شبكة ذي قار
عـاجـل










مع حلول الخامس والعشرين من تموز 2015، يكون قد انقضى أربعة عشر شهراً على خلو سدة الرئاسة الأولى، وحتى هذا التاريخ لم تفلح الدعوات لعقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية بالنصاب الدستوري المطلوب لانتخاب الرئيس.

هذا الشغور في موقع الرئاسة الأولى، انعكس على أداء سائر المؤسسات الدستورية وخاصة مجلسي النواب والوزراء. فما بين وجهة نظر تعتبر أن المجلس النيابي ومنذ اللحظة التي يصبح فيها اجتماعه حكمياً لانتخاب رئيس، يتحول إلى هيئة ناخبة، ولا يمكنه بالتالي ممارسة إحدى وظيفتيه الأساسيتين ألا وهي التشريع، ووجهة نظر أخرى تعتبر أن للمجلس هذه الصلاحية حتى ولو كان موقع الرئاسة شاغراً عملاً بمبدأ الفصل بين السلطات، كون الدستور لحظ إمكانية خلو سدة الرئاسة وانتقال الصلاحية وكالة إلى مجلس الوزراء، أصبح المجلس النيابي الممدد له بحكم المعطل واقعياً، والإصرار على عقد جلسات له تحت عنوان تشريع الضرورة، أن حصل، فإنما يحصل بعد شد وجذب ومماحكة تغلف بتبريرات دستورية فيما هي في الواقع تستبطن مواقف سياسية.

هذا الشغور في سدة الرئاسة، والتعطيل الواقعي في أداء المجلس النيابي، أديا إلى بروز أزمة حادة على الصعيد الحكومي ،بحيث باتت الحكومة في حكم المغلولة اليد عن ممارسة دورها في إدارة السلطة التنفيذية.

هذه الأزمة التي بات لبنان ينوء تحت أعبائها لم تعد مشهدياتها تقتصر على عنوان واحد بل باتت تشمل كل ما له علاقة بالشأن العام وسائر الخدمات التي تتناول حياة المواطنين.

فمن ملف التعيينات في الإدارة العامة، إلى ملف التعيينات الأمنية، ومن ملف التفلت الأمني وازدياد عمليات الخطف لأسباب سياسية وأمنية أو للابتزاز والخوات والفدية، إلى ارتدادات الصراع المتفجر في سوريا على مجمل الوضع اللبناني، سياسياً واجتماعياً وإنسانياً واقتصادياً، جاء ملف النفايات ليغرق البلد بأكوام الزبالة، والذي اضاف إلى الاختناق السياسي الناتج عن تلوث البيئة السياسية اختناقاً جديداً من جراء التلوث البيئي.

هذا الواقع المأزوم، وأن فتحت قنوات تنفيسية لاحتقاناته، فهو مرشح للاستمرار في ظل معطى الوضع السياسي القائم، حيث يسعى كل فريق من طرفي الاستقطاب الأساسيين، لتطويع الوضع القائم بما يلاءم استهدافاته الأساسية ولو كان ذلك على حساب الأمن الحياتي والمعيشي والاجتماعي للمواطن. وقد بدا ذلك واضحاً من خلال إثارة التعقيدات في وجه الحكومة تحت ذريعة التفسيرات المختلفة للصلاحيات خاصة تلك التي انتقلت إلى مجلس الوزراء وكالة في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت.

إن المادة ( 62 ) من الدستور نصت على أنه في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء. والحالات التي تخلو فيها سدة الرئاسة وأن لم تحدد حصراً بنص دستوري إلا أنها تختصر بأربع: ( 1 ) وفاة الرئيس ( 2 ) استقالته ( 3 ) كف يده سنداً للمادة ( 61 ) والتي تنص على كف يد رئيس الجمهورية عندما يتهم وتبقى سدة الرئاسة خالية إلى أن تفصل القضية من قبل المجلس الأعلى، والاتهام يكون بحرم خرق الدستور والخيانة العظمى ( 4 ) عدم انتخاب رئيس في الموعد الدستوري.

وعليه فإن خلو الرئاسة حالياً يقع تحت البند الرابع والتي ما تزال مفاعليها مستمرة حتى الآن ،ويبدو أنها مفتوحة على المستقبل طالما بقي التجاذب قائماً، وطالما بقي البعض ينتظر المتغيرات الخارجية أملاً بانعكاساتها على الداخل اللبناني بما يخدم أجندة أهدافه الخاصة. ولهذا بدل أن تعمل القوى الممسكة بمفاتيح التأثير السياسي على تقديم التسهيلات المتقابلة، رفع بعضها بوجه البعض الآخر التعقيدات المتبادلة ومعه بات التعطيل هو الناظم للحياة السياسية والأداء الإداري.

لقد ترك ذلك آثاراً سلبية على تسيير خدمات ومصالح المواطنين الذين يكتوون بفواتير الكهرباء والماء وكساد المواسم الزراعية بسبب انسداد طرق التصدير، وأخيراً وليس أخراً، الغرامات المرتفعة على مخالفات السير وبما يدلل على أن الذين شرعوا هذا القانون وأسرعوا في تطبيق أحكامه من لجنة الأشغال النيابية إلى كل المسالك التي عبرها كي يصبح نافذاً، إنما يعيشون في عالم افتراضي يتناقض كلياً مع حقيقة الواقع القائم. وهذا ما ينطبق أيضاً على قانون الإيجارات الذي صدر في ظل فوضى تشريعية ومُرر في اللجان والهيئة العامة بضغط من مافيات السوق العقاري، وهو اليوم بات مشكلة فيما المطلوب أن يكون حلاً تراعي أحكامه مصالح الشريحة الأوسع من الذين يخضعون لأحكامه والمقصود بذلك شريحة المستأجرين.

إن هذا التخبط السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم يشهد لبنان مثيلاً له منذ سبعة عقود. وإذا كانت العوامل الخارجية تشكل أسباباً جوهرية في إنتاج هذا التخبط العام باعتبار لبنان يقع على خط تقاطعتها، إلا أنه لا يمكن إعفاء الأطراف الداخلية من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وهذه المسؤولية وان كانت تتفاوت نسبتها بين طرف وآخر إلا أنه لا يمكن إعفاء أحد منها.

من هنا، وأمام هذه المشهدية التي تخيم على الواقع اللبناني، فإن الحؤول دون تمادي الانحدار السياسي وما له من انعكاسات اجتماعية واقتصادية، هو أن يدرك الجميع، بأن هذا البلد لا يمكن كسر توازناته بالاستناد إلى فائض القوة الظرفي، وأن كل من يحاول كسر هذه التوازنات باستغلال معطى اللحظة الراهنة بعناصر قوتها وضغطها، إنما يؤسس لمعطى أزمة جديدة، وبالتالي فإن الحلول التي توفر فسحة من الأمان السياسي هي التسويات الوطنية التي تنشد إلى هدف مركزي واحد، ألا وهو تقوية الدولة وليس إضعافها. وهذا ما يتطلب من الجميع الدخول في مشروع الدولة بكل تعبيراته الأمنية والسياسية والاجتماعية. وعندما يدخل الجميع في مشروعها ، تفتح المناطق على بعضها البعض، وتسقط الفئويات الأمنية، وتسقط كل سلطات الأمر الواقع، وهذا لا يشكل استجابة لحاجة شعبية وحسب، بل يحد من حالة الانكشاف الوطني، ويرد على أصحاب المخططات المشبوهة الذين يعملون لإسقاط مقومات الدولة الوطنية ومؤسساتها الارتكازية وخاصة مؤسسة الجيش الوطني.

على هذا الأساس، يجب الإسراع في إعادة تفعيل المؤسسات الدستورية وأولها ملء الشغور في الرئاسة الأولى عبر النزول إلى المجلس النيابي وتأمين نصابه الدستوري. وبطبيعة الحال فإن من سيفوز سيكون محصلة تسوية، وهو بات أمراً ملحاً بعدما اختبر عقم أسلوب مقاطعة الجلسات وما ترتب على ذلك من نتائج سلبية على أداء سائر المؤسسات التشريعي منها والتنفيذي والقضائي والأمني.

اما إذا بقيت الرؤوس الحامية مصرة على مواقفها في تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، فالتعطيل ستزداد إثارة السلبية على أداء المجلس النيابي، ومعه مجلس الوزراء حيث البدعة الدستورية التي اعتمدت تفسيراً للصلاحية وكالة، شكلت تعقيداً مقصوداً لجعل الشلل يطال كل مؤسسات الحكم، وبالتالي دفع البلاد إلى الوقوع تحت تأثير الفراغ الشامل، وبما يوفر مناخاً لعقد مؤتمر تأسيسي لإعادة إنتاج نظام دستوري بديلاً للطائف الذي لم تنفذ غالبية نصوصه الإصلاحية.ولهذا فإن الذين يضعون العصي في دواليب الحكومة تحت ذريعة حفظ الصلاحيات، إنما يدفعون باتجاه الإفراغ الشامل للمؤسسات الدستورية من صلاحياتها. وهذا ما يجب أن يقاوم وعلى الأقل على مستوى الموقف وبدءاً من كل الذين ما زالوا يقاومون الوصول إلى الفراغ الشامل. والمدخل الفعلي لمواجهة الذين يحفرون تحت أساسات الدولة بغية تقويض أسسها، هو تسمية الأشياء بمسمياتها، وعدم المواربة في مقاربة الأمور وإعادة قراءة النص الدستوري، قراءة واضحة وبخلفية وطنية، وعلى الأخص حدود الصلاحيات لمن يتبوأ موقعاً دستورياً في هرمية السلطة.

وإذا كان المشرع، لم يتوقع أن يصل الشغور في رأس السلطة هذا المدى الزمني الطويل، وقد حصل، فإن الحؤول دون بروز الإشكاليات التي ترافق عمل مجلس الوزراء، هو التأكيد، بأن صلاحية الرئاسة التي تنتقل إلى مجلس الوزراء وكالة، إنما تنتقل إليه بصفته مؤسسة دستورية وليس بصفته مجموعاً عددياً. وعليه فإن ممارسة صلاحية الرئاسة التي يمارسها مجلس الوزراء هي نفسها التي يمارسها سنداً للمادة 65 من الدستور. وأن صلاحية رئيس الوزراء المحددة نصاً في المادة ( 64 ) حددت بشكل واضح أن رئيس المجلس هو الذي يدعو المجلس إلى الانعقاد ويضع جدول أعماله وكل ما في الأمر أنه يطلع رئيس الجمهورية والوزراء مسبقاً على المواضيع التي يتضمنها جدول الأعمال. وأنه في غياب رئيس الجمهورية، فحق الوزراء هو الإطلاع فقط، وأن صلاحية مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية عندما يمارس صلاحيات رئاسة الجمهورية وكالة باستثناء تلك اللصيقة بشخص الرئيس، لا تجعل الوزير جزءاً من رئاسة الجمهورية. وبالتالي فإن كل زعم عكس ذلك هو بدعة ،وكل تمسك بهذه البدعة يندرج ضمن آليات التعطيل. وإذا كان هذا الشغور الذي حصل قد أدى إلى استيلاد أزمة قوية، فإن تجاوز مثل هذه الاشكاليات في المستقبل ممكن عبر تعديل المادة 62 من الدستور بحيث تنتقل صلاحيات رئيس الجمهورية في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت إلى رئيس المجلس الدستوري، وهذا الحل معمول به في كثير من الدول.

وحتى يحصل مثل هذا التعديل، أن حصل، يجب إعادة الاعتبار للقواعد الدستورية ، عبر التقيد بها أن كانت واضحة وإلا بروحيتها أن كانت ملتبسة، وبذلك يحال دون تطويع النص الدستوري وفقاً للإسقاطات والأهواء والمصالح السياسية.

إن النص الدستوري هو الناظم العام للدولة والتقيد به يزيل الاشكالات والالتباسات.واما الالتفاف عليه فإنما يحوله الى مشكلة بدل ان يكون حلاً. وكفى ما ينوء تحته لبنان من مشاكل، والمهم ان يقرأ الكتاب بروحية الموقف المسؤول، وليس بخلفية المشاكسة والتجاذبات السياسية.
 





الجمعة ٨ شــوال ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / تمــوز / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة