شبكة ذي قار
عـاجـل










غرقت المس بيل في سياسة العراق من أذنيها إلى أخمص قدميها ، كانت في حركة مستمرة من الاجتماعات السياسية، كما حرصت على الاستحمام في نهر دجلة إلى صيد القطا إلى مطاردة الغزلان في الصحراء إلى الزيارات المتكررة لشيوخ العشائر، تجالسهم، وتقيم معهم الصداقات، وتلقى بالنكتة البارعة إثر النكتة، فيضحكون ويستلقون على ظهورهم.

تلك المستشرقة، الجاسوسة، التي غالى احدهم من العراقيين فأطلق عليها لقب " أم المؤمنين"، وهي التي أسهمت مع الجاسوس لورنس بإقناع ونستون تشرشل عندما كان وزيرا للمستعمرات في مؤتمر القاهرة آذار 1921 بترشيح الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكا على العراق ، وهو الذي كان يخاطبها ( أختي ) ، ولما وصل الأمير فيصل بن الحسين إلى البصرة كانت في استقباله، وتم التصويت له ومبايعته ملكا على العراق، فكان نجاحها باهراً، ونصب فيصل الأول ملكا على العراق في 23 آب / أوت 1921، ولم تتوان المس بيل عن الحضور إلى محفله وهو يخطب في ساحة وهي تركب فرسها قادمة بسرعة وبحركة تلفت الأنظار إلى مقدمها.

ومن طرائف تسمية الانجليز والشفاعة عندهم بتسمية ( أبو ناجي ) جاءت من الكرادة الشرقية، حيث كان هنالك مُزارع في الجادرية أسمه ( ناجي اللامي ) ، تعرفت إليه ( المس بيل ) ، وكان الناس يلتمسونه لقضاء بعض أمورهم التي تحتاج إلى موافقة الانكليز، وكان يقضيها لهم بحكم علاقته بــ ( المس بيل ) ، ولهذا أُطلق العراقيون على الانكليز اسم ( أبو ناجي ) . ولا يزال أولاد وأحفاد الحاج ناجي يملكون بعض البساتين والأملاك في الجادرية ومنهم ( علي اللامي - صاحب أسواق ومأكولات علي اللامي ) والدكتور فاضل اللامي ( دكتوراه زراعة ) وطبيب آخر ، وآخرون.

كان ارنولد ويلسن قد عهد إلى المس بيل خلال عملها معه بوضع تقرير شامل عن الوضع العام في العراق وما وقع فيه من أحداث منذ الاحتلال البريطاني، فأعدت تقريرا مفصلا بعنوان عرض للإدارة المدنية في العراق، لقي هذا التقرير اهتماما زائدا، واحدث ضجة كبيرة، وقدم إلى كلا من مجلسي العموم واللوردات، ونشر بعدها ككتاب ابيض رسمي، يتناول تفاصيل كثيرة عن أحوال العراق في تلك الفترة، وأضحى بعدها مرجعا تاريخيا عن تلك الفترة الزمنية من تاريخ العراق، وقابلته الصحافة البريطانية حينها بثناء واستحسان، وعلقت عليه إحدى الجرائد بقولها: وأخيرا أصبح بوســــع امــرأة أن تدبج كتابا ابيض كهذا.

ومنذ نصب فيصل الأول على عرش العراق، وهو قرار كان للمس بيل دور كبير في تبنيه، لم يتمتع احد بثقته مثل تلك المرأة الانكليزية التي كان يدعوها: ( أختي ) ، وفي كثير من ساعات الأزمات كانت هي الوسيطة المقبولة في تسهيل الاتصالات السرية بين دائرة المندوب السامي والبلاط الملكي. أما في الأوقات الاعتيادية فكان عملها بصورة رئيسية متصلا بشؤون العشائر. على انه لم تكن هنالك أية قضية إدارية لم يستعن فيها فيصل الأول ورجاله، والمندوب السامي وأعوانه، بمعونتها، وكانت معرفتها بالبلد وسكانه تفوق معرفتهم دائما.

وكان من جملة واجبات مس بيل، بوصفها السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد، إعداد تقرير استخبارات نصف شهري تضمنه كل أحداث البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يدور على ألســــنة الناس من إشاعات، وما يتحدث به الناس في المقاهي والأسواق، أو تردده النسوة في مجالسهن، وتحاول إعطاء صورة واضحة لاتجاهات الرأي العام العراقي وانطباعاته خلال أسبوعين.

وهذه التقارير محفوظة جميعا في مركز الوثائق العامة بلندن وفي مكتبة المتحف البريطاني، وبإمكان الباحثين والمؤرخين الاطلاع عليها بسهولة. وبعد أن تطلب إلى أبيها إرسال بعض الحاجيات تقول: هل تعلم يا أبي ماذا يسمونني هنا؟ أم المؤمنين. وآخر من كان يلقب بهذا اللقب هي عائشة زوجة الرسول. وهكذا ترى لماذا لا استطيع أن اترك هذا البلد.. . وكانت غيرترود بيل يوم وصولها إلى العراق في الثانية والخمسين من عمرها، وكانت امرأة نحيفة جدا، ولم تكن من النوع الذي يميل إليه الرجال العراقيون، وخاصة في ذلك العهد، لنحافتها المفرطة، ولكن أثرها فيهم كان مع ذلك كبيرا بسبب شخصيتها القوية ولباقتها وحركتها الدائبة، وكانوا يخاطبونها قائلين: خاتون، حتى أصبح ذلك لقبا لها تعرف به، فإذا تحدثوا عنها قالوا: الخاتون، وكانت ألف لام التعريف تغني عن ذكر اسمها.

كان بيتها موئل كثير من الرؤساء والأعيان، كما زارها وتناول العشاء معها الملك فيصل الأول غير مرة. وكان من أكثر رؤساء العشائر ترددا عليها: فهد الهــــذال، شيخ مشايخ عنزة، وعلي السليمان، شيخ الدليم، وحسن السهيل، شيخ بني تميم. وكان لها أصدقاء من الوجهاء المحليين، أقربهم إلى قلبها الحاج ناجي في الجادرية، وجعفر عطيفة في الكاظمية، وفائق بك ( والد المرحومين ماهر فائق وباهر فائق ) في الفحامة.

وكانت المس بيل كلما ضاق صدرها، أو رغبت في القيام بنزهة، قصدت احدهم في بستانه بسيارة أو زورق بخاري أو على صهوة جوادها الذي كانت تحتفظ به في إسطبل صغير في حديقة دارها. وكانت غيرترود تأنس إليهم بعيدا عن جو عملها اليومي والموضوعات التي تشغلها، وقد تردد ذكرهم كثيرا في رسائلها.

ولم يكن مجتمع بغداد في ذلك الوقت قد تعود اختلاط الجنسين، ولم يكن من المألوف لدي الناس أن تسلك امرأة مثل سلوكها، أو تمارس مثل نفوذها، أو تشغل مثل منصبها. ولذلك أصبحت ( الخاتون ) موضوع أحاديث الناس في المقاهي والدواوين والبيوت. فهي تسير سافرة في الشوارع، وتحيي الرجال، وتزورهم في بيوتهم ومكاتبهم الرسمية، وتستقبلهم في بيتها.

وعلى الرغم من كونها في العقد السادس من عمرها لم تنج من بعض أقاويل السوء التي نشرت عنها. وصار الناس يتحدثون عن علاقات لها مع هذا الرجل أو ذاك من الشخصيات العراقية أو البريطانية.

كانت مس بيل في البداية ضابطة استخبارات مع جيش الاحتلال، ثم أصبحت سكرتيرة شرقية للمعتمد البريطاني في عهد الانتداب. وهي لم تتظاهر بأية صفة أخرى، ولم تخف طبيعة عملها موظفة في حكومة بلادها بصورة رسمية لا يشوبها الكتمان تخدم بلدها بكل نشاط. وليس هنالك شك في أن مس بيل كانت مخلصة لوطنها كل الإخلاص، ولو لم تكن كذلك لما استحقت الاحترام، ومن لا يكون مخلصا لوطنه لا يمكن أن يكون مخلصا لوطن آخر مهما تظاهر بمحبته وصداقته.

تشير المس بيل إلى أن مكتب رئيس الحكام السياسيين في بغداد قد ازدحم في الأيام القلائل الأولى من أيام الاحتلال بالزوار من جميع الطبقات بدون أن يستثنى منهم حتى أبناء الأسر المسلمة البارزة. و في أثر وجهاء بغداد جاء شيوخ القبائل الصغيرة المجاورة لزيارته متعجبين من انهيار العهد القديم المفاجئ ومستبعدين دوام العهد الجديد.

وكان من بين الأوائل الذين قدموا من الأماكن البعيدة ( محمّد عليّ كمونه ) من كربلاء والحاج ( عطية أبو كلل ) من النجف، وأعقبهما بعد ذلك بقليل شيوخ بلدة النجف الآخرون. فعينت لهم المخصصات، ورجعوا إلى أهلهم مخولين بالمحافظة على الأمن حتى يكون بإمكان السلطة المحتلة معالجة شؤون المدينتين المقدستين بصورة مباشرة.

للدراسة شهادات ومراجع وإحالات وهوامش كاملة





الجمعة ٢٣ رمضــان ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / تمــوز / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب إعداد ا. د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة