شبكة ذي قار
عـاجـل










"إيران برا – برا، بغداد حرة – حرة"، هو الشعار الذي طغى على الشعارات المطلبية التي ظللت الحراك الجماهيري في غالبية محافظات العراق ومدنه. وهذا ما أعطى إشارة واضحة بأن باعث الحراك الشعبي ليس سببه انعدام الخدمات والفساد وسوء الإدارة وهدر المال العام ونهبه وحسب، بل وبدرجة أعلى انعدام الشعور بفقدان الإرادة الوطنية المستقلة في ظل تمادي التدخل الإيراني في كل تفاصيل الحياة العراقية، من القرار السياسي إلى سلة الخدمات المعيشية. ولو كانت الظروف الأمنية مؤاتية، لكان هذا الحراك اتخذ بعداً وطنياً شاملاً، لأن ما يعاني منه أبناء الجنوب والفرات الأوسط هو نفس ما يعاني منه أبناء سائر المحافظات في غرب العراق وشرقه وشماله.

وإذا كان الحراك الشعبي انطلق في جولته الحالية بعد عام ونيف من تطورات الوضع السياسي – الأمني الذي أملى تبديلاً في الإدارة والواجهات السياسية الحاكمة، فلأن الجماهير التي وُعدت بنمطية جديدة في إدارة الشأن العام، لم تقف على تبديل جوهري في السلوكين الأمني والسياسي، وهذا مرده أن التبديل الذي حصل وليس التغيير إنما كان من عجينة "الخلطة" السياسية الجاهزة التي أُعدت في المطابخ الإيرانية والأميركية. وهذا ما كان مقدر له أن يحصل، لأن الطريقة التي كانت تدار بها شؤون العراق، لم تكن تستند إلى طبيعة ونزق الأداء الشخصي فقط، بل كان هذا الأداء محكوماً بالرؤية السياسية التي كانت تحدد ضوابط وآليات العملية السياسية التي أنتجها الاحتلال الأميركي وأناط بقواها إدارة الشق الداخلي من الوضع العراقي.

وعندما حصل التبديل في الأسماء لإدارة الشأن العام من ضمن القوانين والقرارات الناظمة فإن هذا التبديل طال القشور دون المضمون والجذور في ظل العملية السياسية التي أنشئت لأجل محاكات نتائج الاحتلال والتي لا يمكن أن تكون نتائجها إلا على تماهٍ مع غاياته.

فعندما يكون الهدف المركزي للاحتلال، هو تقويض بنيان الدولة الوطنية كحد أقصى وأضعافه حد أدنى، فإن كل سلوك سياسي في إدارة الشؤون السياسية والأمينة والاقتصادية والاجتماعية ينفذ تحت الاحتلال إنما تصب نتائجه في خدمة هذا الهدف وهذا ما حصل، خاصة وأن نقطة الانطلاق كان اتخاذ القرار بحل الجيش العراقي، كواحدة من أهم مؤسسات البنيان الوطني للدولة العراقية. ومن يعمد على حل الجيش العراقي ويشيّد العملية السياسية على هذا الأساس، فهل يقبل أن يعاد تأسيس جيش عراقي على قاعدة قانونه الأساسي وعقيدته الوطنية؟ بطبيعة الحال – لا.

إذاً، فإن كل كلام عن وجود جيش عراقي متشكل بعد الاحتلال، هو كلام لا يلامس حقيقة الواقع القائم، لأن الجيش الذي نسبت إليه هذه التسمية، وتهاوى أمام أول المواجهات الجدية إنما كان جيشاً افتراضياً، وأن ما كان متشكلاً منه، لم يكن سوى تشكيلات ذات طبيعة ميليشياوية طائفية، ملتحقة بمركز التوجيه السياسي للسلطة التي تدار بعقل ميليشاوي.

وما يقال عن المؤسسة العسكرية يقال أيضاً عن سائر المؤسسات ذات الصلة بإدارة الشأن العام وقضايا المواطنين الحيوية وهذا ما جعل الأمن الاجتماعي – الاقتصادي في حال تهديد متصاعد أسوة بالأمن الحياتي والسياسي.

إن العراق الذي يعتبر واحداً من أغنى الدول بثروته النفطية، يعيش أزمة طاقة بكل مشتقاتها، والعراق الذي كانت تغطيه شبكة كهرباء قل نظيرها يعيش في ظلمة مكتوية بحرارة مرتفعة لا تجدي معها الوسائط البدائية لخفض درجاتها.

والعراق بلد الرافدين، ارتفعت نسبة التصحر فيه وضاقت مساحة الأراضي المزروعة ليس بسبب تدني مستوى المتساقطات بل بسبب سوء الإدارة الزراعية والهدر في المال العام، وتحويل الثروة إلى الناهبين الكبار والصغار والى جيوب السماسرة، والطارئين على الحياة السياسية والشأن العام. وأن يتبين، أن نحواً من خمسين ألف منتسب لتشكيلات عسكرية كانوا يقبضون رواتب، وهم تشكيلات وهمية اندرجوا تحت مسمى الفضائيين، فهذا ليس إلا نقطة في اليم العراقي التي شفطت ثروته لإرواء المتعطشين إلى السلطة والذين يمارسون الحكم تحت إمرة الإملاءات الخارجية منذ جيء بهم ليكونوا وكلاء محليين لعملية إفلاس العراق الذي ما جاع أبناؤه في أقسى اللحظات حراجة وصعوبة.

أما أن يقدم رئيس الحكومة على اتخاذ إجراءات قال أنها تندرج في سياق التصحيح والتغيير، فهذه لا تقدم ولا تؤخر في مسارات الوضع القائم، لأن التغييرات في هرمية الإدارة السلطوية، والتبديلات في المواقع الأمنية والعسكرية، إنما تطال أسماء ولا تتطرق إلى نهج قائم فالمشكلة لم تكن مع المالكي كشخص الطارىء على الحياة السياسية، ولا مع زمرته كشلة منتفعة، بل كانت بالأساس السياسي الذي وجه سلوك المالكي ووضع لها السقوف السياسية والأمنية استناداً إلى العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال.

فقبل المالكي، كان آخرون في موقع القرار السلطوي، ولم تكن الحال أفضل، وبعد المالكي، جاء العبادي، ولم تشهد البلاد تطوراً في الاتجاه الإيجابي، بل الأمور ازدادت تعقيداً، والأوضاع المعيشية ازدادت صعوبة، والتدخل في الشؤون العراقية ازداد صلافة. وهذا أن دل على شيء فإنما يدلل على أن المشكلة ليست في الأشخاص وحسب، بل بالأساس السياسي الذي يستند إليه هؤلاء الأشخاص في إدارة شؤون العراق. وعندما يكون مصدر الإرضاع السياسي والفكري هو نفسه عند الذين استبدلوا بأخرين، وعندما يكون الجدد هم نسخة وأن كانت منقحة عمن سبقهم، فلا رجاء من إصلاح ولا من تغيير، وكل ما في الأمر أنه دوران حول الذات وفي حلقة مفرغة. فطالما أن الاحتلال قائم، ومعه التدخل الإيراني الذي يرتقي بنتائجه حد الاحتلال، وبخطورة أشد من خلال سعيه لتطييف ومذهبية الحياة الاجتماعية وخلق واقع انشطاري عامودي في البنى المجتمعية العراقية، فستبقى الإرادة الوطنية العراقية مسلوبة ومستلبة، وستبقى ثروة العراق تهرب إلى المحتلين والناهبين والمتاجرين بدم العراقيين. وفي هذه الحال، سيبقى العراقي وفي أي محافظة كانت مفتقراً لسلة الخدمات الأساسية، ومحروماً من أبسط الضرورات الحياتية وهو أصلاً لا يعود يشعر بأمن وطني ولا بأمان اجتماعي، كونه يعيش تحت وطأة الانكشاف الوطني والافقار الاجتماعي كنتيجة حتمية للاحتلال وتداعياته.

من هنا، فإن الهتافات التي تطلقها جماهير العراق، هي صرخة ألم وطني، وهي صرخة وجع اجتماعي، والتخلص من الألم ليس عبر المعالجة بأسلوب المسكنات، بل بالعملية الجراحية التي تستأصل هذا الورم الخبيث الذي يستوطن الجسد العراقي من الاحتلال الأميركي إلى نظيره الإيراني وكل التشكيلات الطائفية والمذهبية التي تمارس الإرهاب المادي والتكفير الديني ومن أي جهة كانت.

على هذا الأساس، أن الحل لأزمة العراق بما هي أزمة وطنية اجتماعية اقتصادية هي بإنتاج عملية سياسية جديدة كبديل للعملية السياسية التي أوصلت العراق إلى ما هو عليه من تردٍ في أوضاعه العامة، وأن المدخل لهذه العملية هو استحضار عناوين المسألة الوطنية في الحراك الشعبي، وأن ما يبشر خيراً، ان الجماهير المنتفضة أشرت بوضوح على مصدر الخطر الفعلي الذي يهدد العراق بصوت مدوي إيران برا- برا.

ومن يحاجج بالبديل السياسي، فهو جاهز، وهو الذي طرحته قوى الفعل الوطني المقاوم وحددت مفاصله الأساسية، عبر إعادة إنتاج عملية سياسية، لا مكان فيها للاجتثاث والاقصاء وتكون عبر إعادة تأسيس الجيش الوطني على قاعدة قانونه الوطني، وتشكيل حكومة من كفاءات وطنية مستقلة، وتشكيل لجنة خبراء لوضع مسودة دستور جديد، يطرح على الاستفتاء الشعبي ومن ثم تجري انتخابات تشريعية ويعاد تشكيل السلطة على أساس وطني، لا مكان فيها للمحاصصة الطائفية ولا للغبن الاجتماعي وتكون المواطنة هي الأساس في تحديد الهوية الوطنية.

أما إذا استمر التجاهل لهذه الحقيقة السياسية، وبقيت المعالجات تتناول الشكليات دون الأساس السياسي، فإن أمور العراق ستسير نحو مزيد من التفاقم والتردي. وإذا كان من هم في موقع السلطة بكل شبكة علاقاتهم والاملاءات السياسية التي تضبط حراكهم يظنون أنهم بتجاهلهم للعطيات الموضوعية التي أفرزتها عملية مقاومة الاحتلال الأميركي ومعه الإيراني وكل القوى الميليشاوية المذهبية وقوى الترهيب الديني والسياسي قادرون على حكم العراق بمعزل عن القوى التي تصدت للاحتلال وأخرجته وهي تقاوم إفرازاته واستعادة دوره، فإنما هم واهمون ولسبب بسيط، هو أن قوى الفعل الوطني المقاوم هي صاحبة المشروعية السياسية والوطنية وهي التي تعبر عن مكنون الإرادة الوطنية وهي التي لها الحق بحكم البلاد بعد تحريرها، وهي إذ تقبل المشاركة، فهي إنما تقدم مبادرة سياسية تلبي الحاجة الوطنية وتحقق الامتلاء الوطني وتمكن شعب العراق من أن يقبض على مصيره الوطني ويضع يده على ثروته الوطنية والتي هي حق طبيعي له. وعلى من يحاول تجاهل هذه الحقيقة عليه أن يقرأ جيداً ما تعنيه شعارات إيران برا – برا بغداد حرة حرة وقبلها الشعارات التي أطلقها الحراك الشعبي عقب الانسحاب الأميركي.

إن حرية بغداد مرهونة بإخراج إيران من فضائها السياسي ومن باطنها المجتمعي كما إخراج المحتل الأميركي وهذا ما رمت إليه هتافات الجماهير في ساحة التحرير.





الاربعاء ١١ ذو القعــدة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / أب / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة