شبكة ذي قار
عـاجـل










أكدنا في الجزء الثامن من البعث باق ، أن الدولة القطرية والتي ساهمت في صناعتها عوامل أساسية يتقدمها الاستعمار، الذي وظف تلك العوامل لصالحه فعزز من مكانة تلك الدولة ، التي وقفت عقبة كأداء في طريق الوحدة العربية بالرغم من أن النزوع نحو التوحيد والوحدة ظل هاجسا ودائما طوال التاريخ العربي الإسلامي ، الذي اكتظ بالكثير من حالات التفتت والتمزق الذي تعرضت لها الأمة العربية ، وهذا السبب هو الذي يدفعنا إلى استشراف مستقبل الوطن العربي ووحدته ، مع التأكيد على أن عوامل التوحد موجودة بالقوة الكامنة نفسها التي توجد فيها عوامل التفتت والتجزئة الظاهرة في الوقت الحاضر ومنذ انهيار الدولة العثمانية. لكن العوامل الذاتية والتاريخية كانت خير أساس لتحقيق أهداف المستعمر، الذي استغل تلك العوامل وخاصة في المشرق العربي لخلق الدولة العربية القطرية ومأسسة هذا الكيان ، وعلى هذا الأساس نجد إن الأصول الثلاثة لنشأة الدولة القطرية متداخلة بشكل أو بآخر، غير أن احد هذه الأصول يكون أوضح من غيره من حالة إلى أخرى ، وهذا الوضوح هو المبرر للفصل بين الأصول الثلاث ودراسة كل منها بشكل عميق ومركز ، فإذا ما ناقشنا ظروف نشأة صنف واحد من أصناف الدولة القطرية لإيضاح كيف تمت عملية الوحدة ؟ وكيف نجحت بعد ما كانت أجزاؤها مشتتة ؟ وكيف يمكن الاستفادة من تلك العملية في سبيل الوصول إلى وحدة أعظم واكبر ؟ ولتكن السعودية وليبيا والسودان مثلا في الاختيار، والسبب في هذا الاختيار هو أن هذه الدول الثلاث تشكل مؤسسات أكثر رسوخا نسبيا من غيرها كالإمارات واليمن الديمقراطية ، من خلال معايير يمكن أخذها بنظر الاعتبار وهي ( التكيف ) و ( التعقد ) و( الاستقلال ) و ( التماسك ) وكل واحد من هذه المعايير يمكن توظيفه إجرائيا في محاولة القياس باستخدام معايير فرعية أخرى منبثقة عن كل واحد ، فالتكيف يمكن أن يستنتج من خلال ثلاثة مؤشرات هي : العمر الزمني للمؤسسة المراد دراستها ، والعمر ألجيلي للقيادة ، وكيفية انتقال السلطة من جيل إلى جيل ، وأخيرا التغير الوظيفي بمعنى تغير وظائف ومهمات المؤسسة ، أما التعقد أو التشعب يمكن أن يقاس بمؤشرات درجة أو مدى تنوع وحدات المؤسسة ، وكذلك مدى تنوع وظائف المؤسسة ، أما الاستقلالية فيمكن أن تقاس بمؤشرات الميزانية ، بمعنى هل للمؤسسة ميزانية مستقلة ولها حرية التصرف بها ؟ وكذلك احتلال المناصب أو المواقع في المؤسسة ، بمعنى مدى استقلالية المؤسسة في تعبئة وتجنيد أعضائها ، أما بالنسبة إلى التماسك فيمكن قياسه عن طريق مدى انتماء الأعضاء للمؤسسة ، ومدى وجود أجنحة داخل تلك المؤسسة ، وأخيرا مدى وجود خلافات داخل المؤسسة بشكل عام ، فعند أخذ هذه المعايير وتطبيقها على الدول العربية القطرية وهي ليبيا والسعودية والسودان ، نجدها تنطبق نسبيا على الدول الثلاث موضوعة المثل أكثر من غيرها ، وهذا لا يعني أيضا إن الدول الثلاث متساوية في هذا المجال ولكنها منظورا إليها كمجموعة أكثر من البقية الأخرى ،

كما إن هذه الدول تشكل مجتمعا ما يقارب 61 بالمائة من مجمل مساحة الوطن العربي ، ناهيك من أن هذه الدول تتماثل في بنيتها الاجتماعية حيث القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية ، وتشترك في ذلك أيضا مع الإمارات العربية المتحدة واليمن الديمقراطية ، والكثير من الدول العربية الأخرى، إلا أن ما يفرقها هو امتزاج هذه البنية الاجتماعية ببناء إيديولوجي ذي صبغة دينية وذلك في مرحلة التأسيس فحركات التوحيد القطرية التي أدت إلى نشوء هذه الدول كانت حركات دينية في الوقت نفسه ذات انتشار جماهيري واسع واتفاق مع الثقافة السائدة ، ومعبرة عن مصالح معظم الطبقات والفئات الاجتماعية ، فحركات التوحيد في هذه الدول تميزت بثلاث خصائص أساسية هي إيديولوجيا ذات اتفاق مع الثقافة السائدة ومعبرة عن الواقع الاجتماعي ، وتنظيم ، وأخيرا زعامة واضحة ذات شرعية واسعة في زمانها ، فالايدولوجيا عبارة عن مجموعة من الرموز والمفاهيم المجردة التي تساعد أتباعها على تفسير الماضي ورواية الحاضر واستلهام المستقبل ، إنها ذلك الوسيط المجرد الذي يصل الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها والبيئة التي يعيش فيها ، وكلما كانت مبادئ الايدولوجيا أكثر بساطة وعفوية وعمومية واقل تعقيدا كلما حققت انتشارا اكبر ، وذلك نتيجة البساطة التي تجعلها في متناول مدارك الناس كافة وكذلك نتيجة العمومية التي تجعل كل إنسان يجد فيها ما يريد تحقيقه، فشعار لينين في أوائل الثــــورة البلشفية ( الأرض – السلام والخبز ) كان دعوة بارعة لدعم الثورة ، فلينين لم يطرح شعارات تتضمن تجريدات الفكر الماركسي بالرغم من أهميتها كدليل عمل إلا أنها تركت للنخبة القائدة لإعطاء التفسيرات المقنعة للأحداث ، والتي تكون في متناول القاعدة من حيث الفهم والتطبيق وبذلك تلتحم النخبة بالقاعدة ، مما يؤدي إلى دعم الحركة وزيادة فعاليتها ، فما هو موقع إيديولوجيا البعث من هذه الصفة أو الميزة أو الخصيصة ؟ وبتجرد يمكن أن نقول إن ايديوجيا البعث لم تتميز بالتعقيد وإنما جاءت بسمات اكتشفتها النخبة القائدة بين ثنايا الأمة وفي ذات الأمة وامتازت بالبساطة والعفوية رغم استنادها على المنهج العلمي الجدلي التاريخي . كيف ؟ فعندما قال البعث بالوحدة فالشعب العربي يدرك أبعاد هذه الوحدة ويدرك بعفويته انه من امة واحدة ، وهذه الأمة سميت منذ تاريخ طويل بالأمة العربية وقد جمعتها عناصر ثلاث اللغة والتاريخ المشترك والثقافة الواحدة ، كما انه يعي الحرية لأنه عاش حالة التهميش والقمع والسيطرة الأجنبية وتكبيل وسلب الحريات عندما يكون الغازي أو المحتل حاكما عليه ، وهو يعي أيضا أي ( الشعب في الدولة القطرية ) حاجة الأمة والفرد فيها إلى العيش بكرامة أي عدالة اجتماعية تحارب الفقر والفاقة وتساوي بين أبناء الأمة على أساس إن الإنسان قيمة اجتماعية عليا وان المساس بعيشه هو باب الظلم ومفتاح القهر والاستعباد ، فكل إنسان في الأمة يريد أن يحقق لنفسه وللمجتمع الذي ينتمي إليه هذه المبادئ الواضحة والسهلة ويحس بها أنها جزء من شخصيته وهي ظله الذي يقف معه ويجلس إليه في كل لحظة من لحظات حياته ، وعندما ننظر إلى الايدولوجيا التي وحدت تلك البلدان الثلاث نجدها قد انكفأت على نفسها بحدود الدولة القطرية ولم تستطع أن تتعداها إلى أوسع من ذلك ولأسباب سنأتي على تبيانها لاحقا ، إلا إن أيديولوجيا البعث تتعدى الحدود القطرية وهي تفهم طبيعة المجتمع العربي ولا تريد أن تقفز فوق الظروف الذاتية والموضوعية في قيام أية خطوة على طريق الوحدة ، إلا أنها ترمي أولا إلى وحدة الفهم لأهمية الوحدة ولأهمية وجودها في حياة العرب ، أما اتفاق الايدولوجيا مع الثقافة السائدة ونعني بها الثقافة السياسية فهي تعكس تاريخ ذلك المجتمع وخبرات أفراده وطبقاته وفئاته السياسية عبر الزمان ، ولهذا فكلما كانت الايدولوجيا السياسية المطروحة أكثر قربا من الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما تكون هذه الايدولوجيا اقرب إلى الانتشار والفاعلية ، لكن هذا لايعني القبول بالمطلق لكل مقولات الثقافة السياسية السائدة ، لان ذلك يقود إلى شيء شبيه بالاستسلام للوضع الحالي أو ما سميناه ما هو كائن ، والايدولوجيا لابد أن تحتوي على عناصر تتجاوز حالة ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون ، غير إن عدم القبول بالمطلق لا يعني الرفض المطلق لكل ما هو كائن ، فكلا الموقفين في رأينا خاطئ من الناحية العملية ، فالقبول بما هو كائن بالمطلق يقود إلى الوقوع في أسره وشراكه وعدم الخلاص منه ، وان الرفض المطلق لما هو كائن يقود إلى اغتراب الايدولوجيا عن ذاتها ومحيطها وهذا ما وقعت به الايدولوجيا الشيوعية في الأقطار العربية ، أما البعث فلم يكن فكرا لا يرتبط بواقع الأمة ومحيطها ولم يكن فكرا مغتربا ، وإنما كما قلنا انه فكر نابع من ذات الأمة وروحها ومن تاريخها وثقافتها ، وان أيديولوجية البعث عبرت بشكل كبيرا عن مصالح الجماعات المكونة للمجتمع العربي والتي إذا ما طبقت فإنها ستزيد من التماسك بين أفراد الأمة بسبب متانة تلك المصالح المتحققة ، وهذه خطوة على طريق الوحدة الشاملة وليست خطوة على طريق وحدة قطر واحد أو قطرين أو ثلاث فحسب ، بالرغم من أهمية وحدة القطر الواحد وسلامة أراضيه ووحدة شعبه أمام التهديدات التي تتعرض لها أقطار الأمة ، لقد نجحت حركات التوحيد القطرية في ليبيا والسعودية والسودان ، أي السنوسية في ليبيا والوهابية في السعودية والمهدية في السودان ، وكانت هي العامل الأول في توحيد تلك الأقطار في زمان معين وظروف ومعطيات بنت زمانها ، لكن السؤال هل تصلح هذه الحركات لان تكون العامل الأول في قيام وحدة الأقطار العربية في الوقت الحاضر ؟ مع أهمية دراسة الكيفية التي تمت بها وتوقفت عندها وفق قاعدة ماهو كائن لأجل الوصول إلى ما يجب أن يكون ، من المعلوم إن هذه الايدولوجيات الثلاث ذات اتجاه إسلامي ، وان الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية تكاد تتركز كلها على مصدر رئيسي وأساسي هو الإسلام ، أي أن البنية السياسية للمجتمعات العربية هي بنية إسلامية بشكل عام ، ولهذا كانت الحاضنة الشعبية لهذه الحركات الثلاث مهيأة لاستقبالها والأخذ بها ، مع الأخذ وفق ما نرى بعدم إسقاط الدعم الخارجي لتثبيت تلك الحركات ونشأتها ، وبطبيعة الحال فانا لا أريد بمقالي هذا نقد الابستيمولوجيا العربية الإسلامية ( 1 ) بقدر ما هو إدراكها ، وذلك في سبيل فهم الايدولوجيا المنبثقة منها لغرض تفسير أحداث تجري على الساحة العربية ، أقول لان الثقافة العربية السائدة سواء ثقافة النخب أم الثقافة الشعبية هي ثقافة إسلامية المحتوى ، مع اختلاف التأويلات والتفسيرات ، لكن دون إغفال العوامل الأخرى من اجتماعية وثقافية وفي مقدمتها العامل القومي ، ولعل الحزب الشيوعي السوداني كان واعيا لهذه المسالة حيث كان مسايرا للمشاعر الدينية والثقافية السائدة ، بل كان يفتتح الكثير من مؤتمراته وندواته بآيات من القران الكريم ، كما كان الكثير من أعضائه يؤمون المصلين في المساجد وهذا ما ساعد الحزب الشيوعي على الانتشار أكثر من بقية الأحزاب الشيوعية العربية ، رغم إن هذا الموقف هو موقف توفيقي لا مبدئي ، وإذا ما نظرنا إلى السنوسية فسنجد أنها كانت وفي المقام الأول ردة فعل قومية تجاه الاستعمار الغربي وكذلك السلطة العثمانية الواهية والحاكمة باسم الإسلام ، وبشكل سافر تحت اسم محاربة الأجانب وضرورة أن يكون الخليفة قرشي السلالة ، وهي حركة قومية كاملة بمضمون إيديولوجي إسلامي ،

ولعل أهم منجزات السنوسية هو إنها جمعت القبائل الليبية خاصة والليبيين عامة في كيان اجتماعي وسياسي اشمل من الكيانات الفرعية يقول احد الباحثين في الحركات الثورية إن الأيديولوجية المستندة إلى الهوية أو الذات القومية هي الوسيلة الرمزية الأكثر فعالية في تعبئة الدعم الثوري ، فالقومية أو الوطنية هي وحدها القادرة على اختراق طبقات المجتمع كافة فهي القادرة على توحيد الشباب والشيوخ ، الذكر والأنثى ،الفلاح ومالك الأرض الصناعي والعامل ، رجل الأعمال والمثقف ، المتدينين وغير المؤمنين ، الغني والفقير ، سكان القرى وسكان المدن ، بمعنى كلما كانت الايدولوجيا ذات مضمون قومي اشمل يتجاوز ويشمل الجماعات الفرعية ، كلما كانت اقدر على التعبئة وأكثر قبولا وبالتالي اقدر على تحقيق الأهداف ، وهذا ما نجده في أيديولوجيا البعث التي خاطبت كل عقول الأمة بطبقاتها وفئاتها الاجتماعية ودياناتها السماوية بنخبها وجماهيرها ، ولم تتبنى فئة أو جماعة معينة وهذا هو سر نجاح حزب البعث العربي الاشتراكي وقدرته على الديمومة والثبات والتجدد المستوحاة من روح الأمة وحقها في تحقيق أهدافها . وللموضوع صلة في الحلقة القادمة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) تعني الإبستيمولوجيا اشتقاقيا ” دراسة العلم ” ، وهي ابتكار جديد كفرع من فروع الدراسات الفلسفية ، مما يمكن من تعريفها بأنها الدراسة النقدية لمبادئ العلوم ومناهجها ونتائجها ، غير أنه يوجد شكل ثان من الإبستومولوجيا يمكن أن نسميه بكل بساطة بالإبستيمولوجيا التكوينية Constitutive : حيث إن العمل النقدي للإبستومولوجيا لا يبدأ فقط عندما ينتهي العلم ، إنه ليس عمل فيلسوف العلم خاصة ، إذ إنه يعلن عن ذاته أيضا أثناء عملية الصياغة ذاتها للنظرية ، هذه الإبستيمولوجيا التكوينية هي مرتبطة بشكل جوهري بالممارسة العلمية ، فلم يكن بمستطاع جاليليو مثلا أن يصوغ قانون سقوط الأجسام ما لم يكن وبشكل مواز قد قام بنقد المفهوم الأرسطي ل ” الجاذبية ” وأسس أيضا الديناميكا المعاصرة على أساس مفهوم جديد للحركة ،إن الدراسة النقدية للعلم ، والتي تمثلها الإبستيمولوجيا ، بعيدة عن أن تكون سلبية بشكل خالص ، وعن أن تؤدي بنا إلى الشك ؛ فهي تظهر كمساهمة ضرورية وكعمل مجد بالنسبة للعمل العلمي.وتأسيسا على ما سبق وقيل ، فإننا نرى على أن الإبستيمولوجيا تنتمي في آن واحد إلى كل من الفلسفة والعلم : إنها تنتمي للفلسفة باعتبارها دراسة للفكر والــبحث العلميين ( الفيلسوف هنا يلاحظ عمل العالم لمعرفة خصوصية المعرفة العلمية وما يميزها عن الحس المشترك ) ، وتنتمي إلى العلم باعتبارها تدعي القيام بدراسة علمية للعلم ، والقدرة على تحقيق صرامة مشابهة لصرامة العلم فيما يخص بناء مفاهيمه وطرق استدلاله ، إن لم يكن بنفس موضوعية العلم ذاته ، وأيضا باعتبار رغبتها في أن تكون معيارا لصلاحية مفاهيمه ومناهجه ، بل ونتائجه أيضا.






الجمعة ٢٤ ربيع الثاني ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / شبــاط / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أبو مجاهد السلمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة