شبكة ذي قار
عـاجـل










في الثاني والعشرين من شباط / 1958، شهدت الأمة العربية حدثاً ينطبق عليه وصف الحدث التاريخي متجسداً بقيام أول وحدة فعليه بين قطرين عربيين اندرجت تسميتها تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة.

لقد قامت الوحدة آنذاك لتشكل رداً عملياً على واقع التقسيم الكياني أولاً، ولتجسد توقاً شعبياً عربياً في مرحلة استنهاض قومي ثانياً، ولتكون قاعدة ارتكازية لوحدة عربية شاملة ثالثاً، وأملاً بأن تنضوي فيها كل مكونات الوطن العربي في سياق الانبعاث المتجدد للأمة وتوحيد وتفعيل إمكاناتها وقدراتها في مواجهة تحديات الخارج المتمثلة بمشاريع القوى المعادية، والنهوض بالواقع العربي إلى المستوى الذي يضع الأمة في مصاف الأمم المتقدمة القادرة على حماية أمنها القومي والأمن السياسي والاجتماعي لمواطنيها. تلك الوحدة التي صدحت لها الحناجر على "وقع بلاد العرب أوطاني" شكلت في حينها امتلاء نفسياً وسياسياً للأمة، واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تحدث ارتجاجاً قوياً في الواقع القومي بانت تأثيراته المباشرة في احتضان ثورات عربية تحررية ضد الاستعمار، من ثورة الجزائر، إلى توفير مناخات انطلاق ثورة الجنوب المحتل في اليمن ضد الاستعمار الانكليزي وقيام ثورات كالتي شهدها العراق بعد أشهر على قيام الوحدة والتي كانت الحائل السياسي دون تمكين "الحلف المركزي" أو ما "عرف بحلف بغداد" من الحاق الأمة بذلك الحلف الاستعماري الذي كانت أميركا تلعب دور القيادة الاستراتيجية له تنفيذاً لمبدأ ايزنهاور بملء الفارغ في منطقة الشرق الأوسط بعد انكفاء النفوذين البريطاني والفرنسي كأبرز مؤشر على تهاوي نظام دولي قديم بسبب ما أفرزته الحرب العالمية الثانية من نتائج سياسية وبالتالي التأسيس لنظام دولي جديد بنصابيه الأميركي والسوفياتي.

إن الوحدة التي عمرت ما يقارب الثلاث سنوات ونصف سقط بنياتها السياسي يوم وقع الانفصال، ولا مجال هنا للغوص في الإطلالة عن المسببات. وهذا السقوط للبنيان السياسي أريد استغلاله من قبل العديد من القوى من خارج الوطن العربي ومن داخله، ناظرين للوحدة، بأنها جاءت خارج السياق الطبيعي لواقع الأمة انطلاقاً من خلفية أن التجزئة هي الثابت التاريخي والوحدة هي المتغير والاستثناء، وأن هذا السقوط السياسي أعاد الأمور إلى طبيعتها وكأن الوحدة هي الخلاف للطبيعة.

ومن حمل على الوحدة من الخارج وعمل لتقويض بنيانها، فلإدراك منه أنها تشكل مصداً أمام نفاذ مشاريعه التي تستهدف الأمة بثرواتها وإمكاناتها ودورها فيما لو توحدت، ومن قاومها من الداخل، فلإدراك منه أنها تلغي امتيازات ومصالح القوى والطبقات المتنفذة التي يرتبط وجودها بالتجزئة. أما جماهير الأمة، فإنها لم تكن يوماً خارج الانشداد العاطفي للوحدة وخارج الاستجابة الحميمية لها لإدراك منها بأن شخصيتها القومية لا تتبلور معالمها إلا من خلالها.

هذا الحس الشعبي وأن كان يبدو في كثير من الأحيان عفوياً إلا أنه يعكس عمق الإدراك لدى جماهير الأمة، بأن العرب أمة واحدة ولهم الحق بأن يتوحدوا في إطار مكون سياسي واحد وبغض النظر عن بنيته الدستورية.

وإذا كانت الأمة العربية تتوفر فيها كل مقومات البلورة في شخصية قومية من وحدة الأرض واللغة والتقاليد والعادات والمصالح المشتركة، فلماذا لا تتوحد في كيان واحد؟

وإذا كانت المشاريع الدولية ذات الطبيعة الاستعمارية بحديثها وقديمها كما مشاريع دول الإقليم تتعامل مع المكون الشعبي الذي يشغل ساحة الوطن العربي، بأنه وحدة جغرافية وسياسية وشعبية وبناء عليه ترسم الاستراتيجيات؟فلماذا يتعامل الآخر مع العرب باعتبارهم أمة واحدة ولا ينظر البعض إلى هذه الحقيقة بأنها مسلمة؟ ان الجواب على هذا التساؤل، هو تقديم مصالح الخاص على العام في الداخل العربي، وتصوير التقسيم الكياني الذي أفرزته المتغيرات الدولية الكبرى ثابتاً نهائياً وعليه يتم التأسيس لإدارة الشأن الخاص في المكونات الكيانية، وإيجاد عوائق (مادية – سياسية) تحول دون تواصل المكونات فيما بينها سواء عبر ترسيم حدود في ما بينها تضفي عليها صفة "السيادة" و"القدسية الدستورية" أو عبر إقامة كيانات غريبة تناقض في أهدافها، التوق الطبيعي للأمة في وحدتها.

على أساس هذه النظرة للتعامل مع العرب باعتبارهم يشكلون أمة واحدة ، كان كل استهداف لأي موقع عربي من الآخر ذي الطبيعة الاستعمارية يستهدف الأمة برمتها وهذا ينطبق على الاستهداف الصهيو-استعماري لفلسطين والذي يردف اليوم باستهداف يطل من مداخل الوطن العربي الشرقية عبر الدور الذي يضطلع به النظام الإيراني الحالي وما يقال عن فلسطين يقال عن العراق وأي قطر عربي آخر.

هذا الأخر الذي يستبطن عدائية ضد العرب كشعب والعروبة كهوية انتماء القومي، استطاع أن يحقق بعضاً من أهدافه،لأن كل خطر عام ضد الأمن القومي العربي، لم يكن يواجه برد قومي، بل كان الرد يتسم بالخاص في مواجهة العام الشامل، وهذا ما كان يحدث خللاً في نصاب توازن القوى و مرده أن الأخر المعادي كان يحشد إمكانات لاستهداف العام فيما الخاص العربي كان يواجه في حدود ساحته. ومن كان من العرب يضع مواجهة الأخر المعادي في إطار البعد القومي كان لا يجد احتضاناً من أخرين من الخاص العربي لأن العقل السياسي كان مسكوناً بنهائية التقسيم الكياني، لا بل أن بعضاً وقف متفرجاً، أو انخرط في الآليات المعادية ظناً أنه ليس مستهدفاً، ولم يكن يأخذ بحكمة "أن الثور الأسود يؤكل يوم يؤكل الثور الأبيض". وهذا ما جعل شعار" بلاد العرب أوطاني" يتراجع ليحل مكانه خطاب الكيانية القطرية أولاً. من مثل لبنان أولاً، فلسطين أولاً، مصر أولاً السودان أولاً إلى أخر المعزوفة ولم تعد الوحدة تتصدر واجهة الخطاب السياسي لعديد من القوى الحاكمة أو غيرها. لا بل أكثر من ذلك فإنه بعد العدوان على العراق، روجت أقلام لكتاب ومفكرين، بأن الخطاب القومي الوحدوي بات خطاباً خشبياً، وأن النزول بالتقسيم إلى دون ما هو قائم حالياً ليس أسوأ الحلول بل ربما يكون أفضلها أن لم يعد بالإمكان مواجهة الضغوط المتصاعدة على البنيات السياسية والمجتمعية العربية القائمة.

لكن إذا كانت الوطنيات القطرية في الوطن العربي لم تستطع أن تحافظ على وحدة الأرض فكيف بالنزول تقسيماً أن يوفر حماية لهذه الوحدة، والسودان نموذجاً؟! وإذا كان الوطنيات القطرية لم تستطع أن تستوعب بالاتجاه الإيجابي مستوى النمو في التفاعلات المجتمعية لإقامة مجتمع المواطنة والانسنة وكل الحقوق الإنسانية ذات الصلة،والانتفاضات الشعبية نموذجاً، فكيف لمكونات مجتمعية أن تعيش مواطنة حقيقية، وهي باتت تحت تأثير انفلات الضوابط العامة واستحضار الغرائزية التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل قيام الدولة، أي غرائزية العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب؟ ان هذه الحلول قد يجد البعض فيها ربما حلاً لأمن حياتي، لكن أين الأمن السياسي والأمن الوطني؟

وإذا كان الأنسان العربي لم يجد ذاته في إطار معطى الكيانية القطرية، فهل سيجد ذاته في إطار معطى الطائفة والعشيرة والمذهب وقس على ذلك؟ بطبيعة الحال انه لن يجد ذاته لأنه زوال حدود الكيانية القطرية، لم يخرجه إلى الرحاب الأوسع وهي حدود الكيان القومي، وحلول الهوية القومية الواحدة محل الهويات القطرية، بل سينزله إلى مستوى الهوية الطائفية والمذهبية، وبالتالي إعادة رسم الحدود السياسية بحدود الطوائف والمذاهب. ان هذا لو تحقق لشكل ذروة الخطر على الأمن الوطني والأمن المجتمعي، لأن الوطنيات القطرية التي لم تستطع أن تحمي وحدتها الكيانية لا تستطيعها الجينات السياسية المستنسخة على أسس مذهبية وطائفية وأثنية، وبالتالي فإن مستلزمات الحماية يوفرها الفضاء الأوسع وليس النطاق الأضيق.

وعلى هذا الأساس، فإن حماية الإنسان العربي لأمنه على المستوى المجتمعي لا تكون إلا بوضع المخاطر التي تهدد هذا الأمن في الإطار القومي الشامل.وهذا يجب أن يكون محكوماً بعاملين أساسيين، الأول سياسي، وهو أن يتعامل العرب مع الآخر المعادي انطلاقاً من خلفية استهداف الأمة بوجودها وتاريخها ومقدراتها وعلى الجميع أن ينخرط في المواجهة وبغض النظر من يشكل رأس حربة في مواجهة هذه الأخطار .والثاني فكري، وهو أن يعاد الاعتبار للموقف المبدأي من الوحدة العربية واعتبارها البوصلة التي ترشد المشروع العربي المقاوم للآخر المعادي.

فلو كان جرى ويجري التعامل مع قضية فلسطين برؤية وحدوية موقفاً وأداءً، وترجم احتضاناً لمقاومتها، لما كان مآلها كما عليه الآن .ولو كان جرى ويجري التعامل مع العدوان الأميركي على العراق، برؤية قومية موقفاً وأداء، لما كانت أميركا استسهلت عدوانها.

ولو كان جرى ويجري التعامل مع المشروع الإيراني برؤية قومية موقفاً وأداء، لما كانت الحرب مع إيران طالت ثماني سنوات، ولما كان التغول الإيراني استفحل إلى الحد الذي بات يشكل خطراً داهماً على الأمن القومي العربي.

ولو كان جرى ويجري احتضان المقاومة الوطنية العراقية ضد الاحتلال الأميركي والتغول الإيراني لما كان العراق يهدد بالتقسيم وتقاسم النفوذ الدولي والإقليمي.

ولو كان جرى ويجري إسناد الدور العربي في ساحات المواجهة الساخنة، لما كانت طالت الأزمات وأفسح المجال لكل أشكال العدوانية والتدخل الدولي والاقليمي في سوريا واليمن وليبيا كنماذج حية .

أما وأن الموقف العربي لم يرتق إلى مستوى التوحد على مستوى مواجهة التحديات، فإن الدعوة إليه يجب أن تبقى هدفاً مركزياً لقوى الأمة الحية وتلك التي باتت تستشعر الخطر على الوجود القومي. ومن لم يدرك هذه الحقيقة عليه سابقاً أن يدركها حالياً. وأن يستحضر هذا الموقف متأخراً أفضل من لا يستحضر أبداً، وشرط ذلك ان يكون محكوماً بمقولة أن لا أمن وطنياً ومجتمعياً دون أمن القومي والذي لن يستقيم إلا إذا أعيد الاعتبار لشعار الوحدة العربية .

في ذكرى الوحدة .... العروبة أولاً.
 





الجمعة ١٨ جمادي الاولى ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / شبــاط / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة