شبكة ذي قار
عـاجـل










كان البعث عندك نقطة البداية وهدف النهاية، لا لتعصُّبٍ بل لأنك اعتقدت فيه خلاص الأمة العربية من المحيط الى الخليج، وليس أكثر دلالة من ذلك أن الكثيرين من الأعداء أرادوها أقطاراً تتمزقها الأهواء من دون هوية عربية ووحدة سياسية، بل أرادوها أقطاراً تتسابق إلى استهلاك ما لا تنتج، وتأتمر بأوامر عمالقة التجار والصناعيين في العالم.


ظافر لقد رسمت معالم شخصيتك البعثية بنفسك، بدأتها بهتاف (أنا عربي) الذي اعتقدت أنك من دونه ستكون مجهول الهوية من دون قيد، وسلكت طريق النضال منذ نعومة أظافرك البعثية لكي تبني ثقافتك لبنة لبنة. وهكذا كانت البداية، بداية ظافر المقدم، فاعتبرتها الأساس لرسم طريق النهاية.


لم أتعرَّف إليك منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي في ندوة أو حوار، بل عرفت فيك اللولب المتصاعد، عرفتك في خندق الكفاح المسلَّح، تكون حيثما تتساقط قنابل العدو الصهيوني سواء أكان في مخيم فلسطيني أم حيثما تدمِّر موقعاً للمقاومة، أو تقصف وتخطف لتزرع الرعب في نفس جنوبي اتَّخذ المقاومة طريقاً لتحرير فلسطين، أو تجد نفسك بين جماعة تغيث عائلة من تحت الركام، أو في جماعة تأوي من نزح من بيته، أو في جماعة تعمل من أجل بناء الملاجيء أو المستوصفات. هكذا يا رفيقي شققت طريقك نحو البعث.


لقد التقيتك يا رفيقي في مخيم النبطية، وفي تلال العرقوب، وفي كفركلا، وفي مخيمات الفلسطينيين. التقيتك حيثما كان للنضال معنى وجدوى ...


ولأن الحزب كان يناضل على جبهتين استراتيجيتن: معركة تحرير فلسطين كقضية قومية، ومعركة المواجهة مع النظام الطائفي السياسي، فقد وجدتك حيثما كان الحزب ينخرط في تلك المواجهة جنباً الى جنب أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية. وفي هذا الجانب كنت حيثما انخرطت الجماهير اللبنانية في مواجهة مع النظام لانتزاع حقوقها المهدورة والمسلوبة. ومن أجل ذلك كنت الرائد في معركة مزارعي التبغ، التي من أجلها زُّجَّ بك في سجن الرمل مع رفيق دربنا موسى شعيب، حيث هناك في السجن استلهم قصيدته المشهورة المعنونة (إلى ظافر)، تلك القصيدة التي طالما كانت تمثل عندك وساماً من الفخر، الأمر الذي دفعك الى أن تعلقها في صدر منزلك أينما رحلت وحيثما حللت...


على الرغم من لقاءاتنا في كل مكان، لم أكن في ذلك الزمن الباكر، أقرأ فيك، ما قرأته عند عدد قليل من المناضلين. لم أكن أقرأ فيك الرغبة في تخزين التجربة النضالية وتحويلها الى معدن ثقافي. وقد قرأتها فيك لاحقاً، أي بعد مرور ما يناهز السنوات العشر، فكانت لقاءاتنا المتكررة كل يوم، وتعرَّفت إليك بعمق أكثر، ولذلك قصص نضاليةأرى من واجبي أن أرويها:


في تلك الفترة كنا معاً، في العام 1982، بعد الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان ومساحات أخرى من لبنان، وصلت الى مشارف بيروت قبل احتلالها وانسحابها السريع منها تحت وطأة المقاومة. والتقينا في بيروت لسنوات قليلة بسبب هجرتي إليها. حينذاك، بصفتي مسؤولاً عن فرع الجنوب، حملت مشروعاً تفصيلياً صغناه معاً ورفعته لقيادة الحزب، وكان يتعلق بتنشيط خلايا حزبية لمقاومة الاحتلال. ومن خلال هذه المهمة عايشتك بشكل يومي من أجل التنسيق بالإعداد والإشراف وما يتطلبه تنفيذ العمليات العسكرية ضد قوات العدو المحتل.


أذكر في تلك المرحلة أن كوكبة من البعثيين الأبطال كانوا يتوافدون إلى بيروت يدفعهم الحماس الوطني للمشاركة في القتال، لذا فقد أصبح لدينا جهاز يقاتل، وجهاز احتياط نعود إلى تكليفه كلما شغر موقع أو استجدَّت مهمة. في تلك المرحلة كنت تتوق شوقاً للنزول إلى الميدان، وكان القلق يؤرق جفونك، وتبقى قلقاً، حتى يصلنا نبأ تنفيذ العملية، ويملأ نفسك الفرح خاصة إذا عاد أفراد المجموعة سالمين.


في تلك المرحلة عايشتك بشكل يومي وبدأت أكتشف فيك الأنموذج الذي صغته لنفسك، فقد كان مخزونك النضالي يعزِّز مخزونك الثقافي، والعكس صحيح أيضاً. فظافر الذي لم ينل من العلم درجات عالية، فقد حاز على درجات عالية من الثقافة. وكانت سمات ثقافتك قد بدأت بتحويل تجربتك النضالية إلى مخزون ثقافي أخذ يتفجَّر ويأخذ طريقه في مهماتك النضالية التالية، خاصة مرحلة السنوات العشر قبل وفاتك.


لقد أتقنت يا رفيقي سمات العمل الجبهوي ووسائله من خلال مواقع قمت بإشغالها في فترات متفاوتة:


-الأولى: منذ التجربة الجبهوية الأولى في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، في مؤسسات القوات المشتركة لأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية.


-الثانية: كنت حريصاً منذ بواكير إنشاء المقاومة الوطنية اللبنانية على أن نتواصل مع كل من ىمن بالكفاح المسلح طريقاً لتحرير لبنان، بل كنت تلاحق كل حزب أو فصيل من أجل التنسيق والمشاركة في عمليات مشتركة ضد العدو الصهيوني. بل كنت حريصاً على أن لا تستثني أحداً حتى ممن كنت على خلاف سياسي معه قبل الاحتلال. ولهذا نسجنا حلقة من الأحزاب والقوى تتعاون وتتكاثف وتتبادل الخبرات والسلاح بين رفاق من الأحزاب المختلفة من الذين جمعهم رابط المقاومة.


-الثالثة: وهي تجربة ما بعد احتلال العراق، إذ قمت مع عدد من رفاقك، واستجابة عدد من الشخصيات الوطنية والسياسية، بدعم من بعض الأحزاب الوطنية، بتشكيل (الهيئة الوطنية اللبنانية لدعم المقاومة والشعب العراقي). وهذا بالإضافة إلى نشاطك وحركتك الدائمة والمتواصلة بالتواصل مع أحزاب وحركات وقوى العمل الوطني، وخاصة بعد إشغالك مهمة (مكتب العلاقات الوطنية) بعد العام 2005. في تلك الفترة كنت تتحمل يومياً مشاق الانتقال اليومي من الجنوب إلى بيروت لتُبقي صلة العلاقات دائمة ومتواصلة مع الأحزاب والحركات والقوى التي تغرِّد خارج سرب قوى الطوائف السياسية. وكنت ما أتمنى عليك دائماً أن ترحم نفسك وأن تأخذ فسحة من الوقت لمراجعة الأطباء حيث كانت إرادتك تأبى أن يعوقك المرض عن أي شيء عدا مواصلة النضال. فكنت تبتسم وكأنك تقول: إن جمود الحركة، حتى لمداواة المرض، هو موت حتمي. وما وزن مرض الشخص إذا استراح بينما أمته تئن من أمراض وأمراض.


لقد كان يُخيَّل لمن يتابع مسيرتك اليومية أنك تريد أن تضع في قلبك وعقلك وحركتك كل قضايا الأمة على الطاولة دفعة واحدة، وتحرص على أن لا تفوتك شاردة أو واردة من تلك القضايا. بينما كانت قضيتا العراق وفلسطين تشكلان أكثر الجروح النازفة في قلبك. بلى لقد شكَّلا الجرح النازف فعلاً لما وُضعا على طاولات اللئام من أجل تبديد الاهتمام بالقضية القومية الشاملة، إذ كانتا مهمازاً لضمير المجتمع الدولي، ولا أقول الأنظمة الدولية.
 

ظافر يا رفيقي الراحل


قلما كنت ألمس فيك الميل للراحة الشخصية، بل كنت تجد أن راحتك لا تكتمل إلاَّ بوجودك بين من تأنس إليهم في سهرة حوار أو في ندوة أو مؤتمر. فأنت كنت حركة دائمة لا تستكين للراحة الشخصية أو لهمٍّ شخصي.


بعد هذه الرحلة الطويلة والتجربة النضالية العميقة ومخزون تلك التجربة أتساءل: لولا أن الله عز وجل هو الذي أمر بالموت، لكنت تراني ناقداً ومحتجاً على أن يرحل الإنسان الذي اغتنى بتجربته وأغنى بها تاريخ مجتمعه الذي نشأ فيه.


يا رفيقي


وإذا كنت قد رحلت وتركت الغصة في قلوبنا، سنحافظ على قيمة تجربتك وفوائدها ودروسها، وعلى ثراء معالم ما قمت بتسطيره في حياتك. أنت لست إلاَّ عضواً في مؤسسة حزبية ستحافظ على ذكراك وتعتز بها، وأنت إنسان عايشك الكثير من الرفاق الذين سينقلون تجربتك كل من زاوية التجربة التي كان يشاركك فيها.


أما أنا، الذي عرفتك منذ ولادتك في البعث، وعايشت شبابك فيه وكذلك كهولتك، وفي مختلف المواقع، ستراني وفياً لتلك المراحل كلها وسأرويها للبعثيين معتزاً برفاقيتك إضافة إلى صداقتك الشخصية.


ظافر

يا أيها الراحل عن هذه الدنيا، سيبقى موقعك لك حتى وإن رحلت، فيا نعم البعثي الذي يرحل ويترك أثراً، فكيف بنا إذا ترك لنا آثاراً؟
 

 





الثلاثاء ٥ ذو القعــدة ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / أيلول / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة