شبكة ذي قار
عـاجـل










يقول كثيرون إنّ اللّغة في أبسط تعريفاتها أداة تواصل بين مجموعة من البشر بغضّ النّظر عن عددهم؛ ولكنّها في الأصل مقوّم رئيسيّ من مقوّمات تعريف الشّعوب والأمم؛ بل لعلّها أهمّ دعائم قيامها وتشكّلها حيث غالبا ما صنّفت الأمم وعرّفت على أساس اللّغة لما لها من فضل كبير في نحت معالم شخصيّتها وتخليد فعلها الحضاريّ ومخزونها الثّقافيّ؛ فالأمّة الألمانيّة تختلف عن الأمّة الفرنسيّة أساسا بناء على اختلاف لغتيهما؛ وكذلك الأمر بالنّسبة للأمّة الانجليزيّة والإسبانيّة؛ وينسحب الحال ذاته على الأمم الهنديّة والصّينيّة والفارسيّة والعربيّة.

فحاجة الشّعوب والأمم للغة جامعة موحّدة تمثّل الأرضيّة الأَوْلى ( بضمّ الهمزة ) والأٌولى ( بفتح الهمزة ) لاستبيان معالم كينونتها حاجة ماسّة وملحّة وضرورة قصوى.

وتتّضح تلك الأهميّة من خلال الاحتفاء الذي عبّرت عنه كلّ أمم الأرض بلغتها ولسانها ودليل تمايزها عن غيرها؛ فثراء اللّغة مثلا ومدى قدرتها على الاستمراريّة في الزّمن ومبالغ تأريخها لتراكمات وتطوّر تلك الأمم النّاطقة بها؛ من مظاهر ومقاييس قوّتها الأكبر. وليس يخفى ههنا أنّ أمما وشعوبا وحضارات بحالها اختفت واندثرت باندثار لغاتها ما اضطرّ ناسها للانصهار في شعوب وحضارات أخرى لتضمن البقاء فتتطبّع بطباعها وتتماهى مع عاداتها وتتبنّى تاريخها بسبب فقدها للغتها.

لقد ضمنت اللّغة العربيّة للعرب أن يبقوا صامدين مستمرّين للآن رغم ما عصف بهم من آلام ومحن باختلاف تمظهراتها ومراوحتها بين الذّاتيّ والموضوعيّ والدّاخليّ والخارجيّ. وشكّلت لغة الضّاد العاصم الأقوى للعرب بما منتحتهم إيّاه من إطار ومناعة مضادّة لمختلف ضروب الاستهدافات السّاعية لإبادتهم وإحالتهم للنّسيان ثمّ التّفكّك والاضمحلال؛ فوهبت اللّغة العربيّة العرب مادّة دسمة ينهلون منها كلّ وسائلهم لمعاودة النّهوض والتّغلّب على الطّوارئ والأخطار وذلك عبر تدوين رصيد ثقافيّ وأخلاقيّ ونفسيّ وتربويّ هائل يكفي أن يطلّ العرب على ما ينضح به شعر أسلافهم وخطبهم وكذلك القرآن خاصّة ليهتدوا بيسر لظالّتهم للنّجاة والخلاص.

فبالنّظر لما عاناه العرب من تلاحق الهجومات الخارجيّة منذ أن كانوا قبائل مبعثرة قبل أن يجمعهم الإسلام تحت راية واحدة؛ وحتى إبّان أشدّ المراتب التي بلغوها وما تلاها؛ إلى يوم النّاس هذا من حملات صليبيّة وحملات استعمار في مراحل عديدة؛ يمكن للدّارسين أن يؤكّدوا على أنّ اللّغة العربيّة كانت إحدى أهمّ المثابات التي ارتكز عليها الوجود العربيّ وتواصل متحدّيا كلّ العراقيل والعقبات من انحطاط وانهيار وتخلّف وغير ذلك في حقبة معيّنة؛ بل لعلّ اللّغة العربيّة كانت ببقائها شامخة بوجه لغات الغزاة والمستعمرين قد ضخّت في الوجدان العربيّ الجمعيّ جرعات متدفّقة دافعة ومستنهضة للهمم وإن لا شعوريّا؛ وحرّضت العرب على مقارعة الأخطار ومصارعة الأعداء فاستجابوا لذلك بمستويات مختلفة ووعي متفاوت ولكن بالحدّ الأدنى الضّامن لعدم الإذعان والخضوع والتّسليم.

فلا مجال لإنكار فضل اللّغة العربيّة على العرب إذن؛ بل إنّ فضلها على العرب لا يقاس به فضل مثيلاتها على الأمم الأخرى. فلغة الضّاد مثلا؛ تمتاز على بقيّة لغات الأرض بثرائها لا من حيث تعداد ألفاظها فقط حيث يتّفق الأخصائيّون على أنّها تزيد على اثنتي عشر مليون كلمة ومفردة ويرى فريق من المهتمّين بها أنّ العدد أكبر من ذلك بكثير لتبلغ اثنين وأربعين مليون مفردة؛ وليس هذا التّعداد بالمذهل لضخامته فحسب؛ بل لأنّه عنوان دسامة واشتقاق وملاءمة لطبيعة تطوّر الحياة البشريّة.

إنّ هذه الخصائص والميزات الفريدة التي تتمتّع بها لغة الضّاد عمّا سواها؛ جاءت لتبوّئها أدوارا ومهامّا بالغة الجسامة تتجلّى في أدقّ علاماتها من خلال تخصيصها لتكون لغة القرآن معجزة آخر الدّيانات والرّسالات السّماويّة ألا وهو الإسلام.
فالقرآن ولكونه استكمال واستيفاء للكتب الإلهيّة كان معجزة لا متناهية الأبعاد والصّعد إن على المستوى اللّغويّ أو البلاغيّ أو القصصيّ أو العلميّ أو الجماليّ أو الفلسفيّ أو النّفسيّ أو التّربويّ أو الاجتماعيّ أو القانونيّ أو السّياسيّ أو الاقتصاديّ أو الفنّيّ؛ كان اختيار تنزيله عربيّا بلسان عربيّ اختيارا مدروسا بمنتهى الدّقّة والإحكام يفصح عن أهليّة لغة الضّاد دون سواها للغرض ذاك أهليّة تستمد كينونتها من أبعادها وقدرتها على الخلود والتّجدّد وعبور صروف الدّهر ومطبّاته؛ وهو ما يضيف للّغة العربيّة تفرّدا آخر لينقلها من لغة قد تكون مقوّما مهمّا في قوميّة بعينها ( أو لغة قوميّة )؛ لتغدو لغة قوميّة وروحيّة مقدّسة تتداولها أمم وشعوب أخرى متعدّدة ومتنوّعة.

إلا أنّ اللّغة العربيّة ورغم كل ما يسمو بها عن غيرها من اللّغات فإنّها كانت أكثر اللّغات عرضة للتّشويه والاعتداء والاستنقاص من شأنها والتّقليل من فاعليّتها من جهات كثيرة. ولعلّ تلوّن التّعدّي على اللّغة العربيّة هو ما يدفع المنظّمات والهيئات لتخصيص يوم لها في اعتراض ورفض لتلك التّحرّشات من جهة وللتّذكير بفضائلها من جهة أخرى.

وإن كان منتظرا مثلا ومستساغا أن يشنّ غير العرب هجومهم على لغة الضّاد لأسباب معلومة معروفة من بينها الحرب النّفسيّة على العرب والمسلمين لكون استهداف اللّسان العربيّ استهداف لروح القوميّة العربيّة وناظمها الرّفيع وهي أيضا استهداف واستفزاز لمشاعر المسلمين لأنّ اللّغة العربيّة وكما بيّنّا قبل قليل هي محمل القرآن وعبره الإسلام؛ وهو - أي استهداف اللّغة العربيّة - رديف مفصليّ في المساعي التّخريبيّة والخطط الكيديّة العاملة على تركيع العرب واستعبادهم وتشتيتهم والسّيطرة على ثرواتهم للمرور لهرسلة المسلمين وصدّ انتشار دينهم بواسطة الافتراء عليه وإلباسه لبوس الإرهاب؛ يظلّ من أكبر بواعث الحيرة أن تتعالى أصوات عربيّة داعية بكل بساطة لإلغاء التّعامل باللّغة العربيّة واستبدالها بلغات المستعمرين القدامى كالفرنسيّة والانجليزيّة بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان.

ألم تقدم الجهات المتنفّذة في الجزائر والمرتبطة بالدّوائر الفرنكفونيّة على تأثيث حملات دعائيّة تهاجم اللّغة العربيّة وتزدريها على أسس عنصريّة خالصة طيلة سنوات؛ ما عبّد لها الطّريق أمام فرض اللّهجة الأمازيغيّة حديثا ( ليس من باب الانتصار لها بقدر بغض اللّغة العربيّة ) لغة رسميّة في الجزائر ؟؟ ألم تتعالى أصوات كثيرة في تونس منذ سنوات بعد انقطاع طويل لتطالب بضرورة التّخلّي عن اللغة العربيّة واستبدالها باللّسان الفرنسيّ في تعاملات الدّولة التّونسيّة وخصوصا في البرامج التّعليميّة؟ ( راجع مراسلة الاكاديمي محمد الآجري لرئاسة الحكومة )..

تتعالى إذن مثل هذه الأصوات خصوصا في المغرب العربيّ وتستند لتعلاّت واهية؛ كالقول إنّ لغة الضّاد عاجزة عن مسايرة التّطوّر العلميّ وبالتّالي قد يساهم اعتمادها في مزيد التّردّي العاصف بالعرب؛ والحال أنّ هذا القول مردود على أصحابه؛ إذ لا يمكن أبدا أن تكون اللّهجات المحليّة كالأمازيغيّة مثلا لغة علميّة ستضمن للمطالبين بفرضها لغة رسميّة أن ترتقي بهم على مدرّجات المعارف والعلوم؛ كما أنّ عنصريّة هذه الافتراءات الآثمة تتهاوى وترتدّ على أصحابها بدليل أنّ النّخب الألبانيّة على سبيل الذّكر أو الكوريّة لم يصدر عنها مثل هذه الدّعوات بل إنّها تدرّس شتّى العلوم بلغاتها الأمّ وتبلغ جماهيرها مراتب علميّة مرموقة..

أوليس من الإجحاف بحقّ لغة الضّاد أن تصوَّب إليها ألوان شتّى من الطّعنات من أبنائها المفترضين؟ وهل تناسى هؤلاء أنّ الغرب الذي يقتدون به لم يحصد مثل هذا التّقدّم والازدهار إلاّ بفضل نقله ( النّقل يتمّ من العربيّة للّغات الأخرى والتّرجمة من اللّغات الأجنبيّة للعربيّة ) للفلسفة والعلوم العربيّة التي نمت خلال قرون المجد العربيّ لمّا كانت أوروبا تتقاذفها الصّراعات والنّزاعات وتغرق في السّبات الحضاريّ والتّخلّف العلميّ؟؟ وهل من لغة في الأرض غير العربيّة تستطيع تفرقة نور الشّمس عن ضياء القمر مثلا ؟ وهل نعثر في كل المعارف والاكتشافات الطّبيّة على توصيف أكثر دقّة وعلميّة لتطوّر الجنين أفضل من ذلك الذي قدّمه القرآن بلغة عربيّة سلسة مرنة وجليّة ؟ ثمّ هل من الموضوعيّة أن يغضّ هؤلاء المهاجمون للغة الضّاد بصرهم عن علماء العرب الذين أثروا المكتبات العلميّة وساهموا مساهمة رائدة في التّطوّر العلميّ بلغة العرب كالكندي وبن الهيثم والخوارزمي وبن الجزّار وبن رشد وبن موسى والكرخي أحد العباقرة الاثني عشر الذين ظهروا في كل تاريخ البشريّة.؟

إنّه من الغرابة بمكان أن يظهر هذا التّحامل الممنهج ضدّ اللّسان العربيّ في رقعة من بلاد العرب من المفروض أنّ مكانة اللّغة العربيّة فيها ثابتة ومحسومة؛ في نفس الوقت الذي تناضل فيه جماهير عربيّة في أمصار أخرى وتقارع أعتى المنظومات الفاشيّة والعنصريّة العاملة على طمس الهويّة القوميّة لتلك الجماهير وعلى رأسها الشّعب الفلسطينيّ والشّعب الأحوازيّ اللذين يتصدّيان ببسالة لمشاريع التّهويد والتّفريس التي يفرضهما الكيان الصّهيونيّ الغاصب والاحتلال الفارسيّ الإيرانيّ.

فمن نافلة القول إنّ هذا السّيل المتواصل في الإساءة المتعمّدة للّغة العربيّة لا يمكن التّفاعل معه أو التّطرّق إليه بمعزل عمّا تتعرّض لها الأمّة العربيّة وهي النّاطقة أساسا بلسانها العربيّ وما تعرّضت له من مؤامرات ودسائس ومكائد ؛ إذ أنّ أعداءها لطالما استهدفوا لغتها لإدراكهم لما لها من أهمّيّة وما ترفل فيه من ثراء ونبض حيّ جماليّ خلاّق ؛ ولعلمهم أنّ أساس تركيع العرب يمرّ حتما عبر التّشكيك في لسانهم ثمّ الإجهاز عليه في إطار عمليّات التّمييع والتّسطيح في خضمّ مكيدة أكبر هي عمليّة غسل الدّماغ العربيّ الجمعيّ ونخر الوعي الجماهيريّ وتهيئة الظّروف لتآكله واهترائه وكلّها من معالم الغزو والاستيلاب الحضاريّ وهما أخطر من كلّ عدوان عسكريّ مباشر أو غير مباشر . بل إنّ هذه الأصوات المبحوحة السّمجة التي تلوّث الفضاء اليعربيّ بنشازها ما هي إلاّ رجع صدى أو بيادق لتلك الجهات المعادية التي طوّعتها ودجّنتها ببعض المغانم الزّائفة الزّائلة.

وإنّه لمن الأهمّية بمكان تحيّة المنظّمة العربيّة للثّقافة والشّد على أيادي القائمين عليها على تخصيصها لغرّة مارس يوما للّغة العربيّة لما فيه من تذكير وتأكيد على ضرورة غرس معالم الاعتزاز لدى النّاشئة العربيّة بلغتها وإرثها الفكريّ والحضاريّ ومخزونها الثّقافيّ رغم عاديات الزّمن الطّارئة والمفروضة؛ وهي المهمّة الأغلى والأعلى والتي يتوجّب على النّخب الثّقافيّة العربيّة الأصيلة أن تنهض لها.

أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في غرّة مارس ٢٠١٦





الاربعاء ٢٣ جمادي الاولى ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٢ / أذار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة