شبكة ذي قار
عـاجـل










قد يبدو رصد ما يحدث بالعراق عند البعض أمراً مكرّراً ومجلبة للتّشهير حيث استسلم هذا البعض لحقيقة مشوّهة وطارئة فرضت على العراق وشعبه فرضاً صفيقاً عنصريّاً .. وقد يكون هذا البعض بغضّ النّظر عن وجاهة موقفه من عدمه معذوراً، حيث لم يحدث في التّاريخ البشريّ أن شهد شعب من شعوب الأرض أو مصر من أمصارها ما يرزح تحته العراق منذ الغزو البربريّ التّتريّ الوحشيّ عام 2003.

فمنذ ذلك التّاريخ ما انفكّت آلات التّدمير بمختلف أصنافها تحرث أرض الرّافدين تقتيلاً بشعاً وحشيّاً وترتكب يوميّاً بل في كلّ ساعة فاجعة جديدة، وتحوّل العراق إلى فضاء إبادة جماعيّة مفتوح لا سابق له على الإطلاق..

عانى العراقيّون حرباً هوجاء لا تبقي ولا تذر تسلّح فيها مفجّروها بأشدّ الأسلحة فتكاً وتدميراً، ومارسوا شتّى أنواع العنجهيّة والعنصريّة. ولقد تداول على العراق قطّاع الطّرق وشذّاذ الآفاق والعلوج بتعبيراتهم المتعدّدة، وصبّ كلّ فريق منهم مخزونه الإجراميّ الموزّع بين الأسلحة الذّكيّة والقنابل النّوويّة محدودة المدى الإشعاعيّ عالية الفاعليّة والقتل على الهويّة وغير ذلك.

إلاّ أنّ ذروة الجرائم تلك، عرفت أعلى درجاتها الوحشيّة في غرب العراق وتحديداً في الفلوّجة.

فالفلّوجة تلك المدينة العراقيّة الصّغيرة بالمقاييس الجغرافيّة الكبيرة بعطائها وصمودها الأسطوريّ في وجه أعتى ترسانات الحروب وأقوى جيوش العالم، استبسلت في مقارعتها لجحافل الشّرّ ولقّنت الغزاة دروساً في الشّرف والذّود عن الأرض والعرض لا تمّحي حتّى أنّ الأمريكان عجزوا عن دخولها وتناثرت أشلاء جيفهم في الشّوارع والطّرقات والأنهار وحصدت الفلوّجة لوحدها عشرة آلاف جنديّ من الجيش الأمريكيّ الذي عجز جنرالاته الخائبون ودهاقنته السفّاحون عن الخلاص والنّجاة من جحيم تلك المدينة ما اضطرّهم صاغرين للاستسلام والرّجوع عن قرار دخولها لتبقى الفلّوجة خارج السّيطرة الأمريكيّة تماماً ولتلتهم مزيداً من وجبات مرتزقة البلاك ووتر والمارينز وغيرهم.

لم يغفر الأمريكان للفلّوجة ملاحم صمودها وما غنمته من عتاد وجيف أمريكيّة، فأوكلت لطغمة الجواسيس والأقزام الطّائفيّين وميليشيّاتهم الإرهابيّة المرتبطة بإيران مهمّة الثّأر، فاصطدمت حفنة الأوغاد تلك بهمّة أهل الفلّوجة وشهامتهم فكان مصيرهم أشدّ سوء من أسيادهم، فما كان من هؤلاء إلاّ أن استنجدوا بدورهم بعلوج فارس والحرس الثّوريّ الإيرانيّ الإرهابيّ عساهم يفلحون بما يتوفّرون عليه من أحقاد وثارات وعنصريّة فيما فشل فيه سابقوهم ليلاقوا نفس المصير ويتجرّعوا ذات المرارات والحسرات.

ثبّت الصّمود الأسطوريّ للفلّوجة تلك المدينة في وجدان العالم الحرّ حتّى غدت أشهر مدن العالم على الإطلاق، كيف لا وهي المدينة الصّغيرة المفتوحة التي عجز عن تدنيس ترابها فرسان الجوّ الأمريكيّ وجراد الأرض الفارسيّ من ساندهم من خونة ومرتزقة.

ولكن في المقابل، لم تنس أمريكا ومن عاونها للفلوّجة تمرّدها ومقاومتها، تلك المقاومة التي لم تفتّ في عضدها الضّربات النّوويّة المتواترة وما ينجم عنها من تدمير وتخريب وأمراض سرطانيّة غير معروفة، ولم ينس خدم الأمريكان ذلك أيضاً. وهو الأمر الذي دفع هذه الجموع الشّرّيرة الإرهابيّة المتحالفة لابتكار الحيلة تلو الحيلة، وتدبير الهجمة خلف الهجمة على الفلّوجة..

وها هو الصّغير العبادي وكتائب الغدر من حوله تشنّ على الفلّوجة هجوماً جديداً لا يهدأ، وبالنّظر لاقتناعهم باستحالة تركيع مدينة المساجد كما يحلو لأهلها تسميتها عبر العمل العسكريّ المباشر وغير المباشر، قرّر أعداء الحياة والشّعوب تجويع الفلّوجة تجويعا ممنهجاً ودقيقاً ومنع الأدوية ومختلف الحاجيّات الأساسيّة الأخرى عنها كحلّ فعّال لحملها على الاستسلام.

إنّ الفلّوجة وهي تعيش هذه الأيّام فصلاً جديداً من فصول الاستهدافات العنصريّة الفاقدة لأدنى مقوّمات الإنسانيّة، تبلغ معاناة أطفالها ونسائها وشيوخها فيها مبالغ لا تخطر ببال حتّى أنّ الطّعام نفذ نهائيّاً منها وكذلك الدّواء، ولم يبق لأطفالها سوى الاقتتات على الأعشاب في مشهد لم تعرفه شعوب القرن الإفريقيّ في أشدّ مظاهر استفحال المجاعة فيها، وسط حصار مطبق عليها تفرضه ميليشيّات المنطقة الخضراء سيّئة الصّيت والسّمعة.

إلاّ أنّ ما يضاعف من هول مصاب الفلّوجة وأهلها هذا التّعتيم الإعلاميّ الرّهيب والصّمت الدّوليّ الرّسميّ المخزي والاستهتار بمعاناة آلاف الأطفال والنّساء، بل إنّ الحقوقيّين وفيالقهم النّائحة دوماً أبداً في ظروف مغايرة في أماكن أخرى لم ينبسوا ببنت شفة ولم يحرّكوا ساكناً تجاه المدينة المنسيّة.

لا شطط في القول إنّ الفلّوجة قد غدت وصمة عار على جبين المتشدّقين بنظم العالم الحرّ المتضامن وبقيم حقوق الإنسان، وهي شرخ في ضمير هذه الإنسانيّة المنافقة التي تسكت إزاء أكبر عمليّات الإبادة الجماعيّة في العالم وفي التّاريخ. هذا العالم الذي يبدو أنّه قد دخل كلّيّاً بيت الطّاعة الأمريكو صهيو إمبرياليّ فما عاد قادراً على الإشارة ولو بالبنان لمذبحة صامتة تتفنّن أدوات الجريمة الدّوليّة في تأثيثها على مهل.

إذ لا يمكن فهم هذا الازدراء العالميّ والاستهتار المحيّر بمأساة مستمرّة متصاعدة، ولا يمكن تبريره.

غير أنّه في الحقيقة لا بدّ من التّذكير لقصيري الذّاكرة، أنّ العدوان على الفلّوجة لم يهدأ يوماً منذ اصطدام المجرمين الأمريكان الأوّل بها. وهو ما يفسّر النّزعة الانتقاميّة التي تطبع تعاملهم ومن معهم طيلة هذه السّنوات مع الفلّوجة التي رصدت لتدميرها اعتمادات وخطط خاصّة تختلف عن الخطّة الاستراتيجيّة العامّة في العراق.

ويسعى الأمريكان وحلفاؤهم من وراء تتابع مجازرهم الوحشيّة ومؤامراتهم الإرهابيّة المتكرّرة لضرب نزعة الصّمود وطمس ثقافة المقاومة التي تجلّت في أرقى مظاهرها على تخوم الفلّوجة.

وما أحداث الفلّوجة ومأساتها إلاّ رسالة مفتوحة للعراقيّين في بقيّة المدن والمحافظات مفادها أنّ كلّ من يتمسّك بالتّمرّد على ما قرّره أعداء الحياة والإنسان سيلاقي نفس مصير الفلّوجة، وهكذا تتداخل المعطيات بحيث تترسّخ المعادلة على نحو إمّا أن تنصاع الفلّوجة وبعقوبة وديالى وصلاح الدّين والمقداديّة والأنبار للمشروع الأمريكيّ ومن ينوبهم فتضمن على الأقلّ الحاجيّات الأساسيّة من غذاء ودواء، وإمّا فإنّ الهلاك والموت البطيء بالانتظار.

هكذا إذن تختزل الفلّوجة كلّ العراق، وهكذا يختزل العراق كلّ ما يترصّد الوطن العربيّ..

فمتى ينتبه العرب ويفوّتون الفرصة على أعدائهم، ولا يكون ذلك حتماً بغير إنقاذ الفلّوجة وهي تذبح من الوريد للوريد بخناجر أمريكيّة وسكاكين فارسيّة صفويّة؟؟؟





الخميس ١٥ جمادي الثانية ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / أذار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة