شبكة ذي قار
عـاجـل










المدخل :

يعد موضوع توازن القوى في العالم من أكثر الموضوعات، التي تؤشر الخصائص الأساسية لنظام العلاقات الدولية، ويعود السبب إلى أن التوازن يوفر العناصر الجوهرية التي يتطلبها تفسير مرونة النظام الدولي المعاصر .. بمعنى أن فكرة توازن القوى توفر الأسس التي يبنى عليها أي نظام شامل للعلاقات الدولية .

 

الافتراضات قائمة في أن بروز قوة كبرى في قدراتها وسلوكها السياسي الخارجي للهيمنة على النظام الدولي، يحفز إلى أو يُظهر تحالفات أخرى هدفها المحافظة على أمنها ومصالحها من خلال بناء قوة ونظام قوى مقابلة للتوازن مع تلك القوة التي تحاول السيطرة .. وعلى هذا النحو فأن القوى الكبرى والعظمى على قدر عالٍ من إدراك طبيعة التوازنات الدولية والإقليمية من جهة، وطبيعة المحاولات الرامية إلى السيطرة وتوسيع دائرة النفوذ على حساب محاولات التغيير الـ" جيو- إستراتيجية " لدول الميزان على وجه الخصوص من جهة ثانية .. فيما يؤشر بناء قوة مسيطرة ضمن النظام الدولي، حافزاً ضئيلاً، طالما أن مدركات الدول الكبرى الأخرى لا تسمح بمحاولات الهيمنة .. فقد حاول، في حقب التاريخ، على سبيل المثال لا الحصر " نابليون" وحاول " هتلر" فرض السيطرة على العالم، ولكنهما واجها تحالفاً مقابلاً أسقط محاولتهما، فتحققت هزيمتهما .

 

هذا الافتراض النظري والواقعي، لا يفسر تماماً نظرية توازن القوى تفسيراً أحادياً على أساس (ظهور القوة وتحالفات القوى المضادة لها) فحسب، إنما يعني أيضاً المحافظة على الأمن وتعزيز المصالح من خلال أطر التحالفات، سواء كانت هنالك تحديات قوة جامحة تهدد بإخلال التوازن أم لا . والمعنى في ذلك أن تحالفين قائمين أحدهما : من أجل حماية الأمن والمصالح . والآخر: من أجل منع القوة الجامحة من تحقيق أهدافها في السيطرة على النظام الدولي.

 

لقد تصورت الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها قوة عظمى، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في نهاية عام 1989، أن مركز القوة العالمية قد انتقل إليها، الأمر الذي جعل طريقة تفكيرها "السياسي- الإستراتيجي" تتصدر منهج تغيير العالم وخرائطه الـ" جيو- سياسية" ، وإطلاق تسميات ( القرن الأمريكي بلا منازع) .. كما أن أمريكا كانت، وربما حتى هذا اليوم، تعتقد بأن الطريق إلى السلام القائم على توازن القوى لا يدوم .. وهذا يعني أن نظام توازن القوى لا يعنيها، إنما تتركز كل اهتماماتها الإستراتيجية على نظرية القوة المهيمنة الوحيدة في العالم من أجل إقامة نظام دولي جديد يتماشى مع طبيعتها الرأسمالية، كما كان الإتحاد السوفياتي، هو الآخر يسعى إلى نظام عالمي جديد يتلائم مع منهجيته الأيديولوجية. والاختلاف واضحاً بين المسعيين جوهرياً .

 

إن عدم اعتراف أمريكا بنظرية توازن القوى، يعود لأسباب عديدة يقع في مقدمتها ثلاثة أسباب الأول : سعيها من اجل الهيمنة على العالم عن طريق القوة والتهديد باستخدامها . والثاني : خشيتها من تفكك مجتمعها الذي من الصعب صهره في بوتقة واحدة. والثالث: خوفها من انفراط ولآياتها اللاتينية الجنوبية التي تتطلع للاستقلال. ولكن بأفول الحرب الباردة أصبح توازن القوى يأخذ منحى التجريد النظري لا غير، بسبب من اللاواقعية التي فرضها منهج السياسة الخارجية الأمريكية على العلاقات الدولية بعد التخطيط الأمريكي للحادي عشر من سبتمبر- أيلول عام 2001، الأمر الذي جعل العالم يفقد واقعيته في مسألة الغزو الأمريكي غير المبرر للعراق، وهو الأمر ذاته بعد عشر سنوات من الغزو قد عجل في تبدل الواقع الدولي وتبدل منحى الواقعية نتيجة للمقاومة العراقية، التي حجمت منهج التفرد الأمريكي ودفعت به إلى الانهيار الاقتصادي والأخلاقي، اللذين أنتجا عدداً من الاعترافات بـ(أخطاء إستراتيجية) ارتكبتها الإدارات الأمريكيةً المتعاقبة، ولم تضع هذه الاعترافات صاحب القرار وطاقمه في دائرة المسؤولية القانونية كمجرمي حرب .

 

فالواقعية تفرض ظروف أو أن ظروفاً قد تجعل صانع القرار يلتفت إليها بواقعية، ينبغي أن تكون حقيقية لا ظرفيه محكومة بإطار لا يسمح بتحليل الظروف تبعاً لحقيقة الواقعية .. ومن هنا يبرز التضليل، لأن مصطلح توازن القوى لا يقتصر على تحليل العلاقات الدولية، إنما تحليل عناصر القوة أيضا .

 

إن اختلال توازن القوى الدولي والإقليمي، جاء نتيجة لنظام دولي فوضوي أو تشاع فيه الفوضى، وفي المقابل ثمة مقترب يحدد طبيعة التوازن وهو التضاد الذي ينشأ جراء النمو في عناصر القوة .. فكلما نمت هذه العناصر فأن النمو سيكون على حساب عناصر قوة أخرى تدفع نحو التحسب من نتائج اختلال الميزان .

 

وثمة ما تشير إليه الأوضاع الدولية، سواء كانت إقليمية أو دولية، هو أهمية إقرار القوى العظمى بمسؤوليتها الجمعية في المحافظة على نظام العلاقات الدولية، الأمر الذي يرتب إرساء توازن قوى والحفاظ عليه، لأن مجرد تصور توازن القوى بدون إطار ضابط يحكم اختلال التوازن ونتائجه على الأمن والسلم الدوليين، يجعل الأمر في هامشية يصعب السيطرة عليها .. ومن هنا فأن تعزيز نظام دولي مؤسسي يستند على قواعد القانون الدولي يعد ضمانة للاستقرار النسبي للعالم وللأمن والسلم الدوليين في آن واحد .

 

ومن الخطأ الاعتقاد بأن ظروف ما بعد أفول الحرب الباردة، والتي أخلت بتوازن القوى الدولي والإقليمي معاً، قد أعطت تبريراً مقبولاً لتفرد القوة الأمريكية في أن تسود وتتحكم بالنظام الدولي، لأن قوة عظمى وحيدة لا تحقق السلم والاستقرار في العالم إذا ما تفردت في فرض سياساتها الإستراتيجية، فيما يبقى العالم بكل قواه الأخرى العظمى والإقليمية مهمشة ومهددة بالحرب أو العزل أو الفرز أو الفوضى.!!

 

والحقيقة المؤكدة، التي غابت عن إدراك القوة الأمريكية، إن أحادية القوة هي بنية ليست مستقرة، وعدم الاستقرار، إضافة إلى عوامل أخرى، تدفع القوى العظمى إلى بناء قوتها من جهة وإلى تحالفات من نوع يعيد ميزان تعادل القوى المختل إلى وضعه الطبيعي النسبي ، ومبعث هذه الحركة هو ارتباطها بمعضلة الأمن والسعي الحثيث لتثبيت مقاربات تنافسية لهذه المعضلة .. كما أن من الخطأ الاعتقاد بأن أحادية القوة، هي بنية ثابتة ومستقرة وإن لاعب واحد يمكن أن يمتلك السلطة على لاعبين آخرين.!!

 

والتساؤل هنا، إذا كانت القوة بمعناها الواسع هي في أساسها نسبية، وهي كذلك، وخاضعة لمتغيرات ذاتية ولمتغيرات تحدث للقوى المحيطة، فهل أن نظام توازن القوى بحاجة إلى إعادة تشكيل دائمة أو كلما تطلب الأمر ذلك ؟!

 

ولا أظن أن نظام توازن القوى بحاجة إلى إعادة تشكيل دائمة تبعاً لمعطيات المتغيرات على صعيد تحولات القوة ذاتها (تصاعدها وضمورها) على المسرح السياسي الدولي والإقليمي، لأن النظام الذي يشكل توازن القوى يشترط الثابت في تحقيق التوازن، أما المتغير فأنه يخضع لعوامل ذاتية وموضوعية لا تؤثر في بنية نظام التوازن ذاته القائم على أساس ضمان جماعي للأمن والسلم الدوليين .. ولكن يبقى السؤال الأخير عالقاً .. وهو هل تستطيع هيكلية النظام الرأسمالي أن تتخلى عن الحروب والهيمنة، لكي يستقر العالم ويعيش الأمن والاستقرار والتنمية.؟!

 

 





الخميس ٦ رجــب ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / أيــار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة