شبكة ذي قار
عـاجـل










بنى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي تولى الخلافة في العام 754م حتى وفاته في العام 775م، بغداد المدورة وأتم بناءها قرابة العام 763م، على الضفة الغربية لنهر دجلة، أي في الكرخ، وكانت الرصافة محلة تقابلها على الجانب الشرقي أمر ببنائها المنصور، وهي التي تسمى الأعظمية، اليوم، وقد عمل لها سوراً وخندقاً وميداناً وبستاناً وأجرى لها الماء، فكانت أول محلة في بغداد الشرقية، ثم أمر ولي عهده ولده محمد المهدي أن يعسكر فيها ويبني له ولأصحابه دوراً وينشىء مرافق أخرى.

لكن هذه المحلة سرعان ما اتسعت وامتدت حتى سميت الضفة الشرقية لنهر دجلة كلها ( رصافة ).

وفي بغداد منطقة، تعرفونها جميعاً، اسمها ( السنك )، ولا يستبعد أن يطغى اسمها على بغداد كلها، على منوال ما طغى اسم الرصافة على الضفة الشرقية لنهر دجلة في بغداد.

إن هذه المنطقة كانت في العصر العباسي مزرعة للبصل وأخذ الباب الشرقي لبغداد اسمه منها فسمي باب البصلية، فضلاً عن اسمه الآخر باب كلواذى، لأنها كانت تؤدي إلى قرية اسمها كلواذى كانت تزرع لبغداد الخضر والفواكه، وهي تقع، اليوم، تحت بناية الشركة العامة لصناعة الجلود ومعاملها في الكرادة خارج، وسبب تسميتها ( السنك ) هو أن مزرعة البصل هذه أهملت بعد احتلال بغداد سنة 656هـ - 1258م فاستوطنها الذباب بنحو غريب ولما جاء العثمانيون أطلقوا عليها هذه التسمية التي تعني بالتركية ( الذباب )، إشارة إلى كونها كثيرة الذباب، كما أفادني المؤرخ والخططي المعروف الدكتور عماد عبد السلام رؤوف.

إن ذلك زمان مضى كما مضى العثمانيون، وعندما تأسست الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 شرعت تهتم بصحة الناس وتطور أساليب حياتهم، وكذلك فعل العهد الجمهوري الذي أعقب العهد الملكي، ولا ينكر أن وتيرة ذلك ازدادت بعد ثورة 17 تموز 1968 التي جاءت بالبعثيين إلى الحكم، حيث منحت منظمة الصحة العالمية العراق شهادة تقديرية لجهود الجهات الصحية في تطويق الأمراض المتوطنة وتنظيف البلاد منها والقضاء عليها في مدة قياسية، فاقت تقديرات الجهات العالمية المختصة بهذا الشأن.

لكن الدولة العراقية الحديثة التي استهدفها الاحتلال في 9 نيسان 2003 انهارت وجاء الاحتلال بوكلاء صغار نصبهم على كراسي الحكم في المنطقة الخضراء أهملوا كل شيء إلا جيوبهم، فأغلقت المصانع والمعامل ودمرت البساتين والمزراع وانهار البنيان وتخربت بغداد فانتشرت فيها آلاف البرك والمستنقعات والمياه الآسنة، وامتلأت شوارعها ومناطقها بتلول من النفايات فغزتها جيوش الذباب واستوطنتها ولم ينفع ازدهار أسواق المبيدات الحشرية، التي مركزها منطقة السنك نفسها، ويبدو أن الذباب مصر على التكاثر العجيب.

إن هذا التكاثر الغريب، الذي لم تشهد له بغداد مثيلاً، سببه تلك البرك والمستنقعات والمياه الآسنة وتلول النفايات التي تقدر بمئات آلاف الأطنان التي تراكمت ولم تجد من يزيلها ويعالجها، بينما أهدرت مليارات الدولارات، منذ الاحتلال إلى الآن، على عقود فاسدة مع شركات وهمية وغامضة لا يعرف أحد لأي مسؤول حكومي فاسد تعود اتفقت معها أمانة بغداد على إصلاح منظومة الصرف الصحي المتهالكة، أصلاً، والخارجة من الخدمة، ثم لا شيء، وما صخرة عبعوب عنكم ببعيد.

أن من يسمع تصريح مدير دائرة الصحة العامة محمد جبر لابد أن يصاب بالذهول ويتمنى لو أنه يعيش في العصر العثماني، فهو أعلن أن نسبة الذباب في بغداد يساوي ذبابة واحدة لكل غرام واحد من النفايات، فإذا كانت هذه النفايات بمئات الآلاف من الأطنان، فمن يستطيع أن يحصي المليارات من هذه الحشرات التي تنغص على البغداديين حياتهم؟

والمؤلم في تصريح محمد جبر قوله إن مخيمات النازحين، وأكثر من نصف شعب العراق نازح، الآن، هي الأكثر تأثراً بهجمات الذباب.

وإذا اشتكى الشعب من شيء في النظم الديمقراطية المحترمة فإنه يتوجه إلى البرلمان ليحاسب الحكومة بصفته الجهة الرقابية على أداء الحكومات، ولكن برلماننا ( المحترم ) اكتفى بالاعلان أن شركات مكافحة الآفات الزراعية انسحبت من العراق لقلة التخصيصات المالية، وطلعت علينا عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية خولة الزيادي لتدعو البغداديين إلى الاعتماد على أنفسهم في مكافحة الذباب وأن عليهم شراء المبيدات الحشرية وغسل أيديهم من الحكومة فهي لا تستطيع أن تقدم للناس في محنتهم شيئاً!!

إننا، والحالة هذه، يجب أن لا نستغرب ولا نفاجأ أن تعود إلى العراق أمراض غادرته وأصبحت في ذمة التاريخ والتراث مثل التراخوما والرمد الصديدي وبعض الأمراض الجلدية والمعوية كالكوليرا والتيفوئيد وإسهال الأطفال، وهي كلها أمراض معدية ومميتة ينقها الذباب.

وسيظهر جيل من العراقيين يعاني من حبة بغداد التي تشوه الوجه، كما رأيناها في الأجيال السابقة.

كان العراقيون، قبل مجيء الديمقراطية في العام 2003 يشتكون إلى الحكومة من أي ظاهرة مؤذية تنغص عليهم حياتهم عن طريق مقابلة المسؤولين أو الكتابة في الصحف، فتتحرك الأجهزة المختصة لإزالة تلك الظواهر وعلاجها خوفاً من العقاب.. فإلى من يشكون، الآن، وجميع المسؤولين فاسدون، والبرلمان لا يحاسب الحكومة بل يطلب من الشعب الاعتماد على نفسه في مواجهة الكوارث؟





الاربعاء ٥ ربيع الاول ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / كانون الاول / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة