شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ عام 1993، عندما أسقطت موسكو ما كان يعرف باسم ( سياسة عدم استخدام السلاح النووي أولا" ) ، أصبح النقاش حول الاعتماد المتزايد على السلاح النووي موضوعاً مركزياً، حيث شهدت العقيدة النووية الروسية تطوراً بطيئاً مع انهماك القيادة الروسية والعسكرية في النقاشات الدائرة طيلة فترة التسعينيات خلف الأبواب المغلقة .

 

وفي عام 1999 بدأت تتشكل ملامح عقيدة نووية جديدة تعتمد - بحسب ما تذكره التقارير الرسمية - على إعطاء السلاح النووي مهام جديدة تهدف إلى منع نشوب الحروب التقليدية المحدودة .

 

ويعزى ظهور هذه العقيدة الجديدة في الفكر الإستراتيجي الروسي إلى عاملين :

 

الأول - وجود قناعة لدى القيادة الروسية بوجود خطر خارجي يتهدد البلاد ( لاسيما خلال الفترة ما بين 1990- 1999 ) ، يتمثل في احتمال لجوء حلف الناتو إلى القوة العسكرية على نطاق محدود من أجل الحصول على مكاسب سياسية وبطريقة شبيهة بالحروب التي جرت في منطقة البلقان .

 

الثاني - وجود قناعة راسخة بضعف القوات التقليدية وعدم قدرتها على مواجهة حرب محدودة في ظل التفوق النوعي والكمي لحلف الناتو .

 

ومن منظور القيادة العسكرية الروسية، كان الاعتماد على السلاح النووي رداً منطقياً على هذه المخاوف مجتمعة على أساس أن القوات النووية لديها مزايا غير تلك التي حصرتها القيادة السوفيتية السابقة بـ ( ردع هجوم نووي واسع النطاق ) .

 

 لكن ، وفي الوقت نفسه ، شددت الوثائق الرسمية الروسية ، على أن الاعتماد على السلاح النووي سيكون عاملاً مؤقتاً لتوفير الأمن القومي إلى حين استكمال خطط تطوير وتعزيز القوات التقليدية .

 

وفي عام 2000 اعتمد مفهوم جديد للأمن القومي للاتحاد الروسي، اعتبر تعديلاً لمفهوم عام 1997 ، ويؤسس المفهوم الجديد للضوابط والتوجيهات العريضة المرتبطة بالأمن القومي الروسي، وبالتالي يتناول الإستراتيجية النووية بخطوطها العامة دون الخوض في التفاصيل التي أعدت في إطار العقيدة العسكرية والتي صودق عليها بعد أربعة أشهر من إعلان وثيقة الأمن القومي .

 

ومن أهم الفقرات المتصلة بالسلاح النووي الواردة في المفهوم الروسي الجديد :

 

1-إن من أولويات مهام الاتحاد الروسي توفير الردع الذي يمنع شن أي اعتداء بما في ذلك الاعتداء النووي على روسيا وحلفائها .

 

2-يجب على الاتحاد الروسي امتلاك الأسلحة النووية القادرة على إلحاق الضرر بأي دولة معتدية أو تحالف من الدول المعتدية تحت أي ظرف كان .

 

3-استخدام جميع القوى والوسائل المتاحة بما في ذلك السلاح النووي في حال لزم الأمر لصد اعتداء مسلح، بعد أن تستنفد جميع الوسائل الرامية لحل الأزمة أو أن هذه الإجراءات أثبتت فشلها .

 

 الفقرتان الأولى والثانية، هما تكرار لما جاء في وثيقة الأمن القومي الروسي، التي أعدت في عهد " يلتسن " عام 1997، في حين تمثل الفقرة الثالثة الاختلاف الذي يعكس العقلية الروسية الجديدة بخصوص التعاطي مع مسائل الأمن القومي ، إذ أن هذه الفقرة نصت في وثيقة عام 1997 على ما يلي :

 

" تحتفظ روسيا بحق استعمال كافة القوى والوسائل المتاحة لها بما في ذلك السلاح النووي، لصد أي اعتداء يشكل تهديداً مباشراً على وجود الاتحاد الروسي كدولة مستقلة ذات سيادة ".

 

وبمقارنة الفقرتين يتبين أن الوثيقة التي أعدت في عهد يلتسن تتيح استعمال السلاح النووي في حال شن اعتداء واسع النطاق والذي لم يكن أمراً محتملاً في تلك الفقرة . أما وثيقة الأمن القومي، التي أعدت في عهد " بوتين " فهي ( تسمح باستخدام القوة النووية ضد أي اعتداء صغيراً كان أم كبيراً، حتى لو لم يهدد وجود وكيان الدولة ) !!.

 

كما أن هذه المهمة تتضمن الاستخدام المحدود للقوة النووية مقارنة مع الضربة النووية الشاملة رداً على أي هجوم واسع النطاق كما ورد في وثيقة عام 1997.

 

 إن هذا التغيير الواضح في العقيدة النووية الروسية يرتبط ارتباطاً مباشراً بالتوصيف الروسي للتهديدات المحتملة، التي يلخصها المفهوم الجديد للأمن القومي بـرغبة بعض الدول أو مجموعات داخل دولة بتحجيم دور الآليات القائمة لتوفير الأمن الدولي وأولها الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوربي.

 

1-تقوية التكتلات العسكرية السياسية وتحالفاتها، وأولها توسيع حلف الناتو شرقاً .

 

2-ظهور قواعد لقوات أجنبية أو حشود عسكرية في الجوار القريب للحدود الروسية .

 

3-انتقال حلف الناتو إلى ممارسة العمليات العسكرية خارج نطاق مسؤولياته دون تفويض من مجلس الأمن الدولي .

 

وفي الإطار ذاته تعترف وثيقة الأمن القومي الروسي بضعف القوات التقليدية مقارنة مع القوى السياسية والعسكرية الكبرى على الساحة الدولية، وتشير إلى ( اتساع الفجوة التكنولوجية مع القوى الكبرى وإمكاناتها على إنتاج جيل جديد من السلاح القادر على إحداث تغييرات أساسية في أشكال وأساليب القتال ) .

 

وضمن هذه المعطيات والظروف المحيطة بالقوات التقليدية الروسية بات الاعتماد على السلاح النووي خياراً منطقياً - حسب المفهوم الرزسي - إذا استنفدت الوسائل السياسية لحل الأزمة الناشئة .

 

وقد أقر اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي المراجعة الشاملة للإستراتيجية النووية في نيسان من عام 1999 بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب في إقليم كوسوفو، هذه الحرب عززت المخاوف الروسية السابقة من قيام الولايات المتحدة والناتو بعملية عسكرية محدودة ضد روسيا من أجل الحصول على مكاسب سياسية، مثل إجبارها على سحب قواتها من بعض الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق أو وقف الحرب في الشيشان .

 

لذلك يركز المفهوم الجديد للأمن القومي الروسي على أن الاعتماد على السلاح النووي يبقى إجراءاً مؤقتاً إلى حين استكمال جميع الخطط والإصلاحات لتطوير وتحديث القوات التقليدية .

 

وفي ما يخص الحد من التسلح، يحتل هذا البند موقعاً مهماً في المفهوم الجديد للأمن القومي الروسي، وتحديداً لما يتصل بانتشار الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل ووسائل نقلها.

 

وتدرج الوثيقة الأخيرة هذه، قضية انتشار الأسلحة النووية كواحدة من التهديدات التي تواجه الأمن القومي، الأمر الذي لا يمكن اعتباره مفاجئاً ، نظراً لوجود العديد من الدول الساعية لنشر السلاح النووي من جهة، ولأن انتشار الأسلحة النووية سيقوض موقع روسيا كواحدة من الأعضاء الدائمين الخمسة المعترف بهم رسمياً في النادي النووي ومجلس الأمن الدولي من جهة ثانية .

 

في هذا الإطار، يطرح مفهوم الأمن القومي الجديد، من ضمن أولوياته عدداً من ( الإجراءات لضمان السيطرة الدولية على تصدير الخدمات والتقنيات العسكرية أو المواد ذات الاستخدام المزدوج ) ، كما يؤكد عزم الاتحاد الروسي تنفيذ الإجراءات والترتيبات المتصلة بضبط التسلح ، لكن مع تعديل الموقف من أي اتفاقيات جديدة بهذا الشأن .

 

فقد أكدت وثيقة عام 1997، أن ( روسيا ستساهم في المفاوضات بخصوص خفض الأسلحة النووية والتقليدية، وضبط انتشار أسلحة الدمار الشامل ووسائل نقلها ) ، في حين أجرت وثيقة عام 1999 تعديلاً كبيراً على هذا الموقف مشيرة إلى أن روسيا عازمة على تكييف الاتفاقيات المعمول بها بشأن ضبط التسلح ونزع السلاح مع الأوضاع الجديدة السائدة في العلاقات الدولية، بالإضافة إلى إعداد اتفاقيات جديدة عند الضرورة، مع احترام إجراءات بناء الثقة والأمن .

 

هذا التعديل يشير إلى موقف جديد بشأن اتفاقيات ضبط التسلح على أساس أن الاتفاقيات، التي عقدت خلال أو بعد الحرب الباردة كانت كافية بالنسبة لدولة عظمى، لكنها ليست كذلك بالنسبة لروسيا اليوم، إذ ترى روسيا أن بعض الاتفاقيات أو البنود تفرض عليها قيوداً مشددة في الوقت الذي لا تفرض على دول أخرى أي شيء ، في إشارة واضحة إلى اتفاقية ( START ) دون أن تذكرها وثيقة الأمن القومي لعام 1999 صراحة .

 

فعلى سبيل المثال، لم يعد الخطر الذي تفرضه اتفاقية الصواريخ العابرة للقارات ( START-1 ) في صالح روسيا التي تسعى حالياً إلى تعديلها في اتفاقية ( START-3 )

 

فهنالك جدل مستمر في القيادة الروسية بشأن إمكانية القبول بالقيود المفروضة ذاتياً على الأسلحة النووية التكتيكية. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا لم تصادق حتى الآن على معاهدة ( START-2 ) ، للأسباب نفسها، لذا ومن بين جميع الاتفاقيات الخاصة بضبط التسلح، التي تشترك فيها روسيا، تجد اتفاقيتا منع انتشار الأسلحة النووية والكيميائية فقط قبولاً ايجابياً من قبل موسكو، فيما ترى القيادة الروسية أن الاتفاقيات الأخرى القديمة لم تعد صالحة في عالم غابت عنه المنافسة الدولية بعد أن تحول إلى نظام أحادي القطب .

 

واستناداً إلى ما تقدم، تمثل اتفاقية عام 2002 الخاصة بخفض الأسلحة الإستراتيجية الهجومية ( سورت ) التوجه الروسي الجديد، الأمر الذي يفسر إصرار موسكو على جعلها اتفاقية ملزمة قانونياً للأطراف الموقعة عليها بدلاً من كونها ، كما هي الآن ، مجرد إجراءات لبناء الثقة. ولعل من أهم التعديلات التي أدخلتها وثيقة الأمن القومي الروسي عام 1999، توسيع السيناريوهات المحتملة للصراع، التي يمكن استخدام السلاح النووي فيها. إذ أن العقيدة الأمنية الروسية الجديدة تميز بين أربعة أنواع من الحروب:

 

1-الصراع المسلح وبشكل أساسي، الديني أو العرقي المنشأ داخل البلاد بمشاركة دول أخرى .

2-الحرب المحلية التي تشنها دولة أو مجموعة دول معادية، لكنها ذات نطاق وأهداف محدودة.

3-الحرب الإقليمية التي تشنها دولة أو تحالف من الدول لتحقيق مكاسب سياسية .

4-الحرب الكونية التي يشنها تحالف من الدول وعلى نحو يهدد وجود وكيان الدولة الروسية.

 

لقد بات واضحاً أن الظروف الجديدة تخلق توجهاً لدى القوى النووية الرئيسة نحو استخدام السلاح النووي المحدود، في حالات معينة، ويمكن لهذه الحالات أن تفسر على وفق مرمى وأهداف صانع القرار السياسي .

 

يتبــــــــع .....






الاحد ١٣ ربيع الاول ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / كانون الثاني / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب  د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة