شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل شهرين، أكملت مدة 40 سنة في بلاط صاحبة الجلالة، مما يعني أنه مضت عليّ في رفقة القلم 52 سنة، منذ دخلت في مدرسة البحية الابتدائية للبنين، في الكاظمية، التي كان مديرها المرحوم السيد صادق الحسيني والتي اشتهر أحد معلميها، وهو الشيخ عبد الغني المختار بلبس الطربوش الأحمر الملفوفة حوله قطعة قماش مطرزة بخيط ذهبي أصفر، تسمى (الكشيدة).


منذ 52 سنة ابتدأت رحلتي مع القلم ومنذ 40 سنة ابتدأت في رحلة المليون ميل التي لن تنتهي مع الصحافة، والنتيجة أنني مازلت أدفع ضريبة الانتماء إلى هذا القلم، غربة وتشرداً وحاجة إلى من لولا انفلات المعايير والقيم وانهيار المقاييس، لكان طامعاً أن يكون من خدمك.


إلا أن الانتماء إلى القلم، لا ارتزاقاً ولا منفعة ولا مكاسب شخصية، يسلمك إلى الفقر ولكنه يجعلك ثابتاً على موقفك في الحياة، تنافح عن رأيك، فيجلب لك ذلك مزيداً من الاحترام، ولكنه يمنع عنك الفلوس بما يجعلك تواصل الحياة كخلق الله ويجعل من تعيل لا يعيش برغد كالآخرين، وأحمد الله أن رزقني بزوج وأبناء صابرين لا يتطلبون من الحياة إلا أن يروا أباهم ثابتاً على موقفه فلا يلحفون عليه بسؤال ولا يطلبون منه ما لا يطيق، ولكن الانتماء إلى الفلوس لا إلى القلم يجعل حامل القلم مثل حمار للكراء يركبه الوضيع من الناس ومن يشاء، أو كلب حراسة، في أفضل الظروف، يقف في باب من يدفع لينبح دفاعاً عنه، حتى لو كان يدري أنه ينبح أبناء شعبه، فيفقد أدنى مراتب الاحترام ويحيا حياة ذلة وامتهان درب نفسه على تحملها بعد أن خان المبادئ التي يتوجب على حامل القلم التحلي بها.


في رحلتي مع القلم هذه المسافات الطوال وهذه السنين العجاف تمتعت بشرف الموقف، ولم أخذل شجاعتي وجرأتي واندفاعي إلى خدمة الناس، واصطدمت بمسؤولين بمراتب عليا من أجل الناس، وظل لساني مسلطاً على من يفكر، مجرد تفكير، بظلمهم أو سرقتهم، وقلمي ظل مسخراً للدفاع عنهم وعن الوطن الجميل ضد أعدائه، حتى لو خسرت لقمة العيش، فلا أحد يموت جوعاً لكنه سيموت، وهو حي، إذا فقد كرامته، وها أنا ولأوقات طويلة عاطل عن العمل، ولكني لم أمت، فبعض أصحاب المؤسسات الإعلامية (مال هالوكت)، أقحموا أنفسهم في عمل لا صلة لهم به، وهم يخافون فسح المجال أمام القلم الشريف الثابت، خشية أن تغضب عليهم اليد الخفية التي تمولهم.


قلت لأنصرف إلى إكمال مؤلفاتي وبيع حقوقها، ففوجئت أنها مرغوبة ومطلوبة ولكن من دور النشل لا من دور النشر، فالكاتب في بلداننا مهضوم الحقوق، وبدل أن تدر عليه كتبه أموالاً تجعله يعيش عيشاً رغدا، تطالبه دور النشل بدفع تكاليف طباعة كتابه فيخسر مرتين.


فكرت بسنوات خدمتي الطويلة في الدولة العراقية وقلت لاستحصل راتباً تقاعدياً عنها، وأنا لم أتسلم أي راتب، منذ اليوم المشؤوم 9 نيسان 2003 إلى الآن، ولكن معارضاً واضحاً لحكومة الاحتلال والاحتلال نفسه، من يمنحه مثل هذا الحق من دون أن يبيع ما صبر على الجوع من أجله؟ خصوصاً وأني جددت، مرة، هوية عضويتي في نقابة الصحفيين، فظهر أحد صحفيي الاحتلال (مال تالي وكت أيضاً) على شاشة التلفزيون حاملاً صورتي وهو يقول: انظروا كيف أن نقابة الصحفيين تمنح عضويتها وتجدد هويات الارهابيين.


أصدقاء كثر وبدافع المحبة وتقديم خدمة لمن يخدم بلدهم قدموا إليّ وعوداً كثيرة بالحصول على عمل لي في أي دولة عندها صحافة، ولكنهم إما أن ينسوا وعودهم بعد قطعها أو أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً فتبقى الحال على ما هي عليه، لكن أحدهم أصر على أن يفعل شيئاً لتعييني في بلد يقيم فيه ولديه فيه علاقات واسعة، فسأل صديقاً مشتركاً بيني وبينه فأخبره أن الشماع يمتلك وظيفة يحسده عليها الجميع وأبلغه عن لساني بأني ربما أرفض عرضه، جزى الله الأول خيراً وسامح الثاني، فصارت حالي مصداقاً لقول الكبير أبي الطيب المتنبي:


ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وأعْجَبُهً
أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ
أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِناً وَيَداً
أنَا الغَنيّ وَأمْوَالي المَوَاعِيـــدُ


هي ليست شكوى، والله، وليست ضيقاً بالحال التي أنا فيها، فهي عندي أحلى من الشهد لأنها في سبيل العراق، ولكنها نداء إلى بعض المحبين الذين يلحفون بالسؤال عليّ إذا انقطعت عن الكتابة أياماً بسبب هذه الظروف، ويذهب بعضهم إلى القول: لماذا؟ هل حصل على شيء وسكت؟


ولو كنت أريد لحصلت على كل شيء لكني لا أريد شيئاً إلا من يد العراق، فما كل مائدة تمد لها يدُ، كما يقول الصديق الشاعر راضي مهدي السعيد عافاه الله وأمدّ في عمره.


ولعل الجواهري الكبير واجه ما أواجه الآن عندما قال:
برِمْتُ بلوم الَّلائمين ، وقولِهمْ:
                     أأنتَ إلى تغريدةٍ غيرُ راجع
أأنتَ تركتَ الشعر غيرَ مُحاولٍ
                     أمِ الشعرُ إذ حاولتَ غيرُ مطاوع
وهْل نضَبتْ تلك العواطفُ ثَرَّةً
                     لِطافاً مجاريها، غِرارَ المنابع
أجبْ أيّها القلبُ الذي لستُ ناطقاً
                    إذا لم أُشاورْهُ، ولستُ بسامع
وَحدِّثْ فانَّ القومَ يَدْرُونَ ظاهراً
                    وتخفى عليهمْ خافياتُ الدوافِع
يظُنّونَ أنّ الشِّعْرَ قبسةُ قابسٍ
                    متى ما أرادُوه وسِلعةُ بائع
أجب أيُّها القلبُ الذي سُرَّ معشرٌ
                    بما ساءهُ مِنْ فادحاتِ القوارِع
بما رِيع منكَ اللبُّ نفَّسْتَ كُربةً
                   وداويتَ أوجاعاً بتلكَ الروائع
قُساةٌ مُحبّوك الكثيرونَ إنَّهمْ
                   يرونكَ – إنْ لم تَلْتَهِبْ – غيرَ نافع






الخميس ١٥ ذو الحجــة ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / تشرين الاول / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة