شبكة ذي قار
عـاجـل










حلقة أخرى من ( نحو مؤتمر فكري مرة أخرى لتعريف مصطلحات ومفاهيم من الحراك العربي )

مع اعتبارنا أن تدخل القوى الخارجية في شؤون الوطن العربي، وخاصة منها الدولية والإقليمية، ليس تدخلاً بريئاً وإنسانياً، بل تقف وراء دوافعه مصالح مادية واقتصادية. مرة أخرى تشدنا قضية التدخل الروسي في الأحداث السورية، وما أُعلن عن قيام تحالف رباعي، تقوده روسيا وعضوية إيران والعراق وسورية. وفور إعلانه تباينت المواقف والاستنتاجات لتفسير أهدافه ومراميه، ومن خلال متابعة التحليلات والمواقف المختلفة التي تتابع الحدث الجديد، توزَّعت التوقعات بين أنه من المحتمل أن يكون مكمِّلاً للتحالف الذي تقوده أميركا، أو أن يكون في مواجهته.

لقد أعلن التحالفان أهدافهما، التي بدت للعيان أنها واحدة، وما تلك الأهداف المعلنة إلاَّ حصر جهد التحالفين فيما يسمونه (محاربة الإرهاب). وإذا كانت الأهداف واحدة، فلا شك أن وجود تحالفين، بدلاً من تحالف واحد، يعملان من أجل تحقيق هدف واحد ما يثير الانتباه والتأمل والتساؤل:

1-أولاً ما يثير الانتباه هو أنه لو كان الواحد منهما مكملاً للآخر لكان عليهما أن يتَّحدا في حلف واحد، تشرف عليه غرفة عمليات مشتركة. ولأنهما لم يتَّحدا منذ البداية، لا بُدَّ من الاستنتاج بأن كل واحد منهما يغنِّي على أهدافه الخاصة.

إن هذا الاستنتاج ليس احتمالاً بل هو واقع حقيقي، لأن أهداف أميركا كزعيمة للتحالف الأول، هي غير أهداف روسيا، كزعيمة للتحالف الثاني. وإذا كان من المؤكد أن قرار التحالفين ممسوك من القوتين الكبريين فيعني أن الهدف الجامع بينهما، أي (محاربة الإرهاب)، ليس هدفاً حقيقياً، بل هو قنبلة دخانية للتعتيم على أهداف التحالفين الحقيقية. فكيف يمكننا تفسير ذلك؟

إن أهداف أميركا الحقيقية هي اعتبار الاحتفاظ بالعراق خطاً أحمر، وأهداف روسيا هي اعتبار الاحتفاظ بسورية خطاً أحمر. وكل منهما تتزعم حلفاً تصب عملياته العسكرية والسياسية والأمنية في مصلحة أهداف زعيمه الرئيسي. ولذلك تستهدف أميركا من حلفها، ليس ضرب الإرهاب الأصولي بل تريد احتواءه لخدمة أهدافها الحقيقية التي تكمن في حماية العملية السياسية في العراق، كقاعدة استراتيجية لها في المنطقة. وأما روسيا فتستهدف من حلفها، ليس ضرب المعارضة الأصولية التي تعتبرها مصدراً للإرهاب فحسب، بل ضرب كل ما تسميه معارضة للنظام السوري من أجل حمايته كحليف استراتيجي لها.

2-وأما حول ما يثير التساؤل ثانياً، فهو الدور الإيراني الخبيث، لأنه دور يعمل على تزويج العلاقة بين النقيضين الدوليين، أميركا وروسيا. ومما يلفت الانتباه أن النظام الإيراني، هو عضو فاعل في التحالفين الإثنين المتناقضين:

أ-فهو على الرغم من استبعاده إعلامياً من عضوية التحالف الذي تتزعمه أميركا، فهو حليف استراتيجي لأميركا يعملان على حماية العملية السياسية في العراق بالحماس ذاته، لأن مشروع كل منهما في الوطن العربي مكمِّل لمشروع صاحبه من حيث الأهداف والوسائل. فمن حيث الأهداف تعتمد استراتيجية كل منهما على تقسيم الأقطار العربية إلى دويلات طائفية. ومن حيث الوسائل تعتمد تلك الاستراتيجية على منهج تسعير أوار الاقتتال الطائفي بين المكونات الدينية والمذهبية للأقطار العربية.

بـ-إن النظام الإيراني هو عضو مُعلن وفاعل في التحالف الذي تتزعمه روسيا، وهو التحالف النقيض للتحالف الأول. وتجمعهما أهداف واحدة يتصدرها هدف حماية النظام السوري، بحيث يُعتبر سقوط النظام ضربة نهائية للهدف الروسي في الوصول إلى المياه الدافئة، بما لوجودها فيه من مصالح استراتيجية جغرافية وعسكرية وأمنية. ويُعتبر بالنسبة للنظام الإيراني بوابة رئيسية للتأثير في الملف اللبناني بشكل خاص، وفي المحافظة على حصتها في مشروع الشرق الأوسط الجديد بشكل عام.

لما كان النظام الإيراني بتحالفه مع أميركا المستفيد الأول من احتلال العراق، كما صرَّح المسؤولون الأميركيون على أعلى المستويات، سيكون أيضاً المستفيد الأول من المحافظة على حصته في سورية، سواء أظلَّت موحَّدة، أو باتت مقسَّمة.

ولكن كيف نفسِّر رضا القوتين الأعظم، أميركا وروسيا، عن التحالف مع النظام الإيراني على الرغم من ازدواجية تحالفه مع كل منهما؟

في محاولة منا لتفسير ذلك، نرى أن القوتين الأعظم بحاجة إلى متكآت إقليمية ذات تأثير في الوطن العربي، فمن الطبيعي أن يحتاج كل منهما إلى قوة تأثير النظام المذكور في كل من سورية والعراق. أما هل يدركان ازدواجية دور النظام المذكور؟

نعم، هما يدركان ذلك، ولكن ميكيافيلية المصالح تجمع أحياناً بين متناقضين طالما أن تزويجهما يصب في خدمة تلك المصالح.

نقرأ في الستارة الخلفية لهذا المشهد المركَّب، أن أولوية المصالح هي المكيال الذي يكيل بها اللاعبون على الأرض العربية خطواتهم ووسائلهم. ولكي نقرِّب الصورة أكثر، لنراها بوضوح، علينا أن نحدِّد مجموعة من التناقضات التي تتزاوج على أرض الواقع، فنجد من أهمها ما يلي:

-زواج أميركي – إيراني في العراق، وطلاق بينهما في سورية.
-زواج روسي – إيراني في سورية، وطلاق غير معلن بينهما في العراق.

-طلاق بين أميركا وروسيا في العراق وسورية. ففي العراق طلاق غير معلن. وأما في سورية فليس طلاقاً فحسب بل عداوة وحرب باردة.

من قراءة مشهد اللاعبين على أرضنا، نجد أنهم يتزاوجون ويتطالقون، في مشهد عجيب وغريب على المنطق الإنساني. وعلى الرغم من كل ذلك نجد أن المصالح هي التي تجمعهم هنا، وتفرقهم هناك. ولكن ما نلاحظه أن لكل منهم خطوطاً استراتيجية لا يسمحون لأحد بتجاوزها، ولكن كلاً منهم يتنازل عن الملفات الثانوية إذا كان التنازل يخدم الملفات الاستراتيجية. فهم جميعهم يطبقون قاعدة وضع المرحلي في خدمة الاستراتيجي.

الاستراتيجي والمرحلي في ميزان مصالحنا القومية العربية:

في هذا الواقع المُعاش، والذي نلمسه ونراه ونتذوقه ونسمعه بوضوح، ما يفرض علينا التساؤل التالي: أين تكمن مصالحنا في ظل هذا المشهد المركب، الغريب والعجيب؟ وكيف علينا أن نتصرَّف؟ وهل علينا أن نستفيد من قاعدة وضع المرحلي في خدمة الاستراتيجي كمبدأ ثوري؟

ولأن ما قمنا بعرضه، مما له علاقة مباشرة بالواقع العربي الراهن، يؤكد أن النظام الدولي، بتكالبه على استغلال البشرية من دون رادع أخلاقي أو إنساني، «شرٌّ كله، وشرُّ ما فيه أنه لا بُدَّ منه». وإذا كنا لن نستطيع تغييره، لكننا يمكن أن نخفف من شرِّه. فهل نسطيع ذلك؟

اختصاراً، كانت جمهورية إفلاطون فلتة نظرية في تاريخ الفكر البشري، وهي حلم إذا كان مستحيلاً، فمن الخطأ أن نقتله. ومن الخطأ أيضاً أن لا يكون عند البشرية بدائل أثبتت وقائع التاريخ أن البعض منها أقل سوءاً من البعض الآخر. ولكي نميِّز بين السيء والأسوأ، علينا أن نختار النظام الأقل سوءاً بعد المقارنة بين نظامين دوليين، أحدهما كان نظاماً تعددياً انقرض في بداية التسعينيات من القرن الماضي، والثاني نظام دولي يحكم العالم بقطبية أميركية واحدة ما يزال مستمراً حتى الآن. ولأننا قمنا بمقارنتهما في دراسات ومقالات سابقة، نرى من الأجدى للعالم كله بشكل عام، ولوضعنا العربي بشكل خاص، أن نختار النظام الدولي المتعدد القطبيات.

ولأن الحياة لا تُؤخذ بالأماني، بل تُؤخذ الدنيا غلابا، نرى من العبث أن لا نساعد على استعادة نظام عالمي متعدد القطبيات، خاصة وأن هناك بداية جدية، وفرصة سانحة للقيام بذلك.

والفرصة السانحة الآن، التي انطلقت منذ العام 2011، ماثلة في حالة نهوض روسيا من كبوة غياب الاتحاد السوفياتي، وقد تأكَّدت باستعمال حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يسمح بالتدخل العسكري لمساعدة المعارضة السورية. تلك الحالة لم تكن مؤقتة ولم تكن مرحلية بل أثبتت وقائع أكثر من أربع سنوات أهدافها الاستراتيجية، ولذلك فهي تتصاعد بشكل مستمر، وساحتها الرئيسة ماثل في الدور الروسي في سورية.

ولكل هذا، ولأنه لا نظاماً دولياً متعدد الأقطاب من دون وجود قوة دولية تقف في مواجهة أميركا، ولأن روسيا اليوم هي تلك القوة، نعتبر أن فشلها في تثبيت دورها في سورية والوطن العربي فشل لقيام نظام متعدد القطبيات، وبالتالي استمرار للنظام الدولي الخاضع للمشيئة الأميركية الواحدة. وفي نجاحها فرصة تاريخية لولادة نظام دولي متعدد القطبيات. فأيهما نختار؟

وجواباً على ذلك، واستناداً إلى قوة الأمر الواقع، الذي يجعلنا ملزمين باختيار الأقل سوءاً، لا نجد خياراً أفضل من اعتبار روسيا ذلك الخصم الذي ليس من صداقته بُدُّ.

ولكن:
هل نعتبرها صديقاً من طرف واحد، ومن دون شروط؟

طبعاً، من غير المصلحة العربية أن يعتبر العرب صديقاً كل من لن يكون حريصاً على احترام الثوابت الإنسانية من جهة، واحترام الثوابت القومية العربية من جهة أخرى.

-أما عن الثوابت الإنسانية فعلى روسيا يقع واجب الوقوف إلى جانب الشعوب التي احتُلَّت أرضها، وانتهكت سيادتها، ويأتي في صدارتها القضية الفلسطينية والعراقية. القضيتان اللتان تعرضَّتا لاحتلال غاشم. إذ تعرَّضت الأرض الفلسطينية لاحتلال استيطاني من أجله تمَّ ترحيل الفلسطينيين إلى خارج أرضهم من أجل توطين اليهود الذين أتوا بهم من كل أصقاع الأرض. وأما العراق فقد تعرَّض لأبشع غزو في التاريخ قامت به الوللايات المتحدة الأميركية بهدف تحويله إلى محمية أميركية ووضعه تحت سلطة انتداب أميركي، ولما عجزت عن البقاء فيه بفعل ضربات المقاومة الوطنية العراقية، التفَّت على البقاء فيه بشكل غير مباشر عبر وسيلتين، وهما: تركيب عملية سياسية أثبتت هشاشتها، وتسليم العراق لإيران الذي حوَّلته إلى محمية إيرانية، أي إلى نوع من الاحتلال الاستيطاني عبر عمليات تهجير سكاني، شبيه بعمليات تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهي تعمل الآن على توطين عشرات الألوف من الإيرانيين لتغيير هويته العربية.

-وأما عن الثوابت القومية فيأتي تحرير الأراضي العربية المحتلة في المقدمة منها، لأن العدوان والتدخل والنفوذ الأجنبي في شؤون أمتنا وأقطارها، مرفوض ويجب مقاومته مهما طال الزمن وغلت التضحيات ، سواءا كان أمريكياً أو روسياً أو ما بينهما من تدخلات إقليمية إيرانية أو تركية أو صهيونية أو غيرها .

وقياساً على هاتين المسلَّمتين، أي الخطين الأحمرين، ولأن روسيا نسجت علاقات مع إسرائيل والنظام الإيراني، تقع علىها مسؤوليتين إنسانية وقومية معاً، وهما:

-الأولى: أن تلعب دوراً عبر المؤسسات الدولية من أجل تثبيت الحقوق الفلسطينية، والاستجابة إلى حق الفلسطينيين بتقرير المصير.

-الثانية: أن تدفع بالنظام الإيراني كي يترك العراق لأهله والاعتراف بحقه في تقرير مصيره. فالوجود الإيراني في العراق مكمِّل للاحتلال الأميركي. وطالما اعترفت إدارة أوباما بخطأ احتلال العراق. وطالما الاحتلال غير مشروع كما تنص القوانين الدولية على ذلك، يتوجب على روسيا أن تدفع بحليفها الإيراني وتدعوه للانسحاب من العراق.

ولكي تكون روسيا الصديق، بدلاً من الخصم، عليها أن تحرص على إظهار ما يلي:

-العمل على الإقلاع عن ممارسة السكوت عن مخالفة الدول الأخرى للقوانين الدولية، وخاصة حلفاءها. والحرص على أن لا تكون أقطار الوطن العربي مسرحاً للحروب بالوكالة، تدفع مجتمعاتها ثمناً غالياً من أجل مصالح الآخرين.

-العمل على استعادة التوازن في السياسة الدولية. إذ لا يمكننا أن نفهم النظام العالمي المتعدد الأقطاب إذا لم يُسقِط أو يردع أو يحد من تداعيات سياسة القطب الأميركي الواحد. ولذلك وإذا انحصر الدور الروسي في تفاهمات مع أميركا على توزيع الحصص في أرضنا وثرواتنا، دون القيام بالحد من أطماعها فهذا ما نعتبره نوعاً آخر من الاستعمار الذي يتبادل طرفاه، الروسي - الأميركي، وبالتالي الروسي – الإيراني المصالح على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها. وإذا كانت هي هذه الاستراتيجية الروسية الآن، وبعد الآن، فلن يكون دورها بناء نظام متعدد القطبيات بل هي تبني نظاماً دولياً تتكامل فيه الأطماع بين الدول الكبرى ومن يؤازرها ويشاركها من دول الإقليم، وكل أهدافها هي توزيع الحصص فيما بينها.





الاحد ١٩ محرم ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / تشرين الثاني / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة