شبكة ذي قار
عـاجـل










1-  يفصح الفكر الإستراتيجي الأمريكي عن مفهوم عسكري قديم يشير إلى ( .. أن آخر الحروب تجري الإختبارات حولها ) .. وهذه المقولة قد توقفت عند آخر دروس لأكثر الصراعات الكبرى امتداداً ، تعكس انعدام الرؤية في إدراك التهديد الطارئ، ولسنين يبدو أن آخر الحروب الطويلة هي الحرب الباردة .

 

ويضيف الجنرال الأمريكي "ديفد ديبتولا" ضابط مخابرات القوة الجوية الأمريكية، ( إن تقييم التهديدات يعد في غاية الأهمية لبناء الإستراتيجية، ولكن لدينا إستراتيجية تخلو من أي تقييم لحقائق التهديدات، التي تتعرض لها المصالح الحيوية الأمريكية، والتي تحتاجها الإستراتيجية العسكرية لغرض التخطيط ) .. وذلك في تصريح له نشرته الصحافة الأمريكية مؤخراً.

 

2-  كما يفصح المضمون .. إن الإنغماس في حرب ضرورة في أفغانستان وحرب غير ضرورية في العراق .. قد انتهى بنتيجة، أن أمريكا العسكرية لم تعد قادرة على أن تخلق جبهة حيال روسيا، كما كانت عليه أمام الإتحاد السوفياتي السابق في ظل أجواء الحرب الباردة.. وهذا المفهوم ينطوي على الإعتراف الصريح بأن أمريكا قد خرجت مهزومة من حربها غير الضرورية في العراق التي قصمت ظهرها سياسياً ومالياً واقتصادياً واخلاقياً .. ولكن هل هذا يعني انحناءها لإيران في العراق والمنطقة على حساب الدول العربية على وجه التحديد؟

 

الذي حصل : أن أمريكا هزمت في العراق،  وهي لم تعد قادرة على البقاء فيه فسلمت مقاليد الأمور إلى إيران لرعاية مصالحها النفطية في العراق مقابل اطلاق اليد الإيرانية الطائفية العنصرية في العراق والمنطقة .. والمقابل هذا رسمته اتفاقية أمنية حددت الأطار الإستراتيجي للتعامل في العراق بين أمريكا وإيران .. وعلى هذا الأساس تستجيب أمريكا لدواعي طلبات الحكومة الطائفية في بغداد للسلاح تبعاً للموقف ومدى تأثر الوضع لأي تعرض داخلي .. وهذا يعكس صفقات السلاح والذخيرة المزمع شحنها على عجل إلى العراق لغرض حماية حكومة المنطقة الخضراء الصفوية من السقوط.. فيما تغض أمريكا النظر عن صفقات السلاح الروسي بقيمة أكثر من أربعة مليارات دولار، كانت أسرع في مجال تسليمها من أجل قتل الشعب العراقي .. ومن هذا نستنتج أن السلاح الأمريكي والروسي يقعان في خط  توافقي واحد يستهدف قتل الشعب العراقي وتدميره لحساب إيران ومصالحهما في العراق والمنطقة .. وإلا ما معنى أن تسارع أمريكا بفتح عنبار أسلحتها تحت تصرف حكومة طائفية عنصرية تعيش أفكار القرون الوسطى ؟!

 

فهل توقفت الحرب على العراق منذ عام 1991 مروراً بعام 2003 وحتى الآن؟ والجواب على ذلك .. انها لم تتوقف ولكنها اتخذت صيغاً مختلفة .. فقد كانت حرباً مباشرة تحولت إلى حرب بالإنابة .. أمريكا تحارب الشعب العراقي بإنابة إيرانية واضحة ، وما حكومة المنطقة الخضراء الدمية إلا بيدقاً مزدوجاً أمريكياً- إيرانياً يطبقان اتفاقية الأمن التي تمخضت عن الإنسحاب الأمريكي الشكلي من العراق لكي تتولى الإنابة الإيرانية الهيمنة عن طريق القتل والتدمير والتشريد .

 

3-  الوضع الأمريكي بعد الهزيمة في العراق، أرغمها على أن تعيد صياغة دورها الإستراتيجي، وتلمع وجهها المكروه في العالم، وتتدارك انهيارات الداخل، وخاصة العمل السريع على وقف تداعيات الوضع المالي والإقتصادي، وتفاقم الحراك الاجتماعي بالضد من السياسة الخارجية الأمريكية التي تتبنى خيار الحرب بدون مبرر.. فما الذي حصل :

 

أولاً- تخلت أمريكا عن توسيع حلف شمال الأطلسي في القوقاز وآسيا الوسطى.

 

ثانياً- كما تخلت عن خطط إقامة درع صاروخي مضاد للصواريخ في أوربا الوسطى والشرقية.

 

ثالثاً- خفضت من وجودها العسكري في مناطق مختلفة من العالم.. منها منطقة الخليج العربي، تحت مسمى تخفيف الكثافة العسكرية في القواعد -  خوفاً من ردود فعل انتقامية أو ثأرية إذا ما اندلعت حرب في المنطقة -  وإيجاد المعادل في القوة، بمعنى بدلاً من الجنود تعزيز قواعد الصواريخ ( باتريوت ) .

 

رابعاً- أرجأت ربط بعض الدول العربية بحلف شمال الأطلسي، وهو القرار الذي تبناه مؤتمر أنقرة لحلف شمال الأطلسي عام 2010.

 

خامساً- خفضت أعداد مقاتليها في أفغانستان تمهيداً للإنسحاب في منتصف عام 2014.

 

سادساً-  خفضت انفاقاتها العسكرية.. وستقلص حجم الجيش الأمريكي ومشاة البحرية الأمريكية بحلول عام 2019.

 

سابعاً- أهملت أمريكا قضايا مهمة وملفات ساخنة منها القضية الفلسطينية باعتبارها مرتكز الصراع العربي- الإسرائيلي في المنطقة .. وقد لعبت إيران دوراً تخريبياً مقصوداً ومخطط له في تكريس واقعين جيو- سياسيين يتمثلان بالضفة الغربية وقطاع غزة ، وهي محاولة قذرة لتقسيم الشعب الفلسطيني وانهاء مقاومة أكثر من ستين عاماً قدم الشعب الفلسطيني الكثير من الشهداء على طريق التحرير.

 

ثامناً- لم تعد الإستراتيجية الأمريكية لعام 1980، التي كانت تؤكد على قدرات شن حربين في آن واحد .. فهي الآن ، في ظل أوضاعها الداخلية ومحدداتها، لا تستطيع أن تستخدم القوة بدون تفويض.

 

تاسعاً- تزايد دور الدولة في الاقتصاد الأمريكي في صيغة تشريعات تنظيمية، فيما يحصد برنامج الرعاية الصحية والاجتماعية الأمريكي ما نسبته 16% من الناتج المحلي الإجمالي.. وهذا يعني إنكفاء الدولة الأمريكية صوب معالجة اوضاعها الداخلية بتراجع منظم .

 

4-  هذا الواقع يعكس ملامح ميول إنعزالية يكشفها السلوك السياسي الخارجي الأمريكي.. فالدول معنية بأهداف سياستها الخارجية وكذلك الداخلية على حدٍ سواء، ومن غير المنطق علمياً أن تكون السياسة الخارجية على حساب السياسة الداخلية، وهذا ما ظهرت ملامحه في الميل نحو الداخل لمعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية قبل أن تتفاقم وخاصة ( التراكم الكبير من اعداد القتلى في الجيش الأمريكي في حروب عبثية جيرت لوكلاء اقليميين .. فضلاً عن الخسائر الفادحة في الأموال على حساب دافع الضرائب الأمريكي الذي انحدرت ضماناته الصحية والاجتماعية إلى درجات كبيرة مع تزايد البطالة وارتفاع معدلاتها تحت خط الفقر ) .. هذا الميل نحو الداخل تظهره القيادة الأمريكية الحالية بثوب أسمته تغيير في ادوات الإستراتيجية الأمريكية وتحولاً من الأداة الحربية الخشنة إلى ألأداة الدبلوماسية- الإستخباراتية الناعمة .. وهي مصطلحات ذات تعبيرات مكابرة تحاول أن تغطي الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها أمريكا ضد الشعب العراقي على وجه التحديد، وضد الشعب العربي بشكل عام .

 

5-  تدرك أمريكا ان المجال الحيوي الروسي، وحدود هذا المجال، ومدى خطورته على الأمن القومي الروسي.. كما تدرك روسيا في الوقت ذاته حدود المصالح الحيوية الأمريكية ومدى خطورتها .. بمعنى أن المجال الحيوي للقوتين العظميين لا احد يجادل أو يضع مقاربات تمس وضعهما الجيو- إستراتيجي ..  فأوكرانيا تقع في المجال الحيوي الروسي، وان الضغط الأوربي الأمريكي يعمل من اجل جذب أوكرانيا إلى ( حلف شمال الأطلسي ) ، وأوكرانيا تعتبر، كما أسلفنا في المقال السابق، العمود الفقري للمجال الحيوي الروسي، الذي يصعب سلخه من هذا المجال صوب الناتو .

 

6-  الأمر الذي يعني .. إن انظمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي من الناحية الجيو- استراتيجية ، أن حدود الحلف تقترب كثيراً من العاصمة موسكو .. الخطر الجيو- استراتيجي هذا يشكل مدخلاً لموقف اخطر قد تتخذه موسكو لمنع قضم مجالها الحيوي بالتدريج.!!

 

7-  وسياسة القضم هذه جاءت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وانهيار جدار برلين وتوحيد المانيا، ثم تفكيك يوغسلافيا وتقسيم تشيكوسلوفاكيا، والعمل يجري لجذب دول المنظومة الإشتراكية ( دول حلف وارسو ) عن طريق قضم المجال الحيوي وحرمان روسيا من قدراتها في بناء القوة .

 

8-  الذي يحكم الفعل الروسي هما عاملان، الأول: الخوف من اشتعال فتيل العنف الديني والعنصري في داخل روسيا وفي الدول التي تقع على خط مجالها الحيوي، وخاصة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق التي تعول موسكو على جذبها الى دائرة تأثيرها.. وإن وقوفها خلف إيران يستهدف هذا المغزى، فيما يعبر قلق موسكو من اقتراب امريكا من ايران، ووضعها في دائرة الخيار السياسي، إما الملف النووي أو موسكو ، لأن أمريكا لن تتخلى عن إيران الشاه وإيران خميني وإيران خامنئي وأي زعيم إيراني قادم .. وهذا ربما تدركه موسكو .. لماذا ..؟ لأن إيران تبقى دولة عازلة أمام موسكو تمنعها من الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي حيث منابع النفط كعامل يغري صانع القرار بالزحف حيث تستدعي الفرصة المواتية لفرض سياسة الأمر الواقع .

 

9-  إن ملامح الحرب الباردة في خضم هذا الكم الهائل من الأحداث وردود الأفعال، فضلاً عن المتغيرات السريعة التي شملت مناطق ذات اهمية اقتصادية واستراتيجية، مثل ( الشرق الأوسط ) و ( آسيا الوسطى ) و ( بحر قزوين ) وخطوط النفط والغاز.. هذه الملامح لا تعبر عن أهم أعمدة الحرب الباردة ألا وهو الإستقطاب الدولي.. والإستقطاب في هذه المرحلة لم يكن استقطاباً آيديولوجياً، بمعنى انقسام العالم أو صيرورته كتلتين تتصارعان ( رأسمالي وإشتراكي ) أو ( معسكر شرقي ومعسكر غربي ) ، إنما سيأخذ الصراع مساره بين ( شمال صناعي و جنوب نامي ) أو ( عالم ثالث ينتج المواد الأولية وعالم رابع عَبَرَ خط الإنتاج البدائي ) بمعنى استقطاب ( Geo- Economic Polarization )

 

 وهو الإستقطاب الجيو- سياسي، بمعنى تجمعات نظم سياسية - اقتصادية تحاول أن تتبنى الـ ( Polarization )  لتحمي نفسها في اطار ( كارتل ) اقتصادي، طالما بات الكارتل الإقتصادي - العسكري الغربي يفرض تحكمه في مفاصل وحدات الإنتاج الإقتصادي، حتى في وسائل الإنتاج المتطورة، الأمر الذي سيحفز، خاصة الدول التي تخطى انتاجها عتبة العالم الثالث وباتت في وضع التصنيع الإنتاجي الذي يعتمد خطاً رابعاً، والذي يسمونه بالعالم الرابع النامي.. ولكن طبيعة الرأسمالية وهي تغذي دوافع الهيمنة والتسلط ونهب ثروات الشعوب، قد دفعت الدول للدخول في أطر اقتصادية- حمائية، مثل دول مجموعة ( بريكس ) ، وهي الدول التي تحتاج إلى وقت طويل لكي تتخلص من آثار التعامل السلبية الناجمة عن أنماط التعامل الرأسمالي المضرة باقتصاداتها، فضلاً عن التخلص من ثقل المديونية الخارجية من جهة، والقيود الاقتصادية المفروضة عليها من لدن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على حدٍ سواء .

 

إذن .. إن حالة الإستقطاب في أفق المستقبل لا تتعدى الإستقطاب الـ ( جيو- إقتصادي ) بأي حال .. فيما يستمر الصراع والتنافس والفهم المشترك للقضايا ذات المصالح المشتركة قائماً مع مراعات المسائل ذات الخطوط الحمراء .!!

 

تمت ...







الخميس ٢٤ جمادي الثانية ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / نيســان / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة