شبكة ذي قار
عـاجـل










حين يتحدث أي الكاتب عن الديمقراطية .. عليه أن لا يغيب عن باله ثلاثة أشياء على أقل تقدير .. أولها : الحالة العامة ، وثانيهما : النضج الثقافي والحضاري، وثالثهما : المكون المتجانس أو المنقسم .. عندئذٍ سيدرك في الحال، أن ما يجري من انتخابات في انكلترا تختلف عن الإنتخابات التي تجري في مصر عنها التي جرت في العراق ، في ضوء الأبعاد الثلاثة أنفة الذكر.

وعلى هذا الأساس، فأن الأمر ينطوي على مقاربات مهمة قد يغفلها البعض حين يتحدث عن الديمقراطية والإنتخابات وكانهما، نهران يجريان مهما اختلفت الأرض، تضاريسها ومناخها وأجوائها وزخمها والمصادر التي تتحكم بها من منابعها إلى مصباتها .. كل ذلك يدخل في خانة التحليل المقارن الموضوعي، حتى لا يتداخل الزمان والمكان والحالة العامة التي تجمعهما على اساس خيار الموقف أو اختيار الموقف السليم من مفهوم الديمقراطية وطبيعتها من جهة، ووعائها الاجتماعي من جهة، وطبيعة المكون الأساس لعملية الإنتخابات التي تجري في تلك الساحة ,, لكي يكون الحديث عن الديمقراطية والإنتخابات والحالة التي تجمعهما في الزمان والمكان المعينين، موضوعياً ورصيناً .

وفي هذا المدخل لا اريد أن ادخل حقل المفاهيم التي تتعلق بالديمقراطية، لأن الجميع يعرف تقريباً، مفهوم الديمقراطية، ولكن البعض قد يفوته أن الديمقراطية ليست حصراً بالإنتخابات السياسية، إنما هي متلازمة مع التفاهمات والحوارات التي يشترط أن تجري على وفق أسس ومعايير ومنظومة قيم مشتركة يؤمن بها الشعب، وخلاف ذلك، فمن الصعب الحديث عن شيء اسمه ديمقراطية .

كما ليس في النية الحديث حصراً بالإنتخابات وتفاصيلها وآلياتها وطبيعتها وحاضنتها وتمويلها والإشراف عليها، والنتائج المستخلصة منها، في نزاهتها أو تزويرها واتساع قاعدة الإستقطاب الإنتخابي بوسائل غير مشروعة، لأن الحديث في هذا المجال، هو الآخر معروف تماماً ولا مجال لتكراره .. بيد أن صلب ما أود قوله يمكن حصره بما يمكن ملاحظته من باب المفارقات، التي فاتت على البعض دون أن يتفحص الأبعاد الثلاثة أنفة الذكر :

1- الديمقراطية ليست حالة عامة يمكن تطبيقها في كل حين وفي أي مكان .. فالديمقراطية  ( عند ) قبائل الزولو والتوتي ، و  ( عند ) الأسكيمو ومجاهل الأمازون .. تختلف عن الديموقراطية عند الأنكليز، وتختلف عنها عند الشعب المصري وكذلك الشعب العراقي.. والإختلاف يقوم ، ليس على ذكاء الشعوب بقدر ما ينصب على نضوج الثقافة أو النضج الثقافي للشعب وقدرته على قبول الآخر ومفاهيمه ومعتقداته وعاداته وتقاليدع وموروثه الثقافي والديني معاً .. ولا يرتبط الأمر بالحضارة، لأن حضارة وادي الرافدين هي أكثر عمقاً تاريخياً من حضارة الأنكليز وحضارة الأمريكان وغيرهم .. إنما يرتبط بنضج الثقافة الإجتماعية ، كما أسلفنا .. وعلى اساس ذلك، هنالك اختلافات طبيعية في النضج الثقافي لدى تلك المجتمعات .. فقبائل مجاهل أفريقيا والأمزون والأسكيمو، ومجتمعات انكلترا ومصر والصومال والعراق ، تختلف في فهمها للديمقراطية أو بالأحرى القدرة على هضمها واستخلاص نتائج تفاعلاتها في اطر، ليست شخصية، إنما اطر عامة ترسم المصلحة العليا للشعب أو للمجتمع على أساس قاعدة العقد الإجتماعي والموروث من ثقافات وقيم انسانية.

2- لم تخضع بريطانيا لإستعمار خارجي ، كما أن أمريكا كانت قد خضعت للأستعمار البريطاني وتحررت منه ، فيما خضعت مصر للإستعمار الفرنسي وتحررت منه، أما العراق فقد خضع للإستعمار البريطاني .. كما ويخضع الآن للإستعمار الأمريكي والإيراني معاً .. ولدى شعوب هذه الدول تجارب في هذا الشأن حتى وأن كانت اولية .

3- الإنتخابات البريطانية ، والأمريكية ، والمصرية جرت وتجري ليست تحت سيطرة الإستعمار .. ولكن العراق الآن تجري انتخاباته تحت ثقل الإستعمار الأمريكي والإيراني معاً ، وبوجود عسكري واستخباري ومليشياوي مكثف .. فهل يمتلك الشعب حريته الحقيقية في عملية انتخابات وطنية ؟!

4- الإستعمار الأمريكي يعاضده الإستعمار الإيراني تحت سقيفة  ( الإطار الإستراتيجي ) ، التي سلبت حرية الشعب العراقي وكرامته واستقلاله وسيادته .. هو الذي عَيَنَ الحكومة العراقية وأعضائها لإدارة ما يسمى العملية السياسية  ( Political Process ) في العراق ، وغرضها تمكين هذا الإستعمار من المحافظة على مصالحة التي جاء بعدوانه الغاشم من أجلها، واحتواء القوى الأخرى تحت مسميات ومفاهيم وفتاوى فضلاً عن التبريرات المختلفة، منها  ( .. لا يجب أن نترك الخصم وحده يستأثر بأصوات الناخبين .. وجودنا تحت خيمة العملية السياسية وتحت قبة البرلمان ضمانة لمراقبة ما يحصل في اروقته وابوابه المغلقة .. وجودنا في داخل العملية السياسية لمنع تمرير القوانين والتشريعات التي تضر بمصالح الشعب – والبرلمان قد مرر قانون الغاز والنفط واتفاقية الإطار الإستراتيجي - .. إلخ من الحجج والتبريرات الواهية التي لم تصمد امام الحقائق الشاخصة على الأرض ) .

5- فكيف يمكن أن تستوي الحالة البريطانية ، والمصرية أمام الحالة العراقية التي يرزح شعبها تحت ثقل الاحتلال الأمريكي الإيراني المزدوج ؟ ، ألم تكن العملية السياسية من صنع الاحتلال ؟ ألم تكن شخوصها معينون من لدن الاحتلال ؟ ألم يكتب الدستور العراقي في ضوء منهج الاحتلال ؟ ألم يكرس هذا الدستور الطائفية والعرقية ويعمل على تحويلها إلى واقع ملموس يعتمد الأزمات والشحن الطائفي والعرقي طريقاً في التعامل ؟ إين هي الديمقراطية الإنتخابية ؟ هل الديمقراطية الإنتخابية مجرد كثرة عدد الأحزاب والمنظمات، حتى بصيغة دكاكين ؟ هل في اليافطات التي تضم حشداً كبيراً من تجار المناصب ورواد المشاريع الوهمية وداعميهم من المرتزقة؟ هل الديمقراطية تعني هذا الحشد الضخم من الصحف التي لا تعد ولا تحصى، التي ما وجدت أصلاً إلى لتفريق وتمزيق الناس وشرذمتهم ومن ثم ضياعهم على طريق الكفر بالمقدسات؟ ألم يكن هذا هو الهدف من وراء الحشود الضخمة للمرشحين واليافطات والصور والإعلانات التي تبعث على التقيئ ؟

6- شاهدت انتخابات في إحدى الدول الغربية  ( أماكن محددة لوضع اكشاك للدعاية الإنتخابية لا تتعدى مساحتها مترين مربعين .. تتضمن مكتب بسيط .. وصور المترشح معلقة في هذا الكشك.. والكشك مزين بالمصابيح الهادئة الجميلة .. ويبعد كل كشك عن الآخر في منطقة معينة عشرين متراً وربما أكثر.. لا تجد صخباً ولا صراخاً ولا رقصاً، بل حوارات وموسيقى تنبعث من كل مكان ) وحين سألت أحدهم عن هذه الأكشاك وهذا الحشد..كانت الأجابة : إنها الترشيح لإنتخابات بلدية .!!

7- الاحتلال لا يسمح لأي عنصر وطني يعمل من اجل الوطن .. ولن يسمح بأن يطبق أي منهج وطني حقيقي في البناء الوطني .. ولن يسمح بأي قوانين تتعارض مع اللوائح القانونية والتشريعية التي جاء بها وكرسها من أجل تفكيك نسيج المجتمع العراقي طائفياً وإثنياً .. ولن يسمح في الحديث عن طموح الشعب العراقي في أن يحقق وحدته القومية .. ولكنه يغمض عينيه عن الجرائم التي ترتكب، والدماء التي تسفح، والمجازر التي لا تدانيها المجازر التي ارتكبت في العصور القديمة، والفساد والإغتصاب والقهر والتهجير.. هذا كله لا يعني الاحتلال ، ويبر ذلك أنه شأن داخلي، ولكن سابقاً وقبل الإحتلال في ظل الحكم الوطني كان الإستعمار الأمريكي يفتش عن مصطلحات مثل  ( حقوق الإنسان ، وحقوق الأقليات ، والديمقراطية، والديكتاتورية ، وشمال وجنوب ووسط ، واكثرية واقلية ، والنظام يشكل خطراً على جيرانه .. ألم تكن تلك هي المصطلحات التي سوقها الإستعمار الأمريكي قبل احتلاله العراق وتغاضى عن حقوق الإنسان بعد الاحتلال، بل على العكس بات في عرف سياساته، أن كل وطني يطالب بحقوق وطنية هو  ( إرهاب ) .. ألم يشرع ذلك في الدستور؟ ألم يكن سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع؟ ، فأين هي الديمقراطية؟ وأين هي الديمقراطية الإنتخابية، ومقارنتها بانتخابات بريطانيا وانتخابات امريكا على وجه التحديد؟ ، فهل هناك وجه للمقارتة بين شعبين احدهما يذهب إلى صناديق الإقتراع في ظل حكم وطني، وبين شعب يتوجه إلى تلك الصناديق تحت خيمة الاحتلال الأمريكي الإيراني المزدوج، ورقاب الجميع تحت رحمة سيف الطائفية والطائفيين والعنصرية والعنصريين ..؟ أين هي الديمقراطية أيها المنصفون ؟!






الاربعاء ٢٨ رجــب ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / أيــار / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د . أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة