شبكة ذي قار
عـاجـل










بعد احتلال بغداد بأسبوع واحد، كانت غيرترود بيل في طريقها إليها من البصرة على ظهر باخرة عسكرية بريطانية. وكانت رحلة نهرية بطيئة استغرقت تسعة أيام.

وفي 15 نيسان ( ابريل ) وصلت بغداد، وكانت الدار التي خصصت لسكناها ـ على قولها ـ أشبه بعلبة خانقة، فقضت فيها ليلة، ثم خرجت تبحث عن غيرها، فعثرت في محلة ألسنك ، قرب مدرسة ألدهانه في ذلك الوقت، على بستان ورد فيه ثلاثة بيوت صيفية تعود لأحد أصدقائها القدماء، وهو موسى جلبي الباججي، فانتقلت إليها بعد خمسة أيام.

أصبحت مس بيل عنصرا مهما في هيئة موظفي السير بيرسي كوكس، وكانت ـ حسب تعبيرها ـ تقوم بوظيفة غربال لحشود الزوار والوفود وأصحاب الحاجات الذين يتدفقون على مقره يوميا طالبين مقابلته. وكانت تزود السير بيرسي مع كل زائر بورقة تبين له فيها القبيلة التي ينتمي إليها، والمنطقة التي يمثلها، وما تعرفه عن ماضيه وميوله، والغرض من المقابلة، مما كان يوفر عليه كثيرا من الوقت ويسهل له العمل.

وعلى أثر ذلك الانتصار للانجليز بعث علماء النجف وكربلاء، وحسب على ما ترويه المس بيل في تقريرها هذا، أنهم أرسلوا برقية تهنئة إلى صاحب الجلالة البريطانية، فأجابهم عليها معترفاً بتسلمها، مبدياً: إن رغبته الخالصة هي انتعاش العراق وسكانه والمحافظة على عتباته المقدسة واستعادته إلى رخائه القديم.

ولا شك أنها تعني بذلك الإشارة إلى بعض المعممين الذين كان يسيئهم تصرّف الأتراك وموظفيهم في الإدارة العثمانية، أو رجال الدين من الذين كانوا يمالئون الانكليز وسياساتهم، فصاروا يعرفون بعد ذلك بعلماء " الحفيز" ، [ الحفيز: بمعنى الأوفيس بالانجليزية وهو ( المكتب ) وهم كانوا أربعة أشخاص مالئوا السلطات المحتلة ومشوا في ركبهم فنعتوهم بعلماء الحفيز ( الأوفيس ) تمييزاً لهم عن بقية رجال الدين. ] .

كتبت المس بيل ( ... وقد بعث علماء كربلاء والنجف برقية تهنئة إلى صاحب الجلالة فأجابهم عند اعترافه بتسلمها إن رغبته الخالصة هي إنعاش العراق وسكانه والمحافظة على عتباته المقدسة واستعادته لرخائه القديم ) . وليست غريبة تلك البرقية ولا رد صاحب الجلالة البريطانية عليها من " علماء الحفيز" ، أي المعممين الذين كانت تسخرهم السلطة البريطانية لأغراضها الخاصة.

وحال استقرار أوضاع المحتلين ببغداد تهاطلت برقيات المهنئين والزائرين لمكاتب السير بيرسي كوكس الذي سعى إلى مصادقة نقيب بغداد، السيد عبد الرحمن الكيلاني ، ممثل الطائفة السنية، الذي حضر بنفسه للمباركة والترحاب بالمندوب السامي البريطاني ولقائد الجيش . ولم يتوان النقيب من دون ضغط أو إكراه عن تقديم داره التي اعتاد على السكن فيها القائمة على ضفة دجلة للسلطات العسكرية البريطانية المحتلة لينتقل في دار أخرى تقابل تكية الشيخ عبد القادر التي يرأسها هو. وعندما تقدم ممثلو الطوائف نحو مكاتب البريطانيين تبعهم تدريجيا وجهاء بغداد ثم شيوخ العشائر الصغيرة المجاورة.

وتصف المس بيل بالأسماء والتواريخ كيف تهاطل هؤلاء على مكتبها ومكتب بيرسي كوكس طلبا للوجاهة والتقرب من الإدارة البريطانية الجديدة، وكل منهم يدعى انه الأكثر حظوة أو مالكا لأكبر الأراضي أو يقود اكبر العشائر ( لذلك كان الأمر يصعب تحيده لان كل رجل منهم كان يُعَرف نفسه بأنه شيخ أقدم من زملائه الآخرين من جميع الوجوه. وقد استقبلوا في دار ضيافة الحكومة، وبعد أن منحوا منحا مالية صغيرة وخلعا شرفية أُرجعوا إلى أهلهم بتوصية المحافظة على السلم والانصراف إلى الفلاحة. فقل سيل الزائرين بالتدريج وتضافرت قسوة الصيف الحار غير المألوف والخمول الذي يفرضه الصوم في رمضان على تقليل سيل الزوار إلى الحد الاعتيادي ) .

تعد المس جر ترود بيل Gertrude Bell تعد الشخصية الثانية بعد لورنس في التأثير والفعالية على الذين تواصلوا معها من العراقيين ومع الإدارة البريطانية.

كانت تتقن لهجات القبائل وتعرف كل المسارب وتحتفظ بخرائط رسمتها بنفسها لكل مكان مجهول في تلك المناطق التي جابتها في العراق، خريجة أكسفورد التي جابت تخوم الصحارى العربية وزارت كل بلدان المشرق العربي التحقت في احد المكاتب الحربية في البصرة وهي ترافق تقدم قوات الاحتلال والغزو البريطاني للعراق حتى أصبحت سكرتيرة السير بيرسي كوكس وعملت معه على تنظيم الأمور في العراق كسكرتيرة للشؤون الشرقية، لكنها كانت في الواقع تقوم بادوار اكبر من ذلك بكثير فهي ذات نفوذ كبير وكانت تسير الإعمال من خلف الستار..

رسائلها وهي حصيلة مدوناتها التي سهرت على إرسالها لعائلتها في بريطانيا باتت تؤلف في مجموعها وثائق تاريخية خطيرة وخاصة عن الحالة السياسية والاجتماعية في العراق، وسجلا حافلا بالمعلومات النادرة والدقيقة عن الأسلوب الذي كان متبعا في حكم العراق، وطراز تفكير البريطانيين العاملين فيه، وطريقة تعاملهم مع العراقيين وآرائهم الحقيقية فيهم، وكيفية اتصال العراقيين بالانكليز، وعلاقات مختلف الشخصيات العراقية في ذلك العهد بهم. ولما نشرت رسائل غيرترود بيل للمرة الأولى في سنة 1927 ( وكانت قد رتبتها واعدتها للنشر زوجة أبيها الليدي بيل ) حذفت منها الرقابة أمورا كثيرة وجدت أن الوقت لم يحن بعد لنشرها، وخاصة فيما يتعلق بمن ورد ذكرهم من الأشخاص الذين كانوا ما يزالون على قيد الحياة. وعلى اثر صدورها كتب الرحالة المعروف فيلبي رسالة إلى محرر جزيرة اوبزرفر شدد فيها الوطأة على قلم الرقابة، وقال إنها شوهت تلك الرسائل ومسختها. وضرب على ذلك عدة أمثلة. ومع ذلك فقد كان نشر تلك الرسائل حدثا خطيرا، إذ قامت بسببها ضجة كبرى، واحتفلت لها الصحافة احتفالا كبيرا. وقد نشرت جريدة تايمز اللندنية بمناسبة صدورها مقالة افتتاحية عن غيروترود بيل وأعمالها، اتبعتها بمقالتين مفصلتين تضمنتا عرضا للرسائل وتقييما لها .

عن حكايات المس بيل وذكرياتها عن زوارها من أصحاب السداير والعقل والطرابيش كانت واضحة في رسائلها المنشورة في عدة طبعات حافلة بالتشخيص والتحليل والطرائف أيضا عن أولئك المتهالكين من الشخصيات العراقية التي عرضت نفسها على خدمة التاج البريطاني حينها في عهد بطلها السر برسي كوكس Percy Cox السفير البريطاني في العراق والنذل المكروه، هو سفير آخر جاء إلى العراق هو سير آرنولد ويلسون.

كان العراق آخر محطة لها في خدمة مصالح بلادها فكانت مديرة متحف الآثار ببغداد.

كتب عنها المؤرخ والكاتب العراقي نجدة فتحي صفوة ، كتب عن حياة هذه المرأة التي كان العراقيون يسمونها ( الخاتون ) ويدعوها الملك فيصل الأول ( أختي ) ، ويخاطبها السيد عبد الرحمن النقيب بـــــ ( ابنتي ) ويلقبها عبد المجيد الشاوي ـ مازحا ـ بــــــــــ ( أم المؤمنين ) ، ويسعى إليها الساسة والوجوه والشيوخ وأصحاب الحاجات، ويستأذنها بعضهم حتى في زيارة المعتمد السامي، أو مواجهة الملك فيصل الأول، ويستشيرونها في الأمور المهمة، ويعطون بتوجيهها.

هذه هي المرأة التي كانت تضع مشروعات القوانين، وترشح الوزراء، ويحسب لرأيها حساب في وزارتي الخارجية والمستعمرات، وتعد من موجهي سياسة بريطانيا في العراق في عهدي الاحتلال والانتداب.

اختلف العراقيون في تقييمها فغالبية العراقيين لا يبادلونها الحب والود رغم أنهم كانوا معجبين بها ويودون لها ما يود المرء لصديقه حتى صار بعض العراقيين يلقبونها بالخاتون ( وهي لفظة تركية معناها المرأة الشريفة، والعرب يلقبون بها نساء الملوك ) ، كانت خبيرة بشؤون القبائل العربية في العراق وبادية الشام وشرق الأردن والنفوذ ( فقد عشت وسط بيت العنكبوت وعرفت كل خيط فيه ) .

للدراسة شهادات ومراجع وإحالات وهوامش كاملة






الاربعاء ٢١ رمضــان ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / تمــوز / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب إعداد ا. د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة