شبكة ذي قار
عـاجـل










كان لنا في المقال الماضي من المسلسل البعث باق ، أراء مضمونها إن الأمة قادرة على صنع وحدتها وبالطريقة التي يقررها من يتولى العمل على وحدة الأمة ، في الزمان والمكان والمعطيات التي تمر بها وما يترشح عنها من أفكار بشأن الوحدة وحاجة الشعب العربي إليها ، وعندما نقف على التجارب التي مرت في الأعــــــوام 1958 و1963 و 1978، والتي كان من نتائجها العودة إلى الانفصال أو التوقف عن المشروع بعد الإعلان عنه والتشوق إلى تطبيقه ، علينا أن نعرف ونؤكد حقيقة وهي إن الوحدة جزء من الثورة العربية الشاملة ، وهذه الثورة تتجه إلى إنشاء المستقبل العربي وتطرح نفسها كأداة للتاريخ العربي ، ولابد لها إذن من أن تعرف كل ما يعيق طريقها وصولا إلى نقاط الضعف والوهن التي تصيبها ، وكيفية التعامل مع هذه النقاط باعتبارها محددات بالضد من قيام الوحدة ، بل قيام خطوات جدية على طريقها ، وان نبتعد عن مغالطة وقع فيها البعض ممن أرخ للوحدة والانفصال ، من أن الذي وقع من توقف أو فشل هو قانون عام ينطبق على المستقبل العربي كله جملة وتفصيلا ، أي أنهم حولوا ظاهرة الانفصال إلى قانون ينطبق على أية وحدة أو أية خطوة على طريقها ، رغم إن ذلك شيء عرضي وزائل وبالإمكان تفاديه في وقت التوكل والعزم على اتخاذ الخطوة المناسبة ، بظل النضج المتحقق للعقول والظروف والمناخ لتلك الخطوة ، فهل الانفصال وما تلاه من تجارب كان بحد ذاته تعبيرا جوهريا عن فشل الوحدة أم أن الوحدة شيء حي بذاته ؟ وهل الخطأ في الوحدة أم الخطأ في كيفية الحفاظ عليها كتجربة فتية أولى حصلت في العام 1958؟ إن الرد على الأسئلة السابقة لابد أن يتحدد بالإجابة على أسئلة أخرى وهي ماهي العوامل الخارجية والداخلية التي أدت إلى قيام الوحدة ؟ وكيف سارت الأمـــور داخل دولـــة الوحـــــدة ؟ وكيف واجهها العالــــم ؟ ومــــا هي العوامــــل التي أدت إلى الانفصال في الثامـــــن والعشـــرين من أيلـــول / 1961 ؟

نقول مع نهاية الحرب العالمية الثانية تحررت سوريا من الاحتلال ، وفي نفس الوقت أدى تعاظم حركة التحرر في بقية الأقطار العربية إلى أن تفتش عن وسيلة الاتصال ببعضها ، وان تحطم الحدود المصطنعة ، وتشكل حداً ثورياً يصعد من قاعدة الهرم للأمة بكاملها ، وكان لا بد للاستعمار من أن يفتش بدوره عن وسيلة يمنع هذا الاتصال، هادفاً من ذلك إلى تجزئة وحدة النضال القومي ، وقوفاً بوجه بروز دولة عربية كبرى ، فمهد لنكبة فلسطين ، وانشأ دولة إسرائيل ، ودعم الفئة الحاكمة الموالية له في كل دولة عربية، وجمد حركة الوعي الثوري الجماهيري بالطغيان والإرهاب.

ومع بداية الخمسينات من القرن الماضي ، بدأنا نلاحظ أن كل المؤامرات الاستعمارية والأجنبية التي حيكت بالضد من الأمة بأقطارها جميعا بدأت تتركزت على سوريا بالذات ، ولهذا أسبابه ، أولا لموقعها من التيارات العالمية المتصارعة في المنطقة ، وثانياً لأنها البلد العربي الذي حمل لواء فكرة الوحدة العربية ، عندما كانت بقية الدول العربية لا تعرف معنى الوحدة إلا على أساس من السيطرة والتسلط والحكم ، مثلما حدث مع الأسرة الهاشمية في بداية القرن العشرين ، وفي الحرب العالمية الأولى أثناء ثورة الشريف حسين ، وخلال السنوات الأربع التي مرت على مصر ابتداء من قيام الثورة عام 1952 حتى العدوان الثلاثي في العام 1956 ، كانت الأحداث المتتالية تعصف بأجزاء الوطن العربي و خاصة تلك المتعلقة بالمشرق، وعلى وجه أخص إزاحة دكتاتورية أديب الشيشكلي في فبراير عام 1954، وتسلم السلطة في سوريا تكتلا اختلفت اتجاهاته، ولكن القوى الثورية السورية كان لها الغلبة في النهاية ورجحت التفاعل الثوري بين مصر وسوريا ، وتسجيل العلاقات المصرية السورية إنما هو تسجيل لبداية التفاعل والاندفاع نحو الوحدة بين القطاعين الفكري والعملي ، الأول يتمثل في القوى الوحدوية الثورية الأصيلة في الشعب السوري ، وأهمها البعث العربي الاشتراكي ، والثاني يتمثل في الثورة المصرية وقيادتها . لقد جابهت سوريا في عام 1957من الضغوط لو وجهت لأي بلد عربي آخر لما تمكن من الصمود كما فعلت هي ، هذا هو السبب المباشر الذي دفع سوريا لطلب الوحدة في عام 1958 ، ناهيك من أن الفكر القومي المتأجج آنذاك المتمثل بحزب البعث العربي الاشتراكي ، كان له دورا كبيرا في انبثاق الوحدة ، فقد ضحى بتنظيماته من اجل قيامها ،أي حل تنظيمات الحزب في دولة الوحدة ، ويمكن القول على وجه التحديد أن بداية تنسيق السياستين الخارجيتين لمصر وسوريا، من الناحية العملية، قد بدأت مع الدعوة إلى مؤتمر باندونج 1955، كما يمكن القول أيضا أن ما تركته حرب فلسطين من تأثير على الدول العربية وعلاقاتها بالعالم الخارجي ، يمثل نقطة التقاء أخرى بين السياستين الخارجيتين للدولتين .

كانت حكومة الثورة في مصر قد أجرت اتصالات مع الحكومة السورية قبل انعقاد مؤتمر باندونج ، وذلك لانتهاج سياسة عربية موحدة، تهدف لإبراز الشخصية العربية في المجال الدولي، وتعمل بتنسيق مدروس من أجل تقوية المواقف العربية في المحافل الدولية. ولاقت هذه الدعوة قبولا من الحكومة السورية، ومن هنا ظهر في الأفق العربي أن معسكرين سيشكلان: معسكر يضم مصر وسوريا من جهة، ومعسكر تقوده بغداد وحلفها مع تركيا وبريطانيا ، ولعل من أهم نتائج مؤتمر باندونج المباشرة، وفيما يخص العرب وقضاياهم هي تحويل ذلك التوازي في الانتصارات الثورية بين مصر وسوريا، إلى اتفاق رسمي من أجل تدعيم سياسة عدم الانحياز، ومحاربة حلف بغداد، وأهدافه في المنطقة العربية، والدعوة للوحدة العربية المباشرة التي ستكون النواة لوحدة عربية اكبر ولذلك فقد انتقلت مصر بثورتها الجديدة إلى مرحلة التفاعل التام بالسياسة العربية، فدخلت هذه الحلبة بوجه تحرري مضئ ، نقل لأول مرة أيضاً الثورة العربية من مستوى العمل الجماهيري إلى مستوى انبثاق دولة عربية ، ذات تنهيج تحرري واضح ، إذ لا يمكن الإقرار بمكانة الأمة العربية بين أمم العالم المتحضرة إلا نتيجة للقيام بعمل مصمم يجسد هذه الإرادة بشكل مادي، وعلى هذا الأساس بدأت الحركة الجماهيرية العربية تبحث عن وسيلة لتجسيد إرادتها بشكل ملموس، فما وجدت أفضل من سوريا ومصر.

وكان اللقاء أول ما كان في السياسة الخارجية للبلدين، ثم تشعب ليصل إلى الاهتمام بالسياسة الداخلية ،على أن مركز سوريا بالنسبة لدول المشرق العربي ، ومركز مصر بالنسبة للدول العربية الواقعة في الشمال الإفريقي قد جعلهما نقطتي ارتكاز وانطلاق إلى بقية الأقطار العربية ، من هنا جاء تنسيق السياستين الخارجيتين للدولتين، ثم ميثاق الدفاع المشترك فيما بينهما ، ثم الإعلان عن الوحدة في الثاني والعشرين من شباط 1958 ، فالوحدة هدف قومي عربي قديم ، قائم تاريخيا على رغبة شعبية حقيقية في بناء وحدة اندماجية أو اتحادية ، تبدأ بخطوتها الأولى دولتين أو ثلاث ، فتتطور لتصبح عشرة أو خمسة عشر أو اثنان وعشرون قطرا ، والقبول من خلالها بمظلة واحدة يستظل بها العرب جميعا في كيان سياسي، وعسكري، واقتصادي واحد ، كيان عربي قوي يزيل الحدود ، ويرفع الموانع ، ويفك القيود التي وضعها الاستعمار الغربي البغيض ، قبل أن يرفع عصاه على كاهله ويرحل مطرودا، مذموما، مدحورا ، كيان عربي واحد ينشئ دولة كبيرة ، قوية ، موحدة ، مرهوبة الجانب ، قادرة على حماية الحدود والحقوق والمقدسات ، كيان عربي عنوانه الهوية العربية واللغة والتاريخ ، وقوامه سيادة القانون، والتوزيع العادل للثروة، والعمل، والإبداع ، والتنوير، ووحدة التراب والهدف والمصير ، ومقوماته التراث والعادات والتقاليد. إن أكثر أمة تتحدث عن الوحدة وتتشدق بها في كل مناسبة وبلا مناسبة على المستوى الرسمي وتحلم بها على الدوام، وتتمناها، وتتغنى بها ليل نهار على المستوى الشعبي ولا تعمل على تحقيقها على أي مستوى هي أمة العرب ، وعلينا أن نفصل بين فئتين ممن يتحدثون بذلك ، فئة الشعب العربي وهي الصادقة في حديثها والمغلوب على أمرها ، وفئة الحكام وهي الكاذبة والمرائية في ذلك ، ويقف مع هذه الأخيرة كل أعداء الوحدة من دول وحكومات وعنصريين لا يريدون لهذه الأمة أن تبني مجدها من جديد ، أن الأمة العربية هي من أكثر الأمم على وجه الأرض وتحت الأرض انقساما ، وتمزقا ، وتشرذما ، والمسؤول الأول عن كل هذا هم من يتصدرون حكم هذه الأمة أي قادتها ، ولا شك أن الإيمان بالوحدة العربية يعني بمفهوم الموافقة الإيمان بقيم الحق ، والعدل ، والديمقراطية ، والحرية ، والمساواة ، والعدالة الاجتماعية ،

وهذا ما ينشده الشعب العربي كله، ذلك لأن الوحدة العربية تقضي على العنصرية البغيضة ، وتنهي الطائفية المقيتة ، حيث أن جميع المواطنين العرب ومن سكن معهم يصبحون حينئذ سواسية متساوون كأسنان المشط أمام القانون ، لا فرق بينهم ولا تمييز إلا بقدر العمل، وحجم العطاء، وصدق الولاء، وقوة الانتماء ، كما أنه في ظلال الوحدة العربية الكاملة تندمج الأقليات وتتضاءل العرقيات وتذوب وتختفي أمام وحدة الدين واللغة وقوة القواسم المشتركـــــــــــة ( الثقافة ، والعادات ، والتقاليد ) ، وبالتالي تختفي مشاكل الأقليات العرقية ، وتنتهي مخاوف المجموعات الإثنية ، ويصبح التعصب الديني والتشدد الطائفي جزءا من الماضي ، لماذا ؟ لان البعث هو حزب الأمة بجميع مكوناتها ، نعم انه عربي النشأة إلا انه إنساني الهدف والعقيدة وكل حقوق الطوائف والأقليات والقوميات التي سكنت هذه الأرض تعامل معها ونظر إليها نظرة المسؤول الراعي لرعيته ، والمدبر للشأن على أساس العدل والمساواة ، وهذا هو سر نجاح البعث في نظرته لكل من سكن ارض الأمة وأصبح جزءا من تاريخها وثقافتها ، مع الاحتفاظ بخصوصياته التي تبلورت لديه على مدى وجوده ككائن حي له حق الحياة والمساهمة في صناعتها ، فالوحدة شيء حي بذاته لان عوامل التاريخ والجغرافية والانتلجنسيا معها ، وان ما يعتريها من فشل هنا وتوقف هناك ، ما هو إلا تعبير عن رسوب قادة الوحدة في عدم نجاحها فليس في الحياة مستحيل وليس في الحياة مطلق على الدوام ، فمن كبا في العام 1961 وفي 17 نيسان 1963 ، سوف لن يكبو عندما تكبر الإرادة ، ويكبر نسيج الوحدة في عقول القادة وفي عقول الجماهير . وللموضوع صلة في الحلقة القادمة .






الاثنين ٦ ربيع الثاني ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / كانون الثاني / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أبو مجاهد السلمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة