شبكة ذي قار
عـاجـل










بعد جولة الحوار الأولى والثانية والثالثة حيث كان الفاصل الزمني سبعة أيام بين الواحدة والأخرى، أرجئ الحوار إلى ما بعد الأضحى، لينعقد في ست جولات على مدى ثلاثة أيام متتالية، علّ الدخان الأبيض يتصاعد من مدخنة مجلس النواب، إشعاراً بحصول التوافق على القضايا التي طرحت كجدول أعمال، ولم يتم الاتفاق على أي منها خلال الدورة الأولى من الحلقات الحوارية والتي توجت بخلوة سداسية لم تثمر عن شيء ملموس أيضاً.

على مدى الجلسات الثلاث، كان كل فريق يستعرض وجهة نظره التي كان يجاهر بها قبل الولوج إلى قاعة الطاولة المستديرة في "قصر" ساحة النجمة .وبقيت قضايا ملء الشغور في الرئاسة الأولى وآلية عمل مجلس الوزراء معلقة، وانتخاب مجلس نيابي مسبوقاً بقانون انتخابي جديد أو متبوعاً به معلقة إلى الجلسات اللاحقة.

على وقع هذه الجلسات التي انعقدت بحضور اثنين وثلاثين مندوباً موزعين مناصفة بين أصيل ورديف، كان الشارع القريب والمحيط "بساحة النجمة" والسراي يعج بحراك شعبي انطلق قبل أن تبادر رئاسة المجلس بدعوتها للحوار. وما بين حراك الشارع المفتوح على الهواء وحوار المجلس المغلق المنافذ، رسمت لوحة سياسية بوجهين. إذ فيما كان المتحلقون حول الطاولة المستديرة يقدمون أنفسهم بأنهم يمثلون كتلاً نيابية وطوائف بحسب طبيعة التركيب البنيوي للمجلس القائم على التمثيل الطوائفي، كان المتحلقون في الساحات العامة يمثلون الطيف الشعبي العابر للطوائف والمذاهب ويرفعون علماً واحداً هو العلم اللبناني.

هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإن الذين اجتمعوا تحت قبة المجلس، ذهبوا في نقاشهم إلى البحث في آلية إدارة الحكم وتناول قضايا ذات طابع دستوري. وكل طرح حول واحدة من القضايا التي اعتبرت جدولاً للأعمال كان يخفي وراءه مطالب فئوية ودعوة لتعديل دستوري، يفصل على مقاس المصالح الخاصة.وأن أياً من القضايا التي حركت الشارع، بدءاً من ملف النفايات لم يطرح على طاولة الحوار، فيما العكس هو الذي طغى على عنوان الحراك الشعبي والذي وضع القضايا المطلبية في سلم الأولويات مرفقاً ذلك بدعوة لإصلاح سياسي انطلاقاً سن قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، بهدف تأمين أرضية لإعادة تكوين السلطة على أساس المواطنة ومدخلها صحة التمثيل الشعبي.

من خلال هذه اللوحة السياسية التي أبرزت اتجاهين مختلفين في مقاربة القضايا وخاصة تلك التي تتسم بالملحة تبين أن القرب المكاني ما بين طاولة الحوار وساحة الحراك، لم يسحب نفسه على التركيب البنيوي وطبيعة الخطاب السياسي. إذ فيما كان المتحاورون يعتبرون أنفسهم شيوخاً في طوائفهم وأن كان بعضهم دون العقد الخمسيني، كان الحراكيون شباباً في إطلالتهم ومن تجاوز عقده الخمسيني كان مفعماً بروح الشباب. وهذا يعني أن الطرفين ينتميان إلى جيلين عمريين ،واحد ينشد إلى الماضي المثقل بقيود المحاصصة وخاصة الطائفية منها، وثانٍ يرنو إلى المستقبل للتحرر من تلك القيود التي أضعفت مقومات الدولة وقوّت ركائز النظام الطائفي.

أما بالنسبة لطبيعة الخطاب السياسي، فإن الذين تحلقوا حول الطاولة المستديرة مارسوا التقية السياسية، حيث أن كل واحد منهم كان يستقوي بحق نقض واقعي لتعطيل الاتفاق على الأوليات الأساسية التي يفرضها حسن سير المرفق العام عبر تفعيل عمل المؤسسات الدستورية وأولها ملء شغورها. وهذا الذي خيم على جولات الحوار كان يحصل عكسه في الشارع الذي كان شديد الوضوح في طرح القضايا ذات الصلة بحياة المواطنين. وقد استطاع الحراك الذي أطلقت شرارته الطريقة التي أدير فيها ملف النفايات أن يحاصر المسؤولين، ليس بمعنى المحاصرة الأمنية وإنما المحاصرة السياسية، التي فرضت نهجاً جديداً في مقاربة القضايا المطلبية الأساسية. وأنه بدون هذا الحراك ما كان لملف النفايات أن يشق طريقه للمعالجة في ظل رقابة شعبية ضاغطة، حدّت من دور حيتان المال والسياسية الموزعين على كل الطوائف ومن صفقاتهم المشبوهة والتي كانت جيوبهم تملأ على حساب إملاء البطون الجائعة والخاوية.

والأمر الشديد الأهمية الذي أفرزته حركة الشارع التي بقيت محافظة على سلميتها رغم ما تعرضت له في بعض الأوقات من تعسف وإفراط في استعمال القوة، إنها لم تبق أحداً فوق الغربال ممن يمسكون في مفاصل السلطة في هذا النظام القائم على المحاصصة الطائفية. فمبدأ المحاسبة يجب أن يطبق على الجميع لإن كل أفرقاء الطغمة الحاكمة غارقون في الفساد والإفساد وكلٌ على طريقته. فمن لم يمارس الفساد في الإدارة مارسها في الصفقات المشبوهة ومن لم يمارسها في ملف النفايات، مارسها في ملف الكهرباء والماء، ومن لم يمارسها بسلة غذاء المواطن مارسها في النظام الصحي، ومن لم يمارسها في التعيينات لحماية مواقع النفوذ مارسها في البلطجة والتشبيح، ومن لم يمارسها في التهريب والتهرب من الضرائب، مارسها في وضع يده على المرافق العامة وخاصة الأملاك البحرية، ومن لم يمارسها في خصخصة القطاع العام عبر قوانين ومراسيم تحمي السارق وتشرع أعماله مارسها عبر خصخصة الأمن، ومعه باتت الدولة مجموعة إقطاعيات يُنهشُ لحمها حتى بدت عارية من أي كساء لا بل أقرب إلى صورة الهيكل العظمي.

هنا كمنت أهمية الحراك، إذ أنه وأن لم يستطع أن يفرض أجندته كلها بسلة الطالب التي طرحها، إلا أنه استطاع يظهَر ثلاثة حقائق.

الحقيقة الأولى : أنه بيّن أن جميع من تناوب على إدارة شؤون الدولة يتحمل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد من تردٍ في الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية والمعيشية، وأن المحاسبة يجب أن تطال الجميع بالمقاضاة والمساءلة الشعبية.

الحقيقة الثانية : أن الحراك الشعبي أخرج القضايا الأساسية التي تتعلق بحياة المواطنين من الأمن الحياتي إلى الأمن الغذائي والمعيشي واستطراداً السياسي من التجاذبات الطائفية والمذهبية وأدرجها في صلب خطاب سياسي يتسم بالبعد الوطني الجامع.

الحقيقة الثالثة : أن الحراك الشعبي والشبابي أساس فيه، أثبت أن غربة شعبية وسياسية قائمة بين الشرائح الاجتماعية التي نزلت إلى الشارع وبين المتحلقين حول طاولة الحوار .وأنهم على رغم قرب مسافة المكان بين ساحة النجمة والسراي، وساحتي الشهداء ورياض الصلح، فإن المسافة كانت بعيدة جداً بين مضمون الخطاب السياسي الشعبي والبيان الرسمي السلطوي وأن مسافة الزمان كانت أبعد، إذ أن الحراكيين كانوا يهتفون للتغيير في العقلية والنهج والمعالجة فيما أطراف الحوار كانوا يعملون جاهدين للبقاء ضمن ضوابط المرحلة التي أنتجتهم وتلذذوا بحلو معطياتها، فيما الغالبية الساحقة من الشعب أكتووا بنارها وغلاء أسعارها وذاقوا مرها.

إذاً، أن هذا الحراك الذي شكل تطوراً نوعياً في المحاكات الشعبية للقضايا الحيوية، وخاطب السلطة الحاكمة من موقع مشروعية المطالب والحقوق التي دعا لتحقيقها وتحصيلها، يجب حمايته من محاولة اختراقه كي يبقى محافظاً على نقائه الشعبي والوطني، كما يجب توفير الحاضنة الوطنية كي لا يطبق عليه ويجهض في بداية انطلاقته. وهنا تكمن أهمية توفير الرافعة الوطنية القادرة على تمكين هذا الحراك من الوقوف على قدميه والثبات في مواجهة التحديات التي يواجهها.

وأما الرافعة الوطنية فهي التي تستحضر في خطابها السياسي العابر للطوائف والمذاهب، عناوين المسألة الاجتماعية وعناوين المسألة الوطنية وتطرح برنامجاً مرحلياً متكاملاً ومتدرجاً نحو التغيير الوطني الديموقراطي وأن المدخل لذلك هو الغاء الطائفية السياسية والتي نص عليها بالأساس اتفاق الطائف.

إن الغاء الطائفية السياسية، يسقط الهويات الطائفية، ويبرز الهوية الوطنية، كهوية واحدة يعرف بها المواطنون. وحبذا لو كان المتحاورون قد بدأوا جدول أعمالهم بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. لكن هل يقدم المرء على الغاء نفسه؟ فالطائفية هي مبرر وجودهم في السلطة وهي مصدر قوتهم وإليها يعودون عندما يجدون الأرض تميد من تحت إقدامهم، وهذا ما شاهدوه عن قرب من خلال الطريقة التي قدم الحراك نفسه من خلالها.

وحتى لا يظن أحد أن الحوار ليس مطلوباً، بل هو مطلوب لكن على شرط أن يكون بيت الأفرقاء المختلفين وليس بين المتوافقين ضمناً والمشبكين ظاهراً .وهذا هو حال الجالسين على طاولة الحوار وهم وأن دعوا إلى استئنافه إلا أنهم لن يصلوا إلى نتائج إيجابية فميا خص القضايا التي رفعها الحراك الشعبي، لأن أطراف الحوار في وادٍ وقوى الحراك في وادٍ آخر، ومن يحمي نفسه من الشعب بالسواتر الشائكة وخرسانات الباطون المسلح لا يستسيغ المواجهة السياسية وجهاً لوجه فكيف يقبل بالمحاورة مع من يقدم نفسه بديلاً موضوعياً له؟ أنها إشكالية غربة الحكام عن شعبهم.





السبت ١٩ ذو الحجــة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٣ / تشرين الاول / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة