شبكة ذي قار
عـاجـل










اندلعت في مثل هذا اليوم؛ غرة نوفمبر؛ من عام 1954 شرارة الثورة الجزائرية العظيمة حيث هبت الجماهير هبة باغتت المستعمر الفرنسي الغاشم وأربكت رهاناته كلها وفرضت عليه مراجعة سياساته وحملته على الكف عن حماقاته وألجمت نواياه الخبيثة في الاستئثار بالجزائر بل واعتبارها مقاطعة فرنسية تابعة لباريس..

لم تنجح تسويقات أركان النظام الفرنسي وأقطابه الاستراتيجية في بلوغ الهدف الأغلى والعامل على نسف كل مقومات الانتماء والهوية العربية الإسلامية للجزائر وشعبها.. فرغم ما أنفقته فرنسا الاستعمارية من أموال طائلة وما بذلته من مجهود حربي وثقافي خاصة في سبيل تخريب الوعي الوطني والقومي لدى الجزائريين؛ ورغم تمكنها من جذب أتباع خونة وإغراء عملاء كثر وتجنيدهم؛ لم تتمكن من طمس النزعة التحررية الأصيلة عند السواد الأعظم من أحرار الجزائر وماجداتها ليعلنوا ثورة شاملة على الظلم والقهر والعدوان..

كانت ثورة الجزائر العارمة محل انبهار عالمي تردد صداها في كل أرجاء المعمورة؛ وأسهم ذلك الإشعاع الكوني بفاعلية كبرى في تكثيف الضغوط الديبلوماسية على الاستعمار الفرنسي ما عمق أزمته وورطته في الجزائر التي خط شعبها مسيرة وضاءة في جبين الإنسانية ودق إسفينا جديدا في نعش المنظومة الاستعمارية الإرهابية برمتها.. وفي الحقيقة ما كان للثورة الجزائرية أن تطال كل الفضاءات والأطر الدولية شعبية ورسمية لولا الأداء البطولي لشعبها ليبلغ شهداؤه مليونا ونصف المليون شهيد في سابقة تاريخية خالدة..

إن ثورة الجزائر على الاستعمار الفرنسي ألهمت كل حركات التحرر الوطني في العالم وقتها في كل المستعمرات وخاصة في إفريقيا وآسيا؛ ولقد كتب الأحوازيون مثلا وتحدثوا طويلا عن فضل ثورة الجزائر في تشكيل أول نواتات المقاومة والثورة على الاحتلال الفارسي الغاشم.. كما جذبت ثورة الجزائر العظيمة كل الأحرار في الوطن العربي والعالم فكانت الجزائر قبلة المقاتلين من تونس والمغرب والعراق وسورية؛ وحمل السلاح بوجه الفرنسيين الثائر الأممي ارناستو غيفارا ومجموعات من رفاقه وتلامذته على أرضها؛ ودعمت مصر العروبة المجهود الثوري المسلح في الجزائر دعما مسؤولا وواعيا بأن تحرير الجزائر وطرد المستعمر لبنة محورية على درب إكمال المشروع التحرري العربي؛ وبالقدر ذاته ساهم حزب البعث العربي الاشتراكي في دعم ثورة الجزائر وتوجه بتعميم صارم لمناضليه بضرورة الانخراط فيها والعمل على دعمها وإسنادها ماديا ومعنويا وبشريا.. ولقد كانت الجزائر حاضرة بقوة في فعاليات البعث وثوابته وفكره حيث تنبأ الأستاذ ميشيل عفلق وأكد على أن شمس البعث والعروبة ستشرق من المغرب العربي..

ولعل من أبلغ توصيفات ثورة الجزائر وتقييمها قول الأستاذ ميشيل عفلق "إن ثورة الجزائر مفاجأة العروبة لنفسها" ما يبرهن بجلاء منقطع النظير عن القيمة النفسية والاجتماعية والسياسية لتلك الملحمة وهو تأكيد على الرهانات والآمال الواسعة المعلقة عليها..

ما من شك أن ثورة الجزائر كانت حبلى بالدلالات؛ ونبهت إلى حتمية وبديهة كونية أن الشعوب المتجذرة في محيطها الطبيعي والمستملكة لتاريخها؛ لا تقبل مطلقا العدوان ولا ترتضي الإذلال والاستعباد ولا تهادن الغزاة مدمري الأوطان وناهبي خيراتها والعابثين بها.

ولقد توجت ثورة الجزائر باندحار الاستعمار الغاشم صاغرا مذموما ؛ واستسلم الفرنسيون المغرورون للإرادة الشعبية الجزائرية التواقة لحريتها والمدافعة عن ثرواتها ومصيرها وشكلت درسا بليغا ومحفورا في ذاكرة الشعوب العالمية جوهره أن مقاومة العدوان مهما تطلب ذلك الفعل من تضحيات وعطاء ومهما استوجب من عناء ومشقة وصبر ومثابرة؛ تبقى الحل الوحيد والخيار الأمثل بيد الجماهير والأمم المستضعفة لخلاصها ؛ وهي سلاحها الأنجع لصد ولجم الأطماع الاستعمارية وما تخطه من جرائم وحشية .

قد يكون من الإجحاف بمكان أن يكتفي المتناولون لثورة الجزائر الغراء بمجرد سرد تاريخها وذلك بالنظر لما كان لها من مدلولات وعبر عظيمة؛ وخاصة ما علقه عليها لا شعبنا العربي في الجزائر فقط بل وما انتظرته منها أمتنا العربية في صراعها المرير وحربها المفتوحة مع أكثر من عدو وعلى أكثر من جبهة..

قد ننظر بعين الرضى لتتويج ثورة الجزائر باستقلالها عن المستعمر الفرنسي؛ وقد يحق لشعبنا العربي في الجزائر التغني ببطولاته المحفوظة والمكتوبة بأحرف من ذهب في وجدان العرب جميعا وفي ضمير كل الشرفاء والأحرار في العالم.

ولكن ألا يحق التساؤل عن الآفاق الحقيقية لثورة نوفمبر المجيدة وعن الاستحقاقات المتولدة عنها؟

إن مثل هذه الأسئلة تستمد شرعيتها حصرا من الزخم الهائل لتلك الثورة ورسائلها وما نضحت به من قيم ومآثر .. حيث من البداهة بمكان أن نرفض توقف استثمارات ثورة عارمة وملحمة بطولية مبهرة سطرتها مئات آلاف شهداء الجزائر الأبرار على انتزاع الاستقلال على أهميته القصوى.

ومن باب الإنصاف والموضوعية في هذا الخصوص أن نعترف لثورة الجزائر بفضلها في المشاركة الجليلة في أكثر المنازلات التي عرفها العرب كحرب 1967 التي وضعت فيها الجزائر كل طاقاتها على ذمة مصر؛ ولا يمكن أن ننسى أيضا المواقف المبدئية للجزائر فيما يخص قضية العرب المركزية فلسطين السليبة؛ وكذلك انتصار الجزائر للعراق إبان العدوان الكوني عليه ليستمر انتصارها للعروبة وقضاياها في أغلب المناسبات..

ولكن من باب الإنصاف والموضوعية ذاتها؛ فإن أداء الجزائر الرسمية وهي الوريث الشرعي لثورة الجزائر (جبهة التحرير) ظل بطيئا ودون المأمول في أكثر من ملف وهو ما لا يتناسب البتة مع امكانيات الجزائر وطاقاتها تاريخها وثورتها وغير ذلك.. إذ كان من المفروض على الجزائر وهي مهد ثورة خالدة عظيمة مبهرة أن تحافظ على ذلك الموروث الثوري وتكون خاصة اللبنة الرئيسية لتشييد صرح اتحاد المغرب العربي وذلك بتوحيد أقطاره وسياساتها لتكون الخطوة الأولى والمنطلق الفعلي لاستكمال توحيد العرب.

طبيعي ههنا؛ أن نرصد بعين الريبة انكفاء الجزائر على نفسها خصوصا بعد العشرية السوداء التي ألمت بها؛ وظلت القطيعة مستمرة مع المغرب الأقصى والحدود مغلقة بينهما وهو ما يسيء إساءة كبيرة لتاريخ ثورة الجزائر ورمزيتها؛ فلا يجب أبدا التغافل عن إسهام شعبي المغرب وتونس إسهاما عزيزا غزيرا في توفير عمق استراتيجي ضارب؛ شرقا وغربا؛ لثوار الجزائر.. واللافت في هذا السياق؛ أن الجزائر وشعبها وفرا دعما مطردا للحركات الوطنية التحررية في كل من تونس والمغرب من قبل..

وعليه يغدو مرفوضا رفضا قاطعا أن تستجيب الجزائر بطريقة أو بأخرى وبوعي أو بدونه لمكائد الأعداء القاضية بمنع تواصل طبيعي بين الجزائر والمغرب كما هو الأمر بالنسبة للعراق وسورية من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى..
يحق لنا كعرب محبين للجزائر حريصين عليها وعلى أمنها وسيادتها ومستقبلها ومن خلال إدراكنا لمعاني ثورتها الخالدة؛ أن نرفض سياسة التجاهل للتغيرات الإقليمية والجيواستراتيجية في العالم؛ وإلا كيف نفسر التعامل الجزائري المحتشم مع الملف الليبي الحارق وكيف تكتفي بمجرد الانخراط في مبادرات دولية وإقليمية والحال أنها مدعوة للمبادرة والاقتراح والفرض والإلزام إن اقتضى الأمر ذلك. ؟

إن الجزائر بإرثها الثوري المشهود وبتاريخها المقاوم الجهادي؛ مطالبة بالوفاء لدماء أكثر من مليون ونصف المليون شهيد؛ ويقتضي ذلك أن تضرب الجزائر بقبضة من حديد على كل يد تسعى للانتقاص أو المساس بسيادة قرارها الوطني والعبث بأمنها وهو ما يستدعي محاصرتها لمساعي الغرب الاستعماري وخاصة فرنسا بالتدخل في شؤونها..

إنه لا سبيل لإنكار تراخي الجزائر على هذا الصعيد وهو ما يفسره سيطرة الفرنكفونيين (الحركيين) على كل مفاصل الدولة وعملهم الدؤوب على ضرب عروبة الجزائر بحيل ودسائس عديدة ليس أهمها بث نوازع الفرقة بين أبناء الجزائر وتقسيمهم لأمازيغ وبربر وعرب وليس أقلها محاربة اللغة العربية والدعوة لاعتماد اللهجة العامية رسميا في الإدارة الجزائرية ومضايقة العروبيين وتشديد الخناق عليهم وهم العاملون على مزيد تجذير الجزائر في هويتها العربية الاسلامية ومقاومة كل نفس متآمر مشبوه ينزع لتغريب الجزائر عن محيطها الطبيعي.

ويبقى من الأهمية بمكان؛ وفي سياق الوفاء لثورة غرة نوفمبر الخالدة دوما؛ وانطلاقا من غيرتنا على الجزائر باعتبارها قطرا عربيا عزيزا علينا ولما نقدره وننتظره من دور فعال وحاسم تنهض له على درب رأب الصدع العربي بما يلبي انتظارات ملايين العرب التواقين للانعتاق والتحرر الوطني والقومي مستلهمين ذلك من ثورة نوفمبر؛ فإن السلطات الجزائرية مدعوة وبإلحاح لأن تبذل قصارى جهدها في خوض ثورة ثانية تكون حربا لا هوادة فيها على كل مظاهر الفساد المالي والإداري وذلك بطرق أبواب الإصلاح الجذري والشامل من أجل الارتقاء بالمواطن الجزائري وتمتيعه بخدمات لائقة ومستوى معيشي أرقى وسياسة اقتصادية أكثر عدلا وإنصافا للقضاء على كل مولدات الشعور بالغبن والضيم والحرمان مع ضرورة ضمان إسهامه إسهاما جديا في تسيير الشأن العام وهي ممهدات لا غنى عنها على درب تحصين الجبهة الوطنية ومنع جميع المنافذ أمام المتسللين والمتآمرين المتربصين بالجزائر شرا..

إن الثورة الجزائرية لم تتوقف عند تحقيق طرد المستعمر الفرنسي؛ وستظل منقوصة ما لم تنخرط في الجهد الشعبي العربي المتواصل من أجل إقامة دولة الوحدة العربية التي هي غاية كل نفس مقاوم حر مخلص وشريف.





الاثنين ٢٠ محرم ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٢ / تشرين الثاني / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة