شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

 كيف يصنع قرار الحرب ، وقرار التهديد باستخدام القوة ؟ ما هي عناصره ؟ وما هي شروطه ومعطياته ؟ ثم ، ما هي موجباته وإمكاناته وقدراته ، والظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط بصناعته ؟!

 

فعلم السياسة يشير إلى أن القوة تساوي المعطيات الثابتة مع المعطيات التاريخية لتصب في الذهنية الإستراتيجية، لتقوم الإرادة السياسية في استخدام القوة .

 

لم يأت صنع قرار التهديد باستخدام القوة من فراغ، إنما يأتي في إطار معطيات تستوجب اتخاذه على درجة من ضرورات الموقف الطارئ، فضلاً عن اشتراط أن يكون التهديد مقبولاً داخلياً وخارجياً ، متوازناً بين الإمكانات والقدرات والاحتمالات المتوقعة.

 

إذن .. هنالك عددا من المحددات، التي تعالج موضوع التوقيت وردود الأفعال، والإمكانات والقدرات الخاصة بالتنفيذ، ومشروعية التهديد، وفيما إذا كان منطقياً ومقبولاً يستند على حجج وقرائن، ويتماشى مع القوانين والأحكام الدولية ؟!

 

دعونا نفَصَلْ هذه المقدمة المكثفة، التي تصب في قرار "أوباما" توجيه ضربة عسكرية محدودة ضد سوريا :

1-  موجبات صدور قرار التهديد باستخدام القوة الأمريكية متوفرة، وهي، استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي ضد الشعب السوري، وضحايا هذه الاستخدام ( 1429 ) مواطن مدني سوري .

 

2-  يشترط النظام الدولي أن لا يكون استخدام القوة عملاً انفرادياً يقوم به أحد الأعضاء، إنما يكون استخدام القوة بناءً على قرار تصدره أعلى سلطة دولية، وهي مجلس الأمن الدولي وفقاً للميثاق وعلى أساس قواعد القانون الدولي .

 

3-  مجلس الأمن معطل بالفيتو الروسي والصيني، الأمر الذي يجعل المشكلة السورية خارج نطاق العمل العسكري  من جهة، ويضعها في دائرة استمرار مسلسل العنف والتصعيد دون حلول مرتقبة من جهة ثانية، فيما جاءت مسألة التفويض لتنفيذ قرار التهديد باستخدام القوة، لاعتبارات تقع في مقدمتها تراجعاً تسويفياً بسبب :

 

أولاً- عدم اكتمال ( الشراكة الإستراتيجية ) لتنفيذ التهديد، وذلك بسبب الموقف البريطاني، الذي رفض الانجرار إلى الحرب ( الضربة ) ، الأمر الذي تسبب في فجوة إستراتيجية يصعب على واشنطن ردمها أو تعويضها .!!

 

ثانياً- إفساح المجال للكيان الصهيوني في أن يستكمل إجراءات الدفاع والتعبئة، في ضوء ردود الأفعال الانتقامية المتوقعة.. وهذا ما يقوله البعض، وأرى أنه تسريب إسرائيلي، لأن أي فعل عسكري في المنطقة لا يتم إلا بالتشاور بين واشنطن وتل أبيب .

 

ثالثاً- مستجدات قد تكون بلغت دائرة صنع القرار الأمريكي باتت تضغط باتجاه إعادة النظر بحسابات واشنطن السياسية والعسكرية على وجه الخصوص، مبعثها الواقع الإقليمي الضاغط .. وهذا ما يقوله البعض، وأرى أنه تسريب إيراني .  

 

رابعاً- مستجدات قد تكون ذات بعد دولي مبعثها موسكو، تؤشر نقلة إستراتيجية روسية تتجاوز الجيو- سياسة الإيرانية صوب ميناء بندر عباس الإيراني بالقرب من منابع النفط في الخليج العربي .. وهذا يصطدم بمبدأ كارتر ( Carter Doctrine ) ، الذي يؤكد على أن أي اقتراب أو تعرض لمنطقة الخليج العربي يعد تعرضاً للمصالح الحيوية وللأمن القومي الأمريكي، وذلك في متلازمة إستراتيجية غريبة ليس لها مثيل في الفكر السياسي الإستراتيجي .. وهذا أيضاً يقع في إطار رؤية التخطيط الأمريكي، طالما الأمر يتعلق بواقع الحدث بالقرب أو على حافة الخليج وتخومه القريبة .. وموسكو تدرك ذلك جيداً حتى منذ زمن الإتحاد السوفياتي .

 

خامساً- رغبة " أوباما " الذاتية في أن يسجل لنفسه موقفاً يتسم بروح السلام حتى اللحظة الأخيرة من استخدام الوسائل السلمية لفض النزاعات، وهذه الرغبة تصطدم بما يسميه الخبراء الأمريكيين بالمصلحة القومية العليا والأمن القومي الأمريكي، طالما باتت الحالة تهدد هذه المصالح .. ويبدو أن هاجس الخبراء الأمريكيين هو أمن الكيان الصهيوني، وليس حلفاء أو أصدقاء أمريكا في المنطقة .. كما يذهب البعض إلى أن " أوباما " جاء إلى البيت الأبيض لإخراج أمريكا من ورطة الحروب وليس إلى إدخالها فيها .!!

 

سادساً- رغبة " أوباما " في توزيع مسؤولية قرار الحرب بين أركان إدارته ومنها على وجه التحديد الكونغرس الأمريكي، في الوقت الذي يمتلك التفويض الكامل لقرار الحرب دون الرجوع لطلب التفويض من الكونغرس .. والغاطس في الأمر هو التسويف وإبقاء الملف السوري ساخناً في المنطقة، إذ ليس من المصلحة الأمريكية غلقه لصالح الشعب السوري وقواه الوطنية تحت مزاعم عدم إعطاء الفرصة لقوى التعصب، تنفيذاً لسياسة ( لا غالب ولا مغلوب ) .

 

إذن .. هنالك مأزق ( Dilemma ) تعيشه إدارة " أوباما " على صعيد السياسة الخارجية ، ليس في مسألة تنفيذ تهديدها باستخدام القوة لأنها رسمت بكل دقة هذا التهديد ( ضربة محدودة لا تقوض نظام الأسد بل تبقيه ضعيفاً حتى يستهلك نفسه وجيشه بنفسه مهما طال الزمن ) ، إنما في مسألة تشير إلى أن أمريكا لم تعد قادرة على أن تحشد أو أن تحقق ( شراكة إستراتيجية ) كما حصل في عام 1991 و عام 2003، ومع ذلك فأن تراجع أمريكا في استخداماتها الإستراتيجية، من إستراتيجية ( حربان في آن واحد ) إلى ( حرب ونصف في آن واحد ) إلى ( ضربات صاروخية محدودة ) تتساوق مع ( ضربات جوية بدون طيار ) ، ولأن نمط الحروب قد تغير تماماً من حروب نظامية إلى حروب مليشيات لا تتماشى في عقيدتها القتالية مع عقيدة الجيوش النظامية ، فأن نمط التفكير الإستراتيجي قد اخذ، إضافة إلى عوامل عديدة، مجراه في التعامل في ضوء الإطار العام لنظرية ( الفوضى المسيطر عليها ) .!!

 

يقول البعض أن أمريكا ما تزال القوة الكبرى والوحيدة في العالم وعلى عاتقها تقع مسؤولية إحلال السلم والأمن الدوليين، ولكنها تقف عاجزة عن تنفيذ تهديداتها، بسبب قصور في حساباتها الإستراتيجية المبنية على حسابات خاطئة وفهم خاطئ لواقع الصراع في المنطقة .

 

ملاحظات ومؤشرات :

أولاً- إن مسألة التهديد باستخدام القوة ترتبط، كما أشرنا إليه، بالقدرة على تنفيذ التهديد .. وأمريكا لديها تلك القدرة وعلى درجة كبيرة ومؤثرة، ولكنها مقيدة بمحددات معروفة، قد لا تعيقها في التفتيش عن مدخل للتنفيذ إذا تحققت لديها ما يسمى بـ ( الشراكة الإستراتيجية ) للعمل العسكري.

 

ثانياً- إصدار قرار التهديد باستخدام القوة كان ينبغي أن تسبقه حسابات ( الشراكة الإستراتيجية ) ، التي لا تستطيع أمريكا أن تنفذ تهديدها من دونها، وهذا ما لم يحصل، إذ برز الموقف البريطاني رسمياً بعدم الاشتراك في الحرب، وميل فرنسا الواضح باتجاه دعم المعارضة السورية، وهنا ينطوي الموقف الفرنسي على التراجع الضمني عن لعبة التهديد باستخدام القوة ضد دمشق .. فهل وقع "أوباما" في مأزق الحسابات الخاطئة ؟ ، فالمعروف بشأن القرارات ذات الطابع الإستراتيجي التمكن من تحديد الأهداف – الواضحة والدقيقة والمتوازنة والمقبولة داخلياً وخارجياً – كما يتوجب التمكن من تحديد أدوات التنفيذ والوسائل التي تعني بالتنفيذ ومنها على وجه التحديد الشراكة الإستراتيجية – .

 

ثالثاً- طلب " أوباما" التفويض هو محاولة للخروج من موقف عدم حصول استجابة لـ ( شراكة إستراتيجية ) من لدن الحلفاء الغربيين وفي مقدمتهم بريطانيا ثم فرنسا التي ألمحت إلى أنها تميل إلى دعم المعارضة السورية ، فيما أخذت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي على عاتقها إعداد مسودة مشروع من شأنه تأجيل الضربة المرتقبة إلى ما بعد شهرين قابلة للتمديد شهراً أخر .. وكل هذه التسويفات، عبارة عن محاولات التملص من قرار اتخذ بدوافع لم تدخل حسابات الفعل وردود الأفعال، لتجر الموقف النهائي إلى طاولة المفاوضات في جنيف، حيث التسويات بانتظار كافة الفرقاء المعنيون بالمشكلة السورية .. أما الضربة فستبقى خياراً محدوداً مقيداً بعدم السماح لفعاليات عسكرية أمريكية بالانتشار على الأرض السورية .!!

 

رابعاَ- الحشود العسكرية الأمريكية قد حققت انتشارها في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ومداخل الخليج العربي، إضافة إلى استنفار واسع النطاق بانتظار أمر التنفيذ، الذي تحول إلى الكونغرس ثم إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، لتدفع بالقرار إلى ثلاثة أشهر قابلة للتمديد .. أليس ذلك جزء من لعبة تعكس اضطراباً في الحسابات السياسية ؟ هل غير حلفاء أمريكا شراع التهديد الأمريكي باستخدام القوة صوب طاولة جنيف التفاوضية؟ وهل فوجئت أمريكا فعلاً بمواقف شركائها الأساسيين في الناتو؟ وماذا بشأن الحشود والانتشار العسكري في المنطقة ، هل تبقى نحو ثلاثة أشهر أو تزيد، وكلف الانتشار معروفة ؟

 

خامساً- والأغرب في الأمر أن الموقف الروسي كان ساكناً، إذ لم ترسل موسكو سوى سفينة استقصاء معلومات استخبارية إلى البحر الأبيض المتوسط قبالة السواحل السورية .. وحين سؤل "فلادمير بوتن " حول الضربة المتوقعة هل سترد بلاده عليها أجاب، أنه قد لا يعارض الضربة إذا ثبت أن نظام دمشق استخدم السلاح الكيمياوي، وعلى أن يكون ذلك من خلال مجلس الأمن الدولي .. ومثل هذا الرد الدبلوماسي الذي يرجع القضية إلى مجلس الأمن الدولي، لن يغير من الأمر شيئاً ما دام الفيتو الروسي قد أغلق الباب على أي قرار من شأنه أن يعلن الحرب.. فيما يبقى الخيار على الداخل لتسريع إسقاط النظام .. ومهمة الداخل الوطنية الاعتماد على القوى الذاتية وليس الاتكاء على الخارج لأي سبب أو مسوغ ، لأن الخارج لديه أجندته الخاصة وسياساته ومشاريعه المعادية .

 

سادساً- فإذا ثبت أن نظام دمشق يتحمل مسؤولية الجريمة ضد الإنسانية باستخدامه للسلاح الكيمياوي ضد شعبه – وهذا ما قاله بوتن – والذي يشك في ذلك، في إشارة إلى فبركات أسلحة الدمار الشامل التي أظهرت عدم صحتها في العراق، فهل أن تقرير فريق العمل لتقصي حقائق الكيمياوي في الغوطتين سيحدد قرار موسكو بتمرير الضربة المحدودة أو استخدام الفيتو من جديد؟!

 

سابعاً- هناك صراع قوى على الساحة السورية بين قوات نظام دمشق وبين قوى متعددة، بعضها وطنيون معتدلون، والبعض الآخر أمميون متعصبون .. فهل يريد "أوباما" أن يحافظ على سياسة ( لا غالب ولا مغلوب ) حيال هذه القوى المتصارعة، على الرغم من عدم التكافؤ في القوة ؟ وهل أن الحالة القائمة تستوجب إضعاف الأسد وترجيح التيار الوطني السوري المعتدل وكبح جماح التيار الأممي المتعصب؟

 

فالحالة متحركة، والصراع ساخن، وتداخل الخنادق قائم، ونزيف الشعب العربي السوري مستمر والمجازر تحدث يومياً .. فكيف يمكن الوثوق بحالة التوازن .. إضعاف قوات النظام واستنزافها وإضعاف التيار المتطرف، وإبقاء التيار الوطني المعتدل يراوح مكانه .. هذا هو المشهد الذي تريده أمريكا ؟ .. والسياسة الأمريكية ما تزال ترجح إبقاء الحالة قائمة تحت خط ( لا غال غالب ولا مغلوب ) ، كما حصل على المستوى الإقليمي، حين كانت إيران تشن حربها العدوانية على العراق، أبقت أمريكا دعمها العسكري لإيران مستمراً بهدف إطالة أمد الحرب، ثم أعلنت أنها تتبع سياسة لا غالب ولا مغلوب، فيما كانت تمد إيران بالأسلحة والمعلومات العسكرية والإستخبارية .

 

أمريكا لا يمكن أن تكون نزيهة وعادلة، لأن سياساتها تقوم على توظيف الأحداث والصراعات والتناقضات وتحويلها إلى أوراق للضغط والتدخل.. فإذا كانت الحسابات غير دقيقة، وإذا كانت الحالة التي يراد معالجتها جدية، وإذا كانت قراءة الواقع مشوشة، وإذا كانت كلف النتائج أكبر من الهدف، وإذا كان المجهول يقبع خلف الأحداث .. فكيف يمكن الوقوف على حساب حدود المجازفة والوقوف على حقيقة معادلة الصراع من زواياها المختلفة .. فالحرب لن تقوم و ( الضربة ) متفق عليها، وسياسة ( لا غالب ولا مغلوب ) سياسة أمريكية لا تغلق ملفاً في معادلة الصراع .. ولكن ، إنها حياة الشعوب أيها القتلة !!

 

 

 





الاربعاء ٢٨ شــوال ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / أيلول / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة