها مقارنة ببقيّة أقطار الطّوق. ورغم أنّ كلاّ منها لم تتخلّفا ولم تتقاعسا عن دورهما في هذا الصّراع، إلاّ أنّ المؤامرات والاستهداف المباشر من قبل الدّوائر الامبرياليّة المتنفّذة التي انحازت منذ 1948 لعصابات الصّهيونيّة ومكّنتها من كلّ أوجه الدّعم لضمان تفوّقها على العرب مجتمعين تنفيذا لمخططّات استعماريّة استراتيجيّة سابقة أهمّها مقرّرات مؤتمر هنري كامبل بانرمان عام 1907 ثمّ سايكس بيكو وسان ريمو وما تلاها، لم تنقطع ضدّهما وضدّ كلّ توجّه عربيّ قوميّ ثوريّ حقيقيّ ينهض لاسترجاع الأرض العربيّة المسلوبة ..

خصّت الدّوائر الاستعماريّة الحاقدة سوريّة – وهي من تهمّنا في هذا العرض لأبعاد حادثة الجولان وإعلان الحرب منها من طرف ناتنياهو اوّل أمس – بنصيب متقدّم من عمليّات التّخريب والمؤامرات لتحييدها عن دائرة الصّراع العربيّ الصّهيونيّ وذلك لكون سوريّة مهد الفكر القوميّ العربيّ ومنبعه ومعينه الأصيل.

ولقد وجدت تلك الدّوائر في حافظ الأسد ضالّتها الأغلى في تسهيل تحقيق ذلك العزم الخبيث، حيث وفي عام 1965 ولمّا كان ضابطا في الطّيران الحربيّ السّوريّ، أدّى حافظ الأسد زيارة سرّيّة لبريطانيا واستقبله فيها وزير المستعمرات البريطانيّة وكان من أهمّ ما رشح عن ذلك اللّقاء أن حمّله الوزير رسالة تاريخيّة مقتضبة وواضحة تعكس توجّهات بريطانيا الاستراتيجيّة وما تنتظره من عملائها في المقابل من التزام بها وتنفيذ صارم ودقيق لها وهي (( إنّ " إسرائيل " وجدت لتبقى ))، ولمّا أصبح وزيرا للدّفاع عام 1966، انقلب على حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وشرّد قيادته القوميّة والقٌطريّة ونكّل بمناضليه وقادته في أكبر ردّة لا على صعيد حزب البعث فقط، وإنّما على الثّوابت القوميّة العربيّة الاستراتيجيّة التي ستكون لها تداعيات خطيرة جدّا في المستقبل حيث يعتبر ذلك الحدث ضربة قاصمة لمنظومة الأمن القوميّة ينفذّ من داخل المشروع القوميّ ولو ظاهريّا.

إنّ العقل العربيّ لم ينتظر طويلا ليلامس تجلّيات آثار الرّدّة الخيانيّة التي نفّذها حافظ الأسد، ففي حرب 1967 كانت هضبة الجولان محصّنة تحصينا عسكريّا عاليا تمتدّ جذوره لأيّام الوحدة بين مصر وسوريّة ما كان يجعل من سقوطها بيد الصّهاينة أمرا شبه مستحيل بالمقاييس العسكريّة وهو ما تؤكّده تصريحات الزّعيم الخالد جمال عبد النّاصر حينما أجاب عن سؤال يتعلّق بالسّقوط السّريع للجولان بالقول إنّ الجولان قادرة على الدّفاع عن نفسها، وهو ما يؤكّد أنّ حافظ الأسد قد اهدى الجولان للصّهاينة تنفيذا والتزاما لتلك التّوصية التّاريخيّة التي خرج بها من لقائه السّرّي مع وزير المستعمرات البريطانيّة، وهو ما تفضحه شهادات الضّبّاط والعساكر الذين كانوا مرابطين في الهضبة وأكّدوا على أنّ خيانة كبرى موثّقة جعلتهم يقعون فريسة للقطعات الصّهيونيّة بعد أن قطعت الاتّصالات عنهم من المركز وتغيير كلّ الخطط والتّكتيكات دونما موجب ولا تبرير ولا نقاش وأكّدوا جميعهم على أنّ حافظ الأسد كان العقل المدبّر لذلك والقصّة معلومة للجميع.

ومواصلة في إيغاله في قطع توجّهات البعثيّين في سوريّة أقدم حافظ الأسد على ما أسماه بالحركة التّصحيحيّة وذلك بأن بدأ في استبدال تطبيقات وتوجيهات وتعاليم الفكر القوميّ ليجعلها فكرا طائفيّا خالصا المر الذي جعل السّواد الأعظم من البعثيّين يؤكّدون على أنّ حافظ الأسد اختطف يافطة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ بطريقتين سافرتين حيث نصّب نفسه أمينا عامّا للقيادة القوميّة التي شكّلها وذلك إمعانا في عمليّة التّزييف والتّزوير ثمّ نصّب نفسه أمين سرّ القيادة القٌطريّة في سوريّة وكان يهدف من وراء ذلك لطمس مخطّطاته الطّائفيّة الغريبة والدّخيلة على الفكر القوميّ عموما والبعثيّ خصوصا ..

إنّ التّذكير بالإثم التّاريخيّ والعار الأبديّ لحافظ الأسد بانقلابه على حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ لا يجب فهمه من باب الاصطفاف الايديولوجيّ ولا التّخندق الحزبيّ لأنّ حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ كان حاملا لمشروع وحدويّ عربيّ شامل وجامع متكامل ومفتوح لكلّ العرب الشّرفاء والأحرار يهدف أساسا لمحاربة الاستعمار والتّصدّي لمؤامراته بما يضمن للعرب بسط نفوذهم على أراضيهم وممتلكاتهم وتخليصهم من استعباد القوى العالميّة المتغطرسة، وهو ليس منفصلا عن ملابسات الجريمة الكبرى التي ارتكبها حافظ الأسد بحقّ الأمّة بأن شقّ وحدة صفوفها وهي في بدايات التّشكّل ما كان له آثار كارثيّة على المشروع القوميّ العربيّ، وهو المشروع الذي حاربه حافظ الأسد بلا هوادة.

يكفي أن نتقصّى مواقف حافظ الأسد وسياساته في كلّ معارك المصير التي خاضتها الأمّة طيلة حياته، لنتبين أنّه كان مخلب الامبرياليّة الأكثر وحشيّة وضراوة على جسد الأمّة وخادم الصّهيونيّة ومروّج الطّائفيّة في أقذر أشكالها ..

لقد عادى حافظ الأسد بمنتهى الصّرامة كلّ المسيرة النّهضويّة والخطوات القوميّة الجريئة والشّجاعة التي باشرها النّظام الوطنيّ في العراق، وعبّر فعليّا عن شعار معاداة كلّ ما جرى فيه سواء على مستوى تأميم النّفط عندما صادر كلّ ما يعود لشركة نفط العراق من أنابيب في سوريّة ومنع مرور النّفط، أو من خلال قطعه مياه نهر الفرات على ما يزيد عن 7 ملايين عراقيّ يعيشون ويرتزقون على ضفّتيه.

وفي عام 1973، وفي حرب 6 أكتوبر، وبالطّريقة التي انتهت بها تلك الحرب في الجانب السّوريّ، أعلن حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ موقفه من تلك الحرب وأطلق عليها مصطلح الحرب التّحريكيّة.

فماذا كان يعني ذلك المصطلح؟؟ وماذا حرّكت تلك الحرب ؟؟

لقد حرّكت تلك الحرب كلّ شيء على الأرض وحتّى في المفاهيم، وحرّكت خصوصا الحدود على الجولان أذ توغّلت القطعات الصّهيونيّة وارتسمت خطوط جديدة إذ تراجعت حدود التّماسّ باتّجاه الدّاخل السّوريّ لتصبح في حدود القنيطرة حيث تتواجد فيها لليوم القوّات الدّوليّة لا على مشارف الجولان. ولقد أدان حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ هذا التّحريك وندّد به باعتباره تحريكا لقضيّة قوميّة مثل احتلال أراضي عربيّة بفعل العمل العسكريّ، وليس من طائل من التّذكير بالموقف التّاريخيّ الذي اتّخذه حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ونظامه الوطنيّ في العراق الذي حمى دمشق من السّقوط بدورها في قبضة الصّهاينة رغم عدم إخطاره بقرار الحرب وأبلى الجيش العراقيّ بلاء فريدا يعكس العقيدة القوميّة الحقيقيّة التي توّجهه وتحرّك أعماله.

وفي المقابل، استمرّ النّظام السّوريّ بقيادة حافظ الأسد بإيواء كلّ المناوئين والمعادين لحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ولحكمه في العراق واستقبل المنشقيّن والإسلاميّين والشّيوعيّين وموّلهم وسهّل لهم كلّ مخطّطاتهم التّآمريّة على بلدهم.

أما في عام 1975، فلقد تكفّل حافظ الأسد ونظامه بالوضع في لبنان فعاث فيه فسادا على غير ما اؤتمن من أجله وما علّقه عليه العرب من تفعيل استتباب الأمن، واستعاض عن ذلك بتخريب لبنان الجريح تخريبا ممنهجا تمثّل خصوصا في إغراقه في الأسلحة والمخدّرات التي كان يشرف على تجارتها حافظ الأسد وكبار معاونيه ما أدّى لتدمير البنى التّحتيّة اللّبنانيّة وإحداث خلل عميق في المخيّمات الفلسطينيّة ناهيك عن جريمته الكبرى بحقّ لبنان عبر تغذيته لمنوال المحاصصة السّياسيّة على أسس طائفيّة، فلقد شجّع بكلّ ما يملكه من نفوذ وقدرات، ودعّم كلّ أشكال اعتداءات الطّائفة الشّيعيّة على بقيّة المكوّنات السّكّانيّة والدّينيّة في لبنان بما يخدم نهجه الطّائفي التّخريبيّ.

الغريب في كلّ هذا، أنّه تحرّك في كلّ الاتّجاهات إلاّ صوب الجولان التي ظلّت طيلة هذه المدّة رازحة تحت ربق الاحتلال الصّهيونيّ الغاشم بالرّغم من المحاولات الدّوليّة التي كانت تحرّكها أساسا مصر، ولم يطلق رصاصة واحدة صوب المحتلّ. ولكنّه سعى في المقابل إلى تجزيئ احتلال الأراضي العربيّة وقسّمها إلى ما سمّاه " ما لمصر لمصر، وما للبنان للبنان وما لسوريّة لسوريّة وما لفلسطين لفلسطين ".

هذا ولقد نأى حافظ الأسد بنفسه وأخرجها من دائرة المفاوضات بين المصريّين والفلسطينيّين والأردنيّين من جهة والصّهاينة من جهة أخرى، لأنّه ظلّ وكما يبدو مسكونا بهجس تلك الرّسالة التّاريخيّة والتّوصية الصّارمة التي تلقّاها من وزير المستعمرات البريطانيّة.

ولمّا جاءت الحرب العدوانيّة الإيرانيّة على العراق طيلة السّنوات الثّماني من ثمانينات القرن الماضي، اصطفّ حافظ الأسد مع العدوّ الإيرانيّ الصّفويّ ودعمه بالمجهود الحربيّ طيلة سنوات الحرب كاملة رغم رفعه لشعارات القوميّة العربيّة، وكرّر خيانته المتأصّلة والمدفوعة بنوازع طائفيّة صرفة في حفر الباطن وكان أوّل نظام عربيّ يساهم في التّحالف الدّوليّ المجرم في عدوانه على العراق وأرسل 35 ألف جنديّ من جيوشه بالتّمام والكمال.

بالمحصّلة، لقد سطا حافظ الأسد على الجهد القوميّ بكلّ مكوّناته لأنّ سوريّة منبع ذلك الفكر ومهد حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وبوفاته استلم ابنه بشار الأسد الحكم ليواصل ما نهجه والده طيلة حياته وحافظ على كلّ الخيارات الطّائفيّة المعادية للأمّة العربيّة ولمصلحتها الاستراتيجيّة العليا وأوغل في تكريس المنوال الطّائفيّ وذلك بتوطيد العلاقات مع إيران وليستمرّ في السّكوت المخزي عن الجولان السّليبة فلا يهتزّ له جفن حتّى مع إعلان الحرب الجديد المعلن عنه من ناتنياهو أوّل أمس، في ما قد يوحي " ونكاد نجزم بذلك " أنّ ذلك الصّمت المخزي ربّما هو مقايضة مع الصّهاينة لدعم بقاء الأسد الابن الصّغير في سدّة الحكم وإن على بعض رقعة مجهريّة فيما يحاك لسوريّة من تقسيم وغير ذلك، إذ ليس بالغريب عليه هذا الفعل بعد ان كشف وزير الخارجيّة الأمريكيّ منذ أشهر على وثيقة سرّية تتحدّث عن عرض ورسالة أرسلها الأسد الصّغير لنتانياهو ذاته معربا له فيها عن أمله في عقد سلام مع عصابات الصّهاينة، ليتمّ رفض العرض من قبل ناتنياهو ..

إنّ كلّ ما تقدّم، وإن كان لزاما علينا عرضه للرّأي العام العربيّ لتدرك الجماهير سرّ الصّمت المخزي لنظام الأسد وحلفائه خصوصا الفرس وحزب الله وروسيا عن إعلان الحرب الأخير من رأس العصابات الصّهيونيّة وحسم مصير الجولان إلى الأبد، فإنّه يؤكّد أنّه لا مجال للتّعويل على هذا النّظام المجرم الطّائفيّ العميل ولا فرضيّة لعقده العزم على استرداد ما نهبته منه الصّهيونية أو ما فرّط فيه طواعيّة ليبقى ذلك مهمّة تقع حصرا على كاهل كلّ القوميّين السّوريّين والعرب لأنّهم الوحيدون الذين بقوا معنيّين بالدّفاع عن هضبة الجولان وعروبة سوريّة وصدّ المؤامرات عليها وعلى كلّ الأمّة العربيّة.

أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في  ١٩ / نيســان / ٢٠١٦





الخميس ١٤ رجــب ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / نيســان / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب انيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة