شبكة ذي قار
عـاجـل










جميل جداً أن نستذكر سيرة رموزنا ومفكرينا وعلمائنا وقادتنا لأنهم تراث أمة ووطن، ولكننا يجب أن ننقل إلى الأجيال المقبلة صورة دقيقة لتلك السير، فالعبرة أن تصل المعلومات عن أولئك الرموز والمفكرين والعلماء والقادة ناصعة لا شائبة فيها صريحة ودقيقة إلى الأجيال المقبلة.


والواقع، إني أقدر ما يكتبه أ.د. قاسم حسين صالح وهو يستذكر ما تختزنه ذاكرته عن الكبار، وأستمتع به، وأفيد من بعضه، ولكني أجد بين طياته الكثير مما يسيء لمن يكتب عنهم والكثير من الكلام غير الدقيق، وهو ما ينافي الصفة الأكاديمية التي يسبق بها اسمه.


كتب أ.د.قاسم حسين صالح مقالة عنوانها "علي الوردي.. الساخر الفكه"، انحاز بها إلى نفسه محاولاً الإيحاء بأن مكانته كانت كبيرة وأكثر فيها من مدح نفسه، وأنا لا اعتراض لي على ذلك ولا أستنكره، لأن الحكم للقارئ على ما يقرأ، كما لن أتعرض في هذه الأكتوبة إلا إلى بعض ما يخص الدكتور علي الوردي حصراً مما عايشته.


يقول صالح: إنه كتب دراسة عنوانها (البغاء.. أسبابه ووسائله وتحليل لشخصية البغي) "وحين انجزت الدراسة، دعت وزارة الداخلية اكاديميين وقضاة لمناقشتها في ندوة خاصة بها بينهم الدكتور علي الوردي. وبعد انتهاء المناقشة سحبني الوردي من يدي (على صفحه) وقال لي: "دراستك هاي عن الكحاب تذكرني بحادثة ظريفة. في الأربعينات ناقشت الحكومة موضوع فتح مبغى عام في بغداد، وعقدت لقاءً ضم كلاّ من الوصي ونوري سعيد ووزير الداخلية ووزير الصحة ومدير الأمن العام. فاتفقوا على الفكرة لكنهم اختلفوا على المكان، بين الباب الشرقي وساحة الميدان. وكان بين الحاضرين شخص مصّلاوي يجيد فن النكتة فقال لهم: ان افضل مكان للمبغى هو الميدان والما يصدّق خل يروح يسأل أمّه!".


ويضيف: "ضحكنا.. وخاطبت عيناه عينيّ بتعليق: ماذا لو قالها احدهم الآن! لأفرغ مسدسه في قائلها والمبتسمين فيما الوصي ونوري السعيد ووزير داخليته ومدير امنه العام .. استلقوا على ظهورهم من الضحك!".


لا اعتراض لي على الرواية التي نقلها عن الوردي فإني سمعتها منه أكثر من مرة، ولكن اعتراضي على مجافاته للأسلوب العلمي في قوله وهو يريد النيل من النظام الوطني الذي كان قائماً قبل الاحتلال: "وخاطبت عيناه عينيّ بتعليق: ماذا لو قالها احدهم الآن! لأفرغ مسدسه في قائلها والمبتسمين". كيف يثبت لنا الأستاذ الدكتور قاسم أن عيني الوردي قالتا له ذلك؟ وكيف سنصدق بمن ينقل لنا لغة العيون حين يقول: "ففي ذلك الوقت كانت وزارة الداخلية ألقت القبض على أكثر من (300) بغيّ وسمسارة من عموم محافظات العراق تراوحت أعمارهن بين 17 إلى 55 سنة بينهن من لهنّ علاقات بمسؤولين كبار!".


إن حادثة إلقاء القبض على البغايا لا غبار عليها وهي صحيحة، وتم ذلك عندما كان السيد سمير الشيخلي وزيراً للداخلية، ولكن كيف أن بعضهن لهن علاقة بمسؤولين كبار ويلقى القبض عليهن؟ وهل لا شغل للمسؤولين الكبار في النظام الوطني إلا إقامة العلاقات مع البغايا؟


يا أيها الأستاذ الدكتور حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق لا عقل له!!
ثم يقول: "والوردي يجيد فن اختيار عنوان موضوعه ويعرف فن استخدام مقولة (العنوان ثريا النص)، فحين سألته عن بدايات حياته اختصر الاجابة بعنوان: (من الحمير.. الى الجامبو!)، وهذا عنوان مذكرات للوردي نشرتها مجلة التضامن اللندنية، وليست إجابة على حضرة الدكتور.


ثم يروي لنا في أكتوبته: (وكنّا نحرص في الندوات العلمية التي نعقدها ان يكون الوردي اول المتحدثين، فوجدت الرجل يتحدث لدقيقتين ثم يقول: "عذراً فأنا أعاني من وعكة صحية"، فهمست إحدى المرات في أذنه: "وعكة صحية لو أمنية"، فأجابني همساً "استر عليّ لا توديني بداهيه" .. أدركت بعدها انه كان يهرب إلى الوعكة الصحية لحظة تغصّ الحقيقة في زردومه وتريد أن تخرج، فالرجل كان مرعوبا "من صدام حسين، وله الحق.. فهو أسمه علي حسين الوردي وكظماوي وصاحب كتاب وعاظ السلاطين، واخطرها انه ابلغ بأن (السيد الرئيس غير مرتاح لما كتبته).


وانظر هنا كيف يعلل الأمور بأسباب طائفية الوردي أبعد الناس عنها كما عرفته، وكيف يُظهره عديم الشجاعة وهو الذي كان يصرح بآراء معارضة جداً لبعض توجهات النظام الوطني والاجراءات التي يتخذها والتي ذكرت بعضها في كتابي المشترك مع الدكتور حسين سرمك "الازدواجية المسقطة"، وهو موجود في الأسواق ويستطيع من يريد التثبت أن يراجع ذلك الكتاب.


ويقول: "ولقد كتب لي الاخ احمد السيد علي بان صحيفة امريكية اجرت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي حوارا مع الوردي حول الشخصية العراقية ، وانها كانت اجرت قبلها حوارا مع الرئيس صدام حسين عن الشخصية العراقية ايضا كان رأيه فيها مخالفا لتوصيف الوردي، وحين واجهته الصحيفة بذلك تملّص باجابة دبلوماسية بأن العراق في حالة حرب والقصد مختلف".


وهذه الواقعة صحيحة ولكن جواب الوردي للصحيفة كان: " إن السيد الرئيس ينظر إلى الأمر من وجهة نظر سياسية وأنا أنظر إليه من وجهة نظر علم الاجتماع"، وهو ما مثبت أيضاً في الكتاب المذكور.
وأضاف الأخ احمد بأن الوردي طلب السفر الى بولونيا بدعوة من جامعة وارشو وأراد تأشيرة الخروج ذيلها بالآتي : ان لم توافقوا فلا اريد جنازة رسمية بعد موتي.. وحقق صدام حسين طلبه. فحين توفي في 13 تموز 1995 لم يجر له موكب تشيع لجنازة رسمية تليق به كعالم كبير، بل اقتصر على المقربين فيما ودعه زملاؤه ومحبوه صمتاً.. وعن بعد!.


وأظن أن هذا النص الأخير مأخوذ من كتاب "في الطبيعة البشرية" للدكتور علي الوردي الذي جمعه سعد البزاز، وفيه معلومة مغلوطة فقد جرى للوردي تشييع مهيب في مدينة الكاظمية إلى مثواه الأخير في جامع براثا حضره الشاعر حميد سعيد وكيل وزارة الإعلام، في حينه، وعدد من المديرين العامين في الوزارة ومسؤولون محليون وعدد كبير من أبناء الكاظمية وبغداد كرخها ورصافتها، حتى أن الراحل العلامة الدكتور حسين علي محفوظ أعلن أمامنا في مجلس الخاقاني في الكاظمية أنه تمنى أن يحظى بتشييع كالذي حظي به الوردي.


فأين الصمت في تشييعه؟
ويقول الأستاذ الدكتور قاسم: "كانت آخر مرة زرته بها في بيته حين كان مريضا. جلست بجانب سريره المتواضع وتمنيت له الشفاء العاجل والعمر الطويل، فقال وهو يحدس أنها النهاية: (أتدرى ماذا يعوزني الآن : إيمان العجائز)، ولم افهمها إلا بعد حين. وأضاف مازحاً: " تدري آني ما احب الماركسيين.. بس ما اعرف ليش أحبك.. تعال انطيني بوسه".. قبلّته وكادت الدمعة أن تطفر.


وهذه إذا حدثت فهي من الأعاجيب فالوردي لا يحب أن يقبله أحد فضلاً عن أنه يقبل أحداً!!


وهذه حادثة أخرى يرويها الدكتور قاسم وكنت أحد شهودها والمسهمين فيها، فهو يقول: "ومن سخرياته الموجعة أن أقيم له قبيل أن يموت حفل تكريمي فبعث ابنه وقال من على المنصة: يبدو أن والدي لا يكف عن المزاح حتى وهو على فراش المرض.. فقد كلفني ان انقل لكم بيتا واحدا" من الشعر:
(جاءت وحياض الموت مترعة... وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل!).


أولا نص البيت الذي بعث به الوردي هو: "أتت وحياض الموت بيني وبينها... وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل"، وقد جاء بهذا البيت ولده الدكتور حسان فعلاً إلى القاعة، ولكني كتبت للدكتور حسان كلمة ضمنتها هذا البيت ألقاها في القاعة، وكان الوردي يقصد أنه يواجه الموت فماذا ينفعه التكريم؟ وقد نشرت له مرة تصريحاً في جريدة الجمهورية قال فيه إني وقد بلغت الثمانين من عمري لا أطلب تكريماً من أحد، وفي كتابي "من وحي الثمانين" يقول الوردي: (إني قررت أن أرفض أية دعوة للتكريم في حياتي لو فرضنا أنها وجهت لي لسبب من الأسباب، فأنا واثق أنها لا تنفعني شيئاً هذه الأيام الأخيرة من حياتي، فإن أي تكريم أو مكافأة أو شهرة ينالها الإنسان أواخر أيامه يصدق عليها قول أبي فراس الحمداني:


أتت وحياض الموت بيني وبينها
وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل
أما التكريم بعد الموت فهو لا ينفعني كذلك، فالإنسان الذي
يذهب إلى ربه بعد الموت سيان عنده أن يجري التكريم له في هذه
الدنيا أو لا يجري، لأن حساب الآخرة – كما أشرت إليه
آنفاً – يقوم على أساس غير هذا الأساس الذي اعتدنا عليه في هذه
الدنيا).


ثم يعود الأستاذ الأكاديمي ليوحي أن الوردي كان طائفياً، ويلوي عنق موضوعه لينسجم مع النعرة التي يريد بثها فيقول: "وللأسف.. فحتى مدينته الكاظمية لم تفه حقه.. مع ان فيها مسؤولين كبارا من ابناء طائفته.. بينهم نائب كان معدماً بنى على ضفاف دجلة من جهة مرقد الأمام.. بيتا لنفسه بملايين الدولارات!.


وهو يقصد، هنا، النائب بهاء الأعرجي.


ولا نحتاج إلى دليل يبرئ الوردي من الطائفية فهو قضى حياته في مناهضتها وتعريتها، بل والسخرية منها، وكان يربط بين العصبية لها والعصبية للقبيلة، ولكننا نأسف شديد الأسف أن ينحدر أستاذ أكاديمي إلى مثل هذا الخطاب المضر المضل.


إننا نعيش هذا العام الذكرى المئوية لولادة الراحل الدكتور علي الوردي وعلينا أن نوثق كل شيء عنه سلباً كان أم إيجاباً، فهو رمز عراقي عربي عالمي نفخر به وبفكره الذي يتجوهر في هذه الظروف العصيبة التي نعيشها الآن، ولا يحتاج الوردي لكي نبين عظمته أن نتعكز على الطائفية، بل بالعكس سنصغره بذلك، كما يحاول الطائفيون أن يسحبوا المكانة الكونية العظيمة للإمام الحسين عليه السلام فيعدونه رمزاً طائفياً صغيراً، فهم مثل من يحاول وضع جبل الهملايا في قنينة صغيرة.


فاتقوا الله في رموزكم وعلمائكم وكباركم

 

 





الاثنين ٢٧ رمضــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أب / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة