شبكة ذي قار
عـاجـل










زيارة السير رونالد ستورز للنجف :
وبعد أن استقر وضع الانجليز باحتلال بغداد ، زار بغداد رجل من رجالات الانكليز الذين كان يتألف منهم "المكتب العربي" في القاهرة، المشرف على شؤون الاستخبارات البريطانية الخاصة بالبلاد العربية جمعاء، وهو ( السر رونالد ستورز ) الذي تعين فيما بعد حاكماً في القدس بمعية ( هربرت صموئيل ) المندوب السامي الصهيوني في فلسطين بعد احتلال الانكليز لها، وأصبح بعد ذلك حاكماً عاماً في قبرص حينما نفي إليها الملك حسين على أثر إبعاده عن الحجاز، وفي روديسيا الشمالية كذلك. وكان الجنرال ستورز، وهو ملم بالعربية تمام الإلمام، قد زار النجف في 19 مايس 1917 قادماً من كربلاء فاتصل ببعض وجوهها وعلمائها، ودوّن في كتابه المعروف بأشياء مهمة عنها في هذا الدور

( Sir Ronald Storrs - Orientations, London, 1945. -1

فهو يبدأ بوصف الطريق ما بين كربلاء والنجف ويقول انه كان طريقاً سهلا،وبعد أن تجاوز منتصفه مع صحبه بانت له من بعيد القبة المذهبة وهي تتوهج بلمعانها في نور الشمس. وحينما وصل إليها بعد الظهر وخرج الألوف لاستقباله على ما يزعم، لاسيما وقد كانت الأسواق مغلقة بمناسبة حلول يوم المبعث [ أغلب الظن إن يوم وروده كان يوم ذكرى وفاة النبيّ أو أحد الأئمّة وإلاّ فلم تجر العادة في إغلاق الدكاكين في الأعياد ] .

وقد مر بعد ذلك في السوق المؤدية إلى العتبة المقدسة، ومن هناك توجه إلى دار السيد عباس الكليدار. و يأتي على وصف البيت فيخص بالذكر منه السرداب الكبير الذي تنخفض الحرارة فيه بمقدار عشر درجات عن الخارج. وحينما صعد وقت الغروب إلى سطح الدار القريبة من الحضرة المطهرة شاهد منه القبة والمآذن وبرج الساعة في الصحن عن قرب، وصوّر مناظر عدة من هناك على ضوء الشمس الغاربة، ثم استراح حتى دقت الساعة مشيرة إلى الثانية عشرة غروبية. وقد تذكر حينذاك ساعة كمبرج أو "بيك بين" المشهورة. و بعد أن مل من مقابلة أعضاء المجلس البلدي وكبار الشيوخ على حد تعبيره ذهب إلى الفراش في التاسعة والنصف.و قد استدعى إليه في صباح اليوم الثاني ( 20 أيار ) تجار الحرير والسجاد، ثم أحضر " فتّاح الفال" الذي نفحه بعشر روبيات، برغم عدم براعته في مهنته.

وتحدث مدة من الزمن مع الشيخ هادي [ المقصود به السيد هادي زوين ] ، أحد شيوخ الجعارة ، فأنبه على ما كان يسمع عنه من تهريبه الطعام والأرزاق بواسطة عشائره إلى ابن رشيد حليف الأتراك في نجد، وهو يقول أنه فاتح شيوخ العشائر الآخرين بالموضوع نفسه وهددهم. وقد توجه إلى الكوفة على أثر هذا فقصد مع جماعته دار علوان الحاج سعدون، شيخ بني حسن، الذي يسيطر على الطريق الممتد من النجف إلى المسيب على حد تعبيره. وقد حرضه خلال حديثه معه هناك على مهاجمة ابن رشيد ونهب العشرة آلاف جمل التي يملكها فتعهد هو ومن كان معه من الشيوخ الآخرين على تنفيذ ذلك..

وبعد تناول الغداء مروا بجامع الكوفة وشاهدوا ما فيه من آثار ومواقع مهمة، وفي معيتهم السيد عباس الكليدار، ثم عادوا إلى النجف ليرتاحوا في السرداب البارد. وفي الساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم توجه السر ( رونالد ستورز ) مع رفيقه المستر ( غاربوت ) ، لزيارة العلامة الأكبر السيد كاظم اليزدي الذي يمتد نفوذه من العراق إلى أصفهان.

ويذكر ستورز في هذا الشأن أن الإنكليز لم يكونوا مطمئنين من موقف السيد تجاههم، وانه كان قد رفض مبلغ المائتي باون الذي قدم إليه على سبيل الهدية من قبل. وكان المستر غاربوت الذي رافقه في السفرة من بغداد قد طلب إليه في هذه المرة أيضاً أن يتحايل على السيد اليزدي فيقدم له رزمة بألف باون هدية من الحكومة. فاستثقل هذه المهمة الصعبة، وكلف السر ( رونالد ستورز ) نفسه بأن يتولى المهمة عنه، فقبل بتحفظ. ودس الرزمة في جيبه ثم توجها إلى دار السيد، وهناك انتظر برهة من الزمن في خارج حجرته ريثما يخبر بحضورهما. فخرج لهما، وإذا به رجلا متقدماً في السن يلبس "زبوناً" أبيض ويعتمر بعمة سوداء وقد تخضبت لحيته وأظافره بحنة حمراء لمّاعة. فحياهما من بعيد وأجلسهما على الحصيرة بجنبه خارج الحجرة.
ويقول ( ستورز ) بعد أن تبحر في وجه السيد أنه أدرك في الحال السر في شهرته ونفوذه. فهناك قوة في سيمائه الواضحة وعينيه الرماديتين المتعبتين، وسلطان في وجوده وحديثه الخافت مما لم يجد له مثيلا في أي مكان آخر من بلاد المسلمين.

ويذكر كذلك أنه بعد أن أثنى عليه وعلى مواقفه المشرفة، أخذ يسأله عما إذا كان هناك أي شيء يريد أن يفعله الإنكليز له فبادره بقوله "حافظوا على العتبات الشريفة، حافظوا على العتبات الشريفة". فاعتبر ( ستورز ) أنه يقصد بذلك المحافظة على العتبات ومن فيها من جماعة العلماء والمجتهدين بوجه عام. ثم عاجله السيد بجملة أخرى طلب إليه فيها أن لا يعينوا في المدن الشيعية إلاّ الموظفين من أبناء الشيعة،وأن يطلقوا سراح بعض الشيعة الذين كانوا معتقلين ومنهم الدكتور مظفر بك، وأن يعينوا الميرزا محمّد ( وهو المحامي محمّد أحمد الموجود آنذاك في البصرة ) قائمقاماً في النجف ( كان الميرزا محمّد قد اشتغل مع الانكليز قبل الحرب في منطقة الخليج، وجاء مع الحملة إلى العراق فعين معاوناً للحاكم السياسي في كربلاء. ) .

وفي هذه المرحلة بدا السيد اليزدي للسر ( رونالد ) وكأنه قد نزل من عليائه بعض الشيء، لأنه أنعم عليه كما يقول بجملة ثناء أعقبها بكلمة فارسية خاطب بها عالماً آخر كان موجوداً في مجلسه، وقد علم بعد ذلك أنه قال له إن الأتراك لو كانوا يسلكون مثل هذا السلوك لما أضاعوا تعلق العرب بهم مطلقاً. فما كان من السر إلاّ أن يعده بنقل توجيهاته ومشورته هذه إلى السير بيرسي كوكس في بغداد. وبعد تردد وإحجام طلب إلى السيد أن يختلي به وحده لمدة ثلاث دقائق فقط، ثم ذكّره بوجود عدد لا يحصى من الفقراء الذين كانوا ينظرون إليه في إعاشتهم على الدوام، واسترحم منه بأن يمد يد المساعدة للانكليز في هذا الشأن. وحينما مد ( ستورز ) يده لتقديم رزمة الباونات إلى السيد في هذه الأثناء دفع السيد الرزمة برفق مقرون بالعزم الأكيد وهو يعتذر عن قبولها. فلم يجد ( ستورز ) من اللياقة الإلحاح على تقديمها، وعمد إلى فتح موضوع الشريف معه، وهو يقول إن السيد كان من المعجبين ( بالشريف ) والمؤيدين له، وبعد ساعة انقضت على هذا المنوال عزم السر ( رونالد ) على توديع السيد والعودة إلى المنزل، غير أنه قبل أن يفعل ذلك حاول تقديم الألف باون مرة ثانية إليه، لكنه رفضها من جديد بكل مجاملة وأدب. وهو يعتقد إن الشيء المهم الذي كان يعبأ به السيد هو الأنفة والإباء لا المال، وأنه لابد أن يخضع في الأخير بطريقة مناسبة حينما يكون الدافع لذلك شيئاً لا مطعن فيه. و هذا موقف بعيد تمام البعد عما يحدث في مصر والحجاز في ظروف مماثلة على حد تعبيره.

وحينما عاد ستورز بعد ذلك إلى منزل مضيفه السيد عباس الكليدار طلب إليه أن يشاركه في تناول العشاء ويضحي بآداب المجاملة التي تدعوه إلى الوقوف في خدمة الضيف في أثناء الطعام وهو يذكر بإعجاب إن السيد عباس وقف بعد ذلك للعناية بتقديم العشاء للسواق أيضاً على المائدة نفسها. ثم آوى إلى فراشه بعد مدة وقضى ليلة خالية من النسيم تماماً فوق السطح، وقد تسنى له خلالها أن يعجب بالهدوء التام والصمت الغريب الذي كان يلف النجف ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد منتصف الليل وقبيل الفجر كذلك.

وقد غادر السر ( رونالد ) النجف صباح اليوم الثاني ( 21 أيار 1917 ) بعد أن وزّع حوالي مئة وخمسين روبية على الخدم فيها. فمر عند خروجه منها إلى طريق كربلاء بالمقابر التي يدفع فيها الناس ستين باون لقاء السماح لهم بدفن موتاهم وهو يقول انه سرّ تمام السرور لأنه ابتعد عن ضيق البيوت التي كانت تحتشد بالخمسين ألف نسمة من سكانها المحصورين بين جدرانها الضيقة من دون أن تتهيأ الفرصة لأن يقع نظرهم على أي نبات أخضر أو تشم أنوفهم الهواء النقي. [ النجف في المراجع الغربية من نشريات من ترجمة وإعداد المؤرخ العراقي الأستاذ جعفر الخياط ] .

للدراسة شهادات ومراجع وإحالات وهوامش كاملة
 





الاربعاء ٢٨ رمضــان ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٥ / تمــوز / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب إعداد ا. د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة