شبكة ذي قار
عـاجـل










الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام عن الحالة الإنسانية في "مضايا"، أقشعرت لها الأبدان، لما انطوت عليه من مشهدية مأسوية أبرزت حجم المعاناة التي يعيشها سكان مدنيون، يبس ضلعهم وجف ضرعهم ولم يعد يجدون ما يقتاتون به إلا الأعشاب وبقايا كسر الخبز تحت ركام الأبنية المدمرة.

و"مضايا" التي أطلقت حملة إعلامية لإنقاذ أبنائها من موت محتم ليست الوحيدة التي تلظت واكتوت بنار الحرب التي حصدت حتى الآن ما يقارب نصف مليون وشردت الملايين، ومن لم يقتل أو يتشرد وقع ضحية الحصار الذي فرضته سياقات العمليات العسكرية، وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة فإن عدد المدنيين الذين يحاصرون هم بحدود 400000 نسمة وهم يتوزعون على مساحة الأرض السورية في ريف دمشق وعنوانها الصارخ "مضايا"، وفي ريف أدلب وعنوانها المأسوي "الفوعة وكفريا" وفي ريف حلب وعنوانها "نبل والزهراء" ،هذا إلى أحياء أخرى في حمص وريفها وفي الشرق السوري. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن 200,000 نسمة تحاصرهم "داعش" و190,000 نسمة تحاصرهم قوات النظام والتشكيلات الملتحقة به و12,500 نسمة تحاصرهم "النصرة" وتشكيلات أخرى. وإذا كانت المأساة الإنسانية في مضايا فاقت غيرها، فلأن الأماكن الأخرى كانت تصلها مساعدات بطريقة الإنزال الجوي أو بوسائط أخرى. وسواء اعتبر البعض أن هناك تضخيم في إبراز الوضع المأسوي الذي تنوء تحته المناطق المحاصرة أو لم يكن، إلا أن ما دون هذا التضخيم يكفي لجعل محاصرة المدنيين وما يترتب عليه من نتائج إنما يرتقي إلى مستوى الأفعال المحظورة التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية.

فالمادة (14) من البروتوكول الإضافي الثاني لعام / 1977 نصت على أنه:

"يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، ومن ثم يحظر، توصلاً إلى ذلك، مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها في بقاء السكان المدنيين على قيد الحياة ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري".

هذا البروتوكول الذي طور وأكمل المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 نص أيضاً في مادته السابعة عشرة على حظر الترحيل القسري للمدنيين وجاء في البند (2) من هذه المادة: لا يجوز إرغام المدنيين على النزوح عن أراضيهم لأسباب تتعلق بالنزاع.

أما المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، فقد نصت على أنه "في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة، تبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن:

1- الاعتداء على الحياة العامة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب،

2- أخذ الرهائن.

3- الاعتداء على الكرامة الشخصية.

ويجوز لهيئة إنسانية غير متحيزة، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تعرض خدماتها على أطراف النزاع، وليس في تطبيق هذه الأحكام ما يؤثر على الوضع القانوي لأطراف النزاع.

إن ما يتعرض له المدنيون المحاصرون بنيران الحرب في سوريا، وخاصة في "مضايا" باعتبارها النموذج الصارخ هو جريمة ضد الإنسانية بحسب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. فالمادة السابعة من هذا النظام تعتبر أن الجريمة ضد الإنسانية تتحقق أركانها المادية في أعمال الإبادة وأبعاد السكان أو النقل القسري للسكان والأفعال اللاإنسانية التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية. وتشمل الإبادة تعمد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد أهلاك جزء من السكان.

مما تقدم يتبين أن الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالحق الإنساني في زمن الحرب، تشمل بأحكامها كثيراً من الحالات التي ظهرت في سياق الصراع المتفجر في سوريا نظراً لانتهاكات حقوق الإنسان التي مارسها كل المنخرطين في آليات الحرب الدائرة. ولذلك لا يمكن استثناء أحد من المسؤولية المترتبة على الانتهاكات الخطيرة والتي بعضها يرتقي إلى جرائم ضد الإنسانية وبحسب ما نص عليه النظام الساسي للمحكمة الجنائية الدولية .وفي مجال استعراض بعض هذه الانتهاكات على سبيل المثال لا الحصر: عدم التفريق بين المدنيين والمقاتلين في العمليات العسكرية، تدمير المرافق الحياتية وذات الصلة بالخدمات الإغاثية، محاصرة مدن وقرى وتعريض السكان لأقسى أنواع المعاناة، من مرض وجوع، النقل القسري للسكان، اتخاذ المدنيين كدروع بشرية، الاعتقالات والتعذيب والإخفاء القسري....

كل هذه الأعمال، تشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني الذي سنت أحكامه لإسباغ حمايته على الذين تنتهك حقوقهم في أوقات الحرب والنزاعات المسلحة.

وعليه، فإن المسؤولية الجرمية تطال من يثبت ارتكابه فعلاً جرمياً يقع تحت التوصيف القانوني الذي ينعقد اختصاص القضاء الجزائي الدولي للمقاضاة بشأنها وفق ما نص عليه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

هذا النظام حدد الجرائم الذي ينعقد اختصاصها للنظر فيها وهي جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.

وأنه من خلال مقاربة أوضاع المناطق التي تقع ضمن الحصار في سياق العمليات العسكرية الدائرة، فإن ما يرتكب بحق هذه المناطق في" مضايا" كما في "الفوعة وكفريا" وأيضاً في" نبل الزهراء" وفي حي الوعر في حمص وقبلها مخيم اليرموك والحجر الأسود إنما هي جرائم ضد الإنسانية وبالتالي فإن مقاضاة من ارتكب هذه الأفعال وخاصة لجهة الحصار المفروض على المدنيين تبقى قائمة لأنها جرائم لا تسقط بالتقادم.

من هنا فإن هذه الجرائم لا تكفي الإدانة لها ولمن يرتكبها. وإذا كانت هذه الادانة مطلوبة كموقف أخلاقي وإنساني، إلا أن من يثبت ارتكابه لها يجب أن لا يفلت من العقاب. وأنه في مجال تحديد المسؤولية فإن كل من يرتكب فعلاً ويرمي إلى محاصرة المدنيين لأغراض عسكرية وجعلهم يعيشون معاناة شديدة وتصبح حياتهم مهددة بالخطر الشديد هو مسؤول. لكن من يتحمل المسؤولية الأكبر هو الطرف الذي يعتبر مسؤولاً بحكم مرجعيته الدستورية، وبحكم التزاماته الدولية وانضمامه إلى الاتفاقيات والمواثيق الدولية ومنها اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولان الإضافيان المحلقان. وعليه فإن مسؤولية النظام تتقدم على مسؤولية الأخرين لأنه كان عليه أن يتصرف ليس باعتباره طرفاً في النزاع وحسب بل باعتباره يتحمل المسؤولية عن توفير الحماية للمدنيين بحكم مسؤوليته الدستورية التي وأن سقطت واقعاً إلا أنها ما تزال قائمة لكونه يمثل "الشرعية" الدستورية تجاه العالم. والى أن تتغير المعطيات السياسية التي تدخل البلاد مرحلة إنتاج نظام جديد بقواعد وضوابط دستورية جديدة وهي قادمة ،فعليه أن يقلع عن التعامل مع البيئات الشعبية الخارجة عن سيطرته بالأسلوب الميليشياوي و"مضايا" نموذجاً.
 





الاثنين ١ ربيع الثاني ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / كانون الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة