شبكة ذي قار
عـاجـل










 شيء من الصمت قد يساعد على الحكمة ..  ولكن الحكمة قد لا تكون هي الصمت ذاته .!!

 

المدخل :

قرأت مقالاً في حلقات كتبها السيد "إبراهيم الزبيدي" في موقع "كتابات" بتاريخ 22/نيسان/2013، وآخر كتبه السيد "فاروق البياتي" بتاريخ 2/5/2013 تناولا فيها حزب البعث العربي الاشتراكي تشهيراً ينطوي على ضغائن ودوافع لا تتساوق مع منطق الأشياء ولا تتماشى مع حقائق التاريخ، الأمر الذي أدهشني مستوى التزييف وبراعة قلب المفاهيم وحجب الحقائق، دون اكتراث لمجراها الذي ما زال يحفر في قعر ذاكرة الشعب العراقي طوال عقود .

 

فقد استمرا وآخرون ، رغم عقود من حياتهم، يمارسون وتيرة النهش، التي اعتادوا عليها حين كانوا يجتاحون الشوارع وخلفهم حبال وبأيديهم كل ألآت القتل وسفك الدماء. يُذكِرونَ أنفسهم كم كانوا يمارسون أساليب لا تستقيم مع منطق الأشياء، ومنها تعليق الناس على أعمدة الكهرباء وسحل بعضهم في الشوارع، وقتل من لا يصفق، وأنا كدت أن أكون أحد الضحايا في شارع الرشيد ، نهاية شارع المتنبي، ولولا القدر الذي أنقذني من تلك الحبال اللعينة ودفع بي إلى قارب في أسفل النهر بالقرب من ساعة "القشلة" لأعبر إلى مقهى "البيروتي"، لكنت في عداد الغيب .. لا لشيء إلا لأني لم أصفق.!!

 

الحزن لم يكن من نصيب البعثي وحده على ضياع الوطن واغتصابه بوضح النهار،علانية وأمام مسارح العالم أجمع ، إنما الحزن من نصيب الشعب والقوى الوطنية والإسلامية جميعها، لأن الجميع هم في مركب العراق، عدا العملاء والمتساقطين والمرتزقة، والذين في قلوبهم مرض.

 

وحزن البعثي ليس على سلطة فقدها، لأنه ليس هو أساساً من طلاب السلطة، إنما هو مكافحاً ومناضلاً وجهادياً يقاتل بالسلاح وبالقلم من أجل حرية الكلمة وحرية الموقف وعدالة القضية، ومن يدرس تاريخ البعثيين يجد قصصاً وطنية وإنسانية لا تعد ولا تحصى .. أعرف عائلة أحد المواطنين العراقيين، ليس بعثياً ، كان  يكسب عيش يومه في (سكله – لبيع الحصران وأخشاب البناء وقطع خشب للمواقد، فضلاً عن بيع وشراء الأبواب والشبابيك القديمة المستعملة)، تقع في جانب الكرخ .. وحين اعتقلته السلطات في شباط عام 1959 لم يعد لعائلته من معين سوى الله وبعض العائلات البعثية يجمعون لعائلته أجوره الأسبوعية لكي تبقى زوجته وابنتيه على قيد الحياة .. كان تكافلاً اجتماعياً حقق تكاتفاً وتآزراً واستقراراً نفسياً للعائلات التي تتعرض لحملات القمع السلطوي .

 

مهمة البعثي كانت وما تزال، وطنية قومية وليست سلطوية، مهمته نضالية وكفاحية وجهادية، وليست من أجل السلطة، البعث يمكن أن يكون رقيباً صارماً في ظل أي حكم وطني يبني المواطن بناءً لا ينحاز في خياراته إلا للوطن، حكم وطني يبني الوطن على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، لا يفرق بين مذهب وآخر، بين ديانة وأخرى، بين قومية وأخرى.. والبعث يظل مراقباً أميناً وصارماً على أي نهج وطني، لأنه، مرة أخرى، ليس من طلاب السلطة فهو خيمة لكل العراقيين عرباً كانوا أم كرداً أم تركماناً ، مسلمين، سنة وشيعة، أم مسيحيين وغيرهم من المذاهب والأديان.

 

يقول أحدهم، إن البعثيين يشيعون بأن الشيوعي لا يصبح شيوعياً إلا إذا تزوج من أخته . والهدف من ذلك هو منع انتماء الشباب إلى الحزب الشيوعي . ويبدوا أن هذه الفرية تفسرها دعوات الحزب الشيوعي لسفرات (الرفاه) المعروفة والمفتوحة على نطاق واسع بين الشباب والشابات من أجل الكسب الحزبي، ليس تثقيفاً فكرياً وسياسياً، إنما عاطفياً ورومانسياً وجنسياً، ومن خلال ذلك تتم صفقة الانتماء الحزبي.. أليس هذا ما حصل منذ عام 1959 وخلال عقد الستينيات وإلى ما شاء الله ؟! ، وليس لحزب البعث من وصاية على طريقة الحزب الشيوعي العراقي في التحرك والكسب الحزبي بحال، ولكنه لا يقبل الافتراء عليه أبداً. 

 

يأخذ البعض على البعثي بأنه "مطارد ومدموغ بالإرهاب والقتل والفساد" .. نعم ، فهو مطارد لأنه يناضل ويقاوم الاحتلال الأجنبي، والمقاومة هي شرف للمناضلين، وتلك بديهية لم يدركها الخانعون الخائفون المذعورون، الذين يركضون وراء فتات موائد المحتل الغازي والذين يساعدونه على انتهاك محرمات ومقدسات شعبنا في العراق .. فالذين يمسحون أكتاف المحتل الغازي لا أحد "يدمغهم" بالإرهاب والفساد.. وما نراه الآن ومنذ عشر سنوات، ألم يكن فساداً مستشرياً بلغ عنان السماء وطفحت به الأرض، حتى النزاهة لم تعد نزيهة من رأسها حتى أخمص قدميها ؟ .. وأنا على يقين لو كان البعثيون فاسدين وخانعين، لما طاردهم الاحتلال ولما زجت بهم الطغمة الطائفية العميلة الحاكمة في السجون والمعتقلات، ولما أصدرت بحقهم قرارات الإعدام الجائرة .

 

البعثيون وطنيون، ولأنهم وطنيين فهم مطاردون ، والشعب العراقي كله من شماله حتى جنوبه يعرف جيداً من الذي وَحَدَ صفوفهم وطنياً وليس طائفياً أو عرقياً للدفاع عن العراق، ومن الذي دافع عن مكتسبات البلاد والعباد حين كان الخطر الإيراني داهماً، كما يعرف من بنى العراق ودفع به إلى مصاف الدول المتقدمة في الصناعة والزراعة والتعليم والثقافة والفن والأعمار والتعمير.. شعبنا يعرف ذلك تماماً، ويعرف ما حصل منذ الاحتلال حتى الوقت الحاضر .. نعم يعرف كل شيء، لا كهرباء ولا ماء ولا صناعة ولا زراعة ولا تعليم وطني ولا  صحة  ولا علم ولا علماء ولا بيئة صحية نظيفة .. بل على العكس تماماً يعرف أن في العراق فساد وانحطاط أخلاقي وقيمي وانهيار تربوي وانتهاكات إنسانية لم تشهدها بلدان أخرى .. ألم يكن هذا هو الفرق بين ما كان قبل الاحتلال وما هو بعده حتى اللحظة الراهنة ؟!

 

فكر البعث ليس منغلقاً أبداً، فلو كان كذلك لما طور حالة الانقلاب إلى ثورة ، التي لها مدلولاتها العميقة بتحويل الفكر النظري إلى واقع عملي ملموس في برامج ومشاريع إنتاجية تشمل وتتسع كل مرافق الحياة المدنية والإنسانية والعسكرية، من اجل الرقي بالشعب إلى مصاف الدول المرموقة والمهابة والمحترمة من لدن مواطنيها والمجتمع الدولي ودول العالم .. فلو كان منغلقاً وتعصبياً، لما حقق نتائج باهرة في حل مسألة القوميات في العراق بإعلان الحكم الذاتي للأخوة الأكراد ، ولما حقق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، التي كانت تضم بين ظهرانيها قوى اليسار ومن بينها الحزب الشيوعي العراقي، والقوى الوطنية القومية، والقوى الكردية .. بيد أن الحزب الشيوعي وكما كشفته الوثائق والحقائق قد نكث بوعوده وخرج على ما تم الاتفاق عليه، وأسس خلايا عسكرية بين صفوف القوات المسلحة العراقية .. هذا الأمر دفع الحزب الشيوعي العراقي إلى الخروج من الجبهة والاختباء ثانية في سراديب العمل تحت الأرض، بدلاً من المشاركة في بناء العراق وطن الجميع.!!

 

حزب البعث العربي الاشتراكي لم يكن تابعاً لأحد ، مثلما كان عليه الحزب الشيوعي العراقي وبقية الأحزاب الشيوعية العربية وغيرها تابعين آنذاك لنفوذ الإتحاد السوفياتي سياسياً وأيديولوجياً .. والتبعية لها نتائجها كما هو معلوم، فمن يتكئ على جدار هو ليس جداره، قد يتهدم في يوم ما، وهذا ما حصل حين انهار جدار "الكرملن" ، انهارت كل الأحزاب الشيوعية العربية وغيرها من حوله ، لكن حين أسقط نظام البعث من لدن الإمبريالية والصهيونية، عدوة الشعوب، لم ينهر حزب البعث العربي الاشتراكي، لا في العراق ولا في ساحات الوطن العربي، بل كان سباقاً في إطلاق شرارة المقاومة الرائدة منذ الأيام الأولى للغزو الإمبريالي الصهيوني الإيراني للعراق .. لماذا ؟ لأن البعث كان قد أعد العدة لتنظيم المقاومة بالرجال والسلاح ، وما تشكيلات (نواة) الحزب ذات الطابع العسكري قبل الاحتلال إلا خطوة على طريق المقاومة الوطنية الشعبية الواسعة، التي قلبت موازين القوى، التي يتذرع بها المرعوبون الاستسلاميون على أساس عدم التكافؤ في القوة ، رأساً على عقب، والنتيجة هي هروب القوة الغازية من جحيم المقاومة، التي كبدتها خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات والأموال، الأمر الذي أدى إلى انكفائها صوب الداخل ، وكل العالم يعرف ذلك .

 

لم يسقط حزب البعث العربي الاشتراكي بسقوط نظامه السياسي، كما لم يسقط في ساحات أمة العرب، وظل واقفاً شامخاً يتعامل مع الأحداث من مقتربات حيويته الفكرية والتنظيمية، متفاعلاً معها ومع معطياتها العراقية والعربية والإقليمية والدولية .. فلو تعرض أي حزب في العالم كما تعرض له حزب البعث العربي الاشتراكي، من مؤامرات واغتيالات قادته وعدوان إيراني وعدوان أمريكي أطلسي صهيوني وعدوان أمريكي بريطاني صهيوني فارسي، لتلاشى عن وجه الأرض .. ولكن حزب البعث ظل صامداً وعصياً على أعدائه الإمبرياليين والصهاينة وأتباعهم الصفويين .

 

لماذا ، ؟ لأن البعث عقيدة وفكر نابع من أرض الواقع العربي- الإسلامي، وليس طارئاً عليه أو متخلفاً عنه ، يقود الواقع ويحركه ولا ينقاد لمعطياته أو يستسلم .. وفكره هذا لم يكن إطاراً عقائدياً جامداً في قالب، ولم يكن مأخوذاً من واقع آخر لا يمت له بصلة غير المعنى الأممي .. وإن حركته سهلة وتجربته غنية لا تقوم على التجريبية بحال، لأن الواقع المعاش وقوانين حركته لا تفسح المجال لهذه التجريبية ، والفرق كبير كما هو معلوم بين التجربة والتجريبية .. تجربة البعث في العراق ناجحة وعميقة وثرية، ولولا الإمبريالية والصهيونية والفارسية الصفوية، لقطعت شوطاً رائداً على طريق النهوض الحضاري.

 

ومعلوم، أن مثل هذه التجارب تشكل خطراً على المشاريع الإمبريالية والصهيونية والفارسية .. وعلى أساس مبدأ المشتركات وضع أصحاب القرار في تلك المشاريع تجربة العراق في مرمى النار والحصار والعدوان، ولولا نجاح التجربة لما بذل أعداؤها جهودهم لإسقاطها ، ولتركوها تتهاوى مع الزمن.

 

والغريب في الأمر.. هو النظر إلى مسمى حزب البعث الحاكم في سوريا وكأنه هو ذاته حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، وتلك مغالطة فاضحة من كل الوجوه، لأن النظام في دمشق لا يمثل البعث أبداً كقيادة انحرفت عن المبادئ منذ منتصف الستينيات وخرجت عليها وتواطأت مع الحملة الأمريكية الأطلسية الصهيونية على العراق عام  1991في حفر الباطن، واصطفت مع دولة أجنبية هي (إيران) ضد العراق الدولة العربية، فكيف يكون الأمر حالة واحدة تمتد من دمشق إلى بغداد، ثم إن نظام دمشق يريد الشعب السوري إسقاطه، لأنه نظام دموي وطائفي، ونظام البعث العربي الاشتراكي في العراق أسقطه الاستعمار الأمريكي بالتعاون الصهيوني الإيراني المشترك.. فأين أوجه الشبه بين بعث العراق والأمة وبين بعث سوريا الذي يهادن "إسرائيل" على أرضه في "الجولان" منذ أربعين عاماً ؟ ، البعث في العراق لم يصبر ولم يغمض له جفن حتى حرر (الفاو) العراقية من المخالب الإيرانية الصفوية .. هنالك مثل شعبي عراقي يقول (( أكعد أعوج وإحجي عدل )) ، ولكن الذي نسمعه بين الفينة والأخرى كلاماً غير مسئول ويخالف الحقائق ويستغفل الناس وكأنهم لا يعرفون، وكأنهم في غفلة من الزمن .!!

 

ليس كل ما يقال نصيبه الإصغاء والتأمل والرجحان ومن ثم الثبات .. ولكن الحجة والمنطق العقلي وحقائق التاريخ هي وحدها التي تجعل للحديث ثقلاً ورجحاناً في كفة الحقائق التي لا يحجبها غربال.!!

 

 





الاثنين ٣ رجــب ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / أيــار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة